رواية سفينة نوح
الفصل الثامن 8
بقلم سلمي خالد ابراهيم
صلوا على الحبيب🤎🌻
( ليس ذنبك..!)
ذكريات..
نعم أناديكِ يا نفسي العزيزة،
لا تدعي أحد يكسرك مهما كانت مكانته، أو يدهس قلبك بالقسوةٍ والجبروت، أنت ذكريات نادر الشرنوبي لقد حصلتي على اسمه ولكن إياكِ أن تناولي شرف دناءة صفاته، إياكِ أن يتحاول قلبك الهين اللين لحجرٍ أشد قسوة..
أبسطي البساط وحلقي بأفق التسامح والرضا فلن تحصدي منهما سوى الراحة والسكينة.ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نظر نوح نحو سعدي الذي لا يزال يحاول الاتصال بسفيان ولكن دون جدوى، نفخ بحنقٍ من سفيان وتركه لهما فلن يستطيعوا البدء بالعمل بسببه، أو بالأحر هو لا يريد الجلوس معه بمفردهما، يكفي جلوس حميدة مع والدته فلولا الخوف عليها وخاصة أنتقاله الجديد لرفض بتصميمٍ أمام كلمة نوح، ولكن دائمًا الحظ يخدمه..!
لا يعلم لما الحظ يخدم المتعجرفين بينما يترك ذو نية طيبة يتلقون صفعات قاسية من تعسر الحال، زفر باختناقٍ يلقي الهاتف بعيدًا بينما تأمل نوح حركاته النافرة للجلوس معه، ليشعر بغصةٍ مؤلمة أصابته، ألهذه الدرجة هو سيء؟ دائمًا يستخدم فلسلفته مع الجميع لحل أي مسألة ولكن تأتي عنده وتتبخر الكلمات وكل شيء، لا يبقى سوى غصته من الماضي ورهابه من دخول أحد حياته.
نهض سعدي بانزعاجٍ واضح على معالمه يردف بنبرة جامدة:
_ أنا هنزل أشتري حاجة على ما سفيان يوصل.
استدار يواليه ظهره يتجه نحو الباب وما أن لمس بنانه مقبض الباب حتى سمع صوت نوح يردف باختناق:
_ أنا مش وحش أوي كده!
تجمد جسده سعدي للحظات، هل ما سمعه صحيح؟ هل يحدثه، استدار سعدي سريعًا يحدق به بتمعنٍ، بينما شرد نوح بنقطةٍ فارغة، يظهر أمام عينيه ذلك المسدس الذي صوب أتجاهه من خائن لا يمثل الشرف الباتَ، يبتسم بخبثٍ له ثم أطلق الرصاص عليه بالقرب من قلبه، لو كان عدوه لاستطاع النيل منه ببراعة ولكن بالحقيقة لم يكن سوى أقرب الأقرابون له.
أظلمت عينيه بشدةٍ يقبض على كفه بقوةٍ حتى شعر سعدي بوشك إنفصال أصابعه من شدة الضغط، راقب كل أفعاله تلك، يرى عاصفة الصراع الدائر داخله لينقلب حالة من الشعور بمرارةٍ إلى رغبة جامحة بالانتقام، أتخذ سعدي حاجز الصمت ولم يشء افتعال شجار وخاصة حالته التي باتت واضحة للعيان برغبته بقتل أي شخص.
أرتفع هاتف نوح بصوتٍ يعلن عن وصول رسالة، نظر لهاتفه قليلًا ثم أخذ نفسًا طويلًا لعل هذا الحريق الذي نشب يهدأ، أمسك بالهاتف ينظر للنص المكتوب، ابتسم بتهكم ثم نظر لسعدي يردف بجدية واضحة وكأن ما كان عليه ليس موجود:
_ خد ذكرى وفُلة يا سعدي ورجعهم للبيت هناك وخليك معاهم أوعى تسيبهم لحد ما أرن عليك.
قطب جبينه بدهشة، يحدقه بنظراتٍ متعجبة، ثم قال بعدم فهم:
_ ليه نرجعهم تاني؟
مسح نوح على وجهه ينظر في ساعته، ليردف سريعًا بتفسير مختصر:
_ نادر الشرنوبي عايز يخلص مني عن طريق بنته، وهو ليه نفوذ في البلد وصوته مسموع، ودلوقتي قدمنا نص ساعة وإلا هيجوا يلقوها عندي وألبس في قضية وإحنا مش ناقصين.
أومأ سعدي بفهمٍ، ثم أنطق نحو الباب يتخطاه سريعًا، يطرق على باب الشقة الأخرى، مرت خمس دقائق يدق بها الباب ولم يفتح أحد، فقط يستمع لصوتهم يقولون ( استنى ياللي بتخبط)
فتحت له ذكرى تنظر له باستفهامٍ، ليعلق سعدي بغيظٍ:
_ كل دا عشان تفتحوا!!
عبست ملامحها سريعًا، ترد بحنقٍ:
_ في إيه لكل دا..ما تراعي إننا لسه هنلبس هدومنا.
زفر بحنقٍ من طريقتها الباردة، ليهتف سريعًا بجدية محاولًا التحلي بالصبر:
_ تعالي معايا دلوقتي يا ذكرى ونادي قاربتك.. لزمًا نمشي.
رفعت حاجبيها بدهشةٍ، فمنذ لحظات كان رفض قاطع لمغادرتها، ولكن الآن يريدها تمشي، تخللها شعور بالغيظ من طريقتهم لتهتف بعندٍ واضح:
_ لا مش ماشية هو مش بمزاجكم أمشي يا ذكرى أمشي.. أقعدي يا ذكرى تقعدي..
_ نعم! لا هو مش وقت هبلك دا يا بت أنتِ خلصينا عايزين نمشي، نادي قاربتك دي ويلا.
شهقت بصدمةٍ من فظاظة حديثه، لتتضم ساعديها لصدرها، تبتسم ببرودٍ تعلق ببسمة صفراء:
_مش متحركة يا حضرة الظابط.. وياريت تتكلم بأسلوب أحسن من كده!
مسح يعدي على وجهه ينظر للساعة فوجدها مرت ربع ساعة، ليهدر بصوتٍ مغتاظ:
_ أخلصي أبو معاليكِ هيطب علينا ومش هنخلص منه وهياخدك وحلني بقى على ما يسيبك.
فرغ فاهها عند سماع اسمه، لتتبدل ملامحها لأخرى جامدة مردفة:
_ هنقعد هناك ولا هنرجع تاني؟؟
رمقها بنظرة متعجبة، يجيب بحيادية:
_ نوح لسه هيقولي بس شكلكم هتباتوا في شقتكم الليلة دي.
أومأت ببسمة ساخرة على حالها، فهي تهرب الآن من والدها الذي من المفترض أن تركض له، حقًا عجبًا على هذه الدنيا، استدارت تسير نحو الداخل، تردف بصوتٍ جامد وصل لمسمعه:
_لحظة هنادي فُلة وأجي.
تعجب من تبدل حالها، ولكن لم يهتم كل ما يهم أن يغادر بها الآن، وبالفعل أتت فُلة تحمل حقيبة ظهرها ليغادروا ثلاثتهم من العمارة، يتجهون نحو الشقة التي يقطنون بها للبقاء بها تلك الليلة، تحاول فُلة مواساة ذكرى ولكنها قررت الإنغلاق على نفسها، فلم تستجب لأي مما تفعل، لتتناهد فُلة بحزنٍ يكملان طريق العودة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بدأ يرمق سفيان بنظراتٍ حادة غاضبة، يشعر بالرغبة في قتله، ولكنه تماسك فهو من لحق بها ولولا ذلك لكان قد ذهب به إلى الدرك الأسود، بينما لم يرغب سفيان بالاقتراب، بل ظل صامتًا بعيدًا كي لا يشتعل الشجار بينهما مجددًا، أرتجف قلبه عندما رأى الطبيب يغادر الغرفة، فلم يخطر بباله غياب هند بتلك الطريقة على أنه سوء، أزدرد نادر لعابه بصعوبةٍ عندما نزع الطبيب قناعه الطبي يقف بعيدًا عنه، بينما الأخر كان يبحث عن أحد يخصها، وكأن تلك الفتاة يتيمة ألقت بالمشفى بعدما دفعوا الحساب ثم غادروا، علا صوت الطبيب بشفقةٍ على ما تمر به تلك الفتاة:
_ لا حول ولا قوة إلا بالله.. هي أهل البنت دي فين؟؟
زفيرٌ مختنق أطلق سراحه بعدما حبس أنفاسه لوقتٍ، ينطلق نحو الطبيب يردد بنبرة هادئة عكس هذا الإضطراب الذي حدث له:
_ أنا والدها.
نظر له بتقيّمٍ ثم ردد بنبرة خشنة قليلًا محاولًا ضبط أنفعالاته المغتاظة من بروده:
_ تمام.. بنت حضرتك كان عندها نزيف داخلي ولحقناه الحمدلله، بس للأسف الخبطة اللي جت في ضهرها سببتلها شلل نصفي.
جحظت عيني نادر بصدمةٍ مخيفة وقعت عليه، بينما تجمد جسد سفيان بصدمةٍ كمن تجمد بالقطبين، لحظات من الصمت مرت عليهما ليهتف سفيان بقلقٍ:
_ شلل دا سببه إيه؟
تأمل الطبيب طريقة سفيان القلقة، لتزحف بسمة آسفة على شفتيه يحدثه بنبرة أكثر هدوءًا:
_ للأسف في ضغط على الحبل الشوكي من غضروف اتحرك من مكانه، ودا سبب ليها شلل نصفي مؤقت بس محتاجة عملية سريعة عشان هنشيل جزء من الغضروف قبل ما يحصل تلف أكبر من كده والشلل وقتها هيكون أكبر وبعد العملية هتكمل علاج طبيعي وتأهيل وهتقدر تمشي.
صمت كلاهما بعد ما سمعاها، شعور سفيان بالأسى على حال هند وما وقعت به، فلن تجد حتى والدتها معها بعدما غابت بغيبوبة ولا أبٌ كان يعانفها منذ لحظات، نظر لهما الطبيب ثم قال بتعليقٍ صغير قبل أن يغادر:
_ أتمنى تاخدوا القرار بسرعة لإن الوقت مش في صالحكم.
نظر نادر نحو سفيان باتهامٍ واضح وكأنه هو من أوقعها بما حدث، بينما لاحظ سفيان نظرات ولكنه قرر المغادرة بتلك اللحظة فلن يستطيع مشاركة هند أي لحظة من هذه وخاصة عيني نادر اللتان تطلقان شرار على وشك الإنفجار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرقات قوية متتالية صدعات على باب أفزعت كلًا من حميدة وداليدا جعلت كلتاهما ينظران بتوترٍ، نهض نوح بهدوءٍ، متجهًا نحو الباب يفتحه بثباتٍ، ينظر بحدقتي هذا الضابط الذي لطالما كان يكره وجوده، تقدم الضابط منه، يعلو ثغره بسمة خبيثة وكأنه أخيرًا رأى أعداء نوح واضحين، ثم أردف بسخطٍ واضح:
_ المقدم نوح تسمحلنا نفتش بيتك؟
رفع حاجبه من سخطه الظاهر، ليردف ببسمة خبيثة، يتراجع للخلف خطوة، ثم رفع ذراعه يشير لهما بالدلوف، تأمل الضابط حركته وشعر بأن ما فعله ليس سوى إجراء أحمق سيبرأ نوح، ولكن بالنهاية لابُد من أن يقوم بعمله، أشار الضابط بيديه لدلوف العساكر ليبحثوا عنها وبالفعل دلفوا للداخل وسط نظرات حميدة المتعجبة، وقلق داليدا مما يحدث، رفع نوح رأسه ينظر نحوه ثم قال ببسمة باردة:
_ ليك وحشة يا وحيد..كان نفسي أقولك أتفضل بس معلش بقى هسيبك تعمل شغلك اللي بيبرأني وبيثبت كفأتي.. مش أنت برضو اللي قولت لـ اللوا ماجد أدخل القضية دي مع سعدي؟
غمز نوح ببسمة ماكرة، بينما حدجه وحيد بنظرة مغتاظة، يشعر بقلبه الذي أندفع بضخ دماء فتنفجر من رأسه من شدة الاحتراق، أتى العسكري يؤدي تحيته ثم قال برسمية:
_ مفيش حاجة يا فندم البيت فاضي.
_ تمام أنزل أنت.
تحرك العسكري من أمامه، بينما نظر وحيد بنوعٍ من الغضب المكبوت، يهمس بنبرة خشينة:
_ مسيرنا هنتقابل وهتقع.. السكاكين كترت حوليك يا نوح وبدل ما كنت أنا بقيت أنا ونادر الشرنوبي.
حدقه نوح بجمودٍ ثم أنحنى نحو وحيد بالقرب من أذنه يهمس بخبثٍ وقوة:
_ في المواقف اللي زي دي بركن الفلسفة على جنب وبحب أرد زي أي شاب مصري متربي في الحواري عين شمس.. عارف بيردوا يقولوا إيه؟
عقد وحيد ما بين حاجبيه، ليسترسل نوح بهمسٍ لا يصل لأذني والدته وحميدة:
_ طزين.. واحدة ليك والتانية أبقى وصلها لنادر ابن الشرنوبي وقوله نوح نصار بيقولك طز.
اتسعت عيني وحيد بصدمة من رده ولكن سرعان ما تحولت ملامحه لأخرى حاقدة تتمنى النيل منه، تراجع نوح ينظر لوجهه ليبتسم برضٍ عن ملامحه الملتوية بالغيظ.
أغلق الباب بعدما غادر، استدار نحو والدته ولكن اصطدم بأعين حميدة الفضولية التي هتفت برغبة جامحة في معرفة ما قاله جعل وجه وحيد يحتقن:
_ أنت قولتله إيه خليته هيتجلط وهو واقف كده؟
ابتسم على جملتها الأخيرة ولكنه ردد بهدوءٍ دون أن يفشي بما حدث:
_ ولا أي حاجة رديت عليه بكل تحضر يا مدام حميدة.
أنكمشت حميدة بضيقٍ من نعته لها بهذا الاسم، لتردف بنبرة عفوية:
_ لا بقولك إيه أنت ظابط عليهم كلهم إنما عليا أنا تبقى زيك زي سعدي.. أنت تقولي خالتي حميدة أو دودو.
_ دودو!!!!
علق باستنكارٍ من هذا الاسم، لترفع حميدة حاجبه بغضبٍ تغمغم بغيظٍ:
_ ومالها دودو يا مقصوف الرقبة؟!
للحظة شعر وكأنه يتحدث مع ذكرى، نعم هي بعفويتها وطريقتها الغريبة التي يحب دائمًا رؤيتها، لقد جذبته دون جهد، دون اصطناع بتقبله كإنسان عادي وليس مُعقد كما يعامله الأخرون، حتى والدته صدقت أنه معقد حقيقي ولم ترَ هشاشة كلماته ضعيفة يبرز بها أنه بالفعل معقد ولكن باطنه يصرخ ويخبرهم لاتصدقوا لستُ معقد بل مجروح مما حدث، فاق من شروده على صوتها يعاود منادته باسمه، ليهتف بهدوءٍ مغلف باللُطف:
_ مقصدش يا مدام حميدة.. أنا طبعي مش بنطق الكلام دا فغصب عني مش هعرف أقولك دودو وكده.
زفرت حميدة بضيقٍ، ولكنها لم تستلم لتهتف بنبرة هادئة نسبيًا:
_ خلاص قول خالتي زي الباقيين.
تنهد نوح باستسلام، محاولًا إسكاتها بتلك اللحظة حتى يحصل على رد مناسب، ولكنها لم تتركه بل اتسعت ابتسامتها تردد بحماسٍ:
_ طب يلا قولها بقى..
أتسعت حدقتيه بصدمةٍ، يتراجع للخلف خطوتين كي يفر منها ولكن حاصرته حميدة قائلة بشرزٍ يتطاير من عينيها:
_ هو أنت فاكر هتعرف تختمني على قفايا.. لا دا أنا مربية ظابط كان بيعمل حركات أصيع من دي.. أنطق يالا خلص.
كبحت داليدا ضحكتها، تحاول إبعاد نظرها عن نوح الذي يحاول الهروب منها ولكن كلما خطى خطوة تابعته حميدة لتمنعه، زفر بضيقٍ منها، ليهتف بتذمر حانق:
_ خالتي حميدة.. ارتاحتي؟؟
ابتسمت حميدة باتساع كأنها طفلة صغيرة، تومئ برأسها ولا تزال ترفق ابتسامتها الواسعة معها، تردف بصوتٍ راضي:
_ أيوة ارتحت.. أنت بقى كان هيجلك حاجة لو قولتها؟؟
ذم شفتيه بضيقٍ، وما كاد أن يتحرك لغرفته حتى علا صوت هاتفه باتصالٍ، عكس وجهته وعاد للدرهة مجددًا يمسك هاتفه ليرى من المتصل فلم يكن سوى سعدي، تعجب من اتصاله ولكن حسه الغريب شعر بوجود خطبًا ما، أسرع يرد وقبل أن يفتح فاه هدر سعدي بصوتٍ عالي:
_ تعالى بسرعة يا نوح في ناس غريبة هجمت على الشقة ذكرى وعايزين ياخدوها وأنا مش قادر عليهم لوحدي.
أنتفض في وقفته ليسرع في خُطاه نحو الباب ولا يزال الهاتف على أذنيه، حرك مقبض الباب سريعًا ليجد سفيان يقف أمامه بوجهٍ متعب، به كدمات زرقاء، نظر له نوح ثم قال وهو يسحب سفيان من يده بعدما أغلق باب الشقة:
_ كويس تعالى معايا.
_ يا ليلة أمي اللي مش بينلها ملامح.. ياعم عايز أرتاح.
رددها سفيان بانزعاجٍ وهو يركض خلف نوح نحو سيارته، لم يرد عليه وأسرع يشعل محرك السيارة، وما كاد سفيان أن يعلق حتى هتف نوح سريعًا مقاطعًا إياه بجمود:
_من غير رغي كتير.. هجموا على بيت ذكرى وعايزين ياخدوها وسعدي بيحاول يعطلهم.
أغلق سفيان فمه مرة أخرى، ينظر لملامح نوح الجامدة، يركز عينيه على الطريق بعدما أنطلق بالسيارة، ثم هبط ببصره نحو كفه ليجده يحرك خنصره بحركات اهتزازية سريعة حول عجلة القيادة، إزداد شكه فتلك الحركة دليل توتره الشديد كان يراها لديه عندما يخشى على أحد قريب منه، إذًا ذكرى أصبحت لها مكانه عند نوح؟؟؟
استنتاج غريب وصل له عقله، يريد سؤاله عنها ولكن نوح ماكر يستطيع التحكم بدرجة عليا في حركات جسده فلن يكشف بسهولة، لابُد من وضع خطة ليكشف مشاعر نوح ويعلم لماذا ذكرى؟ لا يمكن أن يكون حب من النظرة الأولى فهو لا يؤمن بتلك الخرفات، فكيف حب من النظرة الأولى ومعنى الحب الحقيقي يُبنى على ما مُنح ومَنح!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألمٌ قوي يضرب ظهرها وكأن هناك من يمسك خنجر يغرزه بها، تشنجات معالمها بانزعاجٍ بسبب هذا الشعور الكريه، تفتح حدقتيها بتشويشٍ واضح، نظرت حولها تتفحص المكان الذي تقبع به ثم نظرت نحو الباب الذي يُدفع للداخل لتدلف الممرضة بثباتٍ تحقن هذا المحلول بمادة كميائية غريبة، تأملت حركتها الهادئة ثم مغادرتها، ولكن شعرت بهزة حولها ثم ألم برأسها مدت يدها ترفعها فشعرت بالشاش أسفل أناملها، زفرت بتعبٍ مما حدث، لا تعلم أين والدها؟ وليتها لم تسأل فها هو يدفع الباب ليدلف لها، نظرت له بخوفٍ واضح، تحاول النهوض لتفر هاربة ولكن بسمة نادر الساخرة علت ملامحه يردد بنبرة جامدة:
_ مش هتعرفي تهربي ولا تجري تاني ارتاحي.
قطبت جبينها بتعجبٍ منه، ظنت أنه سيحبسها فأسرعت تردد بإعتذارٍ، تحاول السيطرة على تلك الرجفة التي أصابتها:
_ والله يا بابا مش هتتكرر تاني بس أرجوك بلاش حبس.
رمقها بنظرة جامدة، يتأمل ملامحها المتعبة، نظراتها الخائفة بشدة، وجنتيها المليئة بالخدوش، ثم قال بجمودٍ:
_ الحادثة أثرت على رجلك يا هند وحصل شلل.
رمشت بأهدابها عدة مرات تحاول أستيعاب كلماته المسمومة، ما الذي يقوله؟ عن أي شلل يتحدث، ازدردت لعابها تهمس بكلماتٍ متقطعة:
_ حضرتك زعلان مني وعشان كده بتخوفني بس أنا كويسة صح؟؟
استدار نادر دون أن ينظر لها، لايريد رؤية ضعفها بتلك الطريقة، حاولت النهوض لملاحقته ولكن ألم ظهرها فاق كل شيء لتصرخ بألمٍ شديد عينيها تفيض بالدموعٍ غزيرة:
_ لا متسبنيش وتمشي قول إنك بتعاقبني بس دا مش حقيقي.. طب أحبسني في أوضة ضلمة أنا موافقة ومش هتكلم تاني والله.. بس متقوليش كده عشان خاطري.. دا أنا بنتك..
اهتز قلبه من حديثها، لو قُتلت الإنسانية فلن تموت الأبوة، تحرك مغاردًا الغرفة لا يريد الخوض في تلك التجربة وسماعها مجددًا، لا يريد رؤيتها بهذا الضعف، لا يريد مواجهتها بحقيقة لن تتغير، أغلق الباب خلف بسرعة وهو يستمع لصوت صراخها برفضٍ لخروجه، تريد عودته لينفي ما قاله عنها، يشير لممرضة تسير أمامه يهتف بنبرة تغير ثباتها والجمود الظاهر بها:
_ أدخلي لـ...
صرخة متألمة عنيفة يتبعها صراخات متتالية قوية منها، ليركض نحو غرفتها بقلبٍ مرتجف، فتح الباب ينظر لشكل هند.. مُلقاه على الأرض بعشوائية مؤلمة، تبكي بعنفٍ مع صراخها بالألم الذي لم يهدأ بل يزداد قوة وبشاعة، مشهد لم ولن يُنسى أبدًا، شهقت الممرضة بصدمةٍ ثم ركضت تنادي رفاقها ليساعدوها بوضعها على السرير، وبالفعل أتى عدد لا بائس به من الممرضات ليساعدوها، بينما بقى نادر يتأمل شكلها المُلقى على الأرض، ولم يعد يفكر بشيء سوى ذكرى.. هي السبب بما وقعت به شقيقتها وزوجته..!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
أندفع أحد الملثمين نحو سعدي الذي يقف خلف طاولة مقلوبة على جانبها، ولكنه سقط جثة هامدة أرضًا بعدما أفرغ مسدسه به، تأمل سقوطه ثم عاد ينظر لباقي الرجال الملثمين الذين يمتلكون الرصاص الكافي لقتله، ضغط على الزناد محاولًا التصويب عليهم ولكن لسوء الحظ لقد نفد الرصاص منه، اتسعت عيني سعدي بقوةٍ يشعر بتأزم الموقف، لو لم يحضر نوح بأي لحظة ستذهب ذكرى معاهم، تقهقر للخلف ببراعة بالقرب من باب الذي تختبئ خلفه ذكرى وفُلة، يحاول إعادة الاتصال بنوح مجددًا ولكن شعر بخطواتٍ تقترب منه ليترك هاتفه سريعًا وينظر نحو القادم فلم يكن سوى أثنان موجهين فاه المسدسه نحوه، ابتسم سعدي بتوترٍ يتمتم بقلقٍ:
_ عيب يا رجالة تتكتروا على واحد من غير سلاح مش أصول مجرمين.
نظر كلاهما البعض ثم سحبوا المسدس بعيدًا، ابتسم سعدي بانتصارٍ، وما كاد أن يتحدث حتى فُتح الباب من خلف تصرخ ذكرى بقوةٍ وتضرب باليد الأخرى هذا الرجل، انتفض سعدي من مكانه يدفع نحوه ولكن يد هذا الملثم القوي لكم سعدي بقوةٍ جعلته يفترش الأرض يتأوه من قوة لكمته، شهقت ذكرى بصدمة وقبل أن تدرك ما يحدث كان يدفعها بقوةٍ نحو الخارح نظر الأخرين لبعضهما ثم تحرك معه.
حاولت دفعه أو زحزحته عنها ولكنها تفشل، قوتها لم تساعدها أبدًا في حماية نفسها، انحنى ذلك الملثم قليلًا ليرفعها بين يديه ويدفعها داخلها ولكن انتفضت ذكرى بقوةٍ تبتعد عنه كمن لدغها عقرب، تردد برجفة:
_ أنا هطلع بس أرجوك أبعد.
تأمل حركتها ورجفة جسدها فابتعد قليلًا مانحًا إياها القرار، ليتكوم جسد ذكرى داخل السيارة، دلف خلفها يجلس جوارها بينما رافقه هذان الملثمين، وانطلقت السيارة بعيدًا، ظلوا أكثر من نصف ساعة حتى أصبحت الصحراء تحيطهم غير اتجهه وأصبح يسير بالصحراء حتى أصبح بمنتصفها، أوقف سيارته ثم أستدار أحد الملثمين من المقعد الأمامي نحو ذكرى، رفع المسدس بوجهها قائلًا بمكرٍ:
_ سيد نوح.. ليس هناك داعي للتمثيل.. أنزع هذا القناع.
نظرت ذكرى بطرف عينيها عليه، بينما تأمل نوح حركتهم ونزع قناعه لتظهر ملامحه الجامدة، اتجه فاه المسدس نحو نوح ليسترسل ذلك الغريب بكلماتٍ تحمل أحجية:
_ هل تظننا أغبياء لتتصنع هوية أحد رجالنا، حقًا أنت ماكر ولكن لا يهم ففي النهاية لقد حصلنا على ما نريد.
أشار بحدقتيه على ذكرى التي انكمشت على نفسها تمسك بطرف قميص نوح لعله يفعل شيء، شعر نوح بها ليضم شفتيه بغضبٍ عله يحكم لجامه، ثم منح لشفتيه الإفراج سريعًا يردد بلهجة انجليزية التي يتحدثون بها ولكن نبرته كانت مثل الثلج بارد:
_ لماذا هي؟ قضيتكم معنا؟
قهقه هذا الغريب عقب كلماته، يشير نحو ذكرى معلقًا:
_ ومن أخبرك أن القضية تخصكم من الأساس.. هي تخص ذكرى فقط وأنت العقبة الوحيدة!
نادر الشرنوبي.. هذا هو التحليل المنطقي لما يحدث، صمت نوح دون الرد عليه، بينما أتى اتصال لهذا الغريب ليجيب بكلماتٍ مقتضبة حتى أنهى الأتصال، ترجل من سيارته ثم اتجه نحو الباب الذي يجاور ذكرى قام بفتح ثم حاول أمسكها ولكن يد نوح كانت أسرع منه لتمنع كفه من الوصول إليها بل وأصابته بكسرٍ، ليصرخ الأخر بقوةٍ بعد اندفع الألم دفعة واحدة ليده المكسورة، نظر نحو نحو بشرزٍ، ثم رفع مسدسه باتجاه ذكرى يردف بحدة:
_ ترجل من السيارة وإلا أفرغت الخزان برأسها.
غادر صديقه الثاني السيارة يسحب نوح خارج دون عناء بعدما استسلم له، في حين ترجلت ذكرى عندما أشار بمسدسه الموجه عليها أن تغادر، وقف كلًا من نوح وذكرى جوار بعضهما، بينما الملثمين يقفان بمواجهتهما، ليرفع ذلك المنكسر كفه مسدسه بيده السليمة نحو نوح ليطلق رصاص خدشت ذراعه دون أن تدلف.
صرخت ذكرى بقوةٍ تضع يدها على فمها بعدما أغرقت الدموع وجنتيها ترتخي قدميها لتجلس على الأرض بإهمالٍ بينما بقى نوح ثابتًا دون أن يهتز ولا حتى يصدر أنين ألمًا، ولكن خانته تعبير وجهه وظهر ألمه، فمهما حاول إخفاء الألم سيظل الجسد هو الخائن الوحيد المرافق له.
نظرة ساخرة علت ملامح هذا الملثم ثم قال بنبرة خالية من المشاعر ولكن تحمل مكرًا:
_ نسيت أن أخبرك.. لقد أمرنا بتركك هنا لتوديعها جيدًا قبل أن تسافر مع والدها إلى الخارج.. استمتع بخسارتك قبل أن تنول شرفها من الشرنوبي.
اختفى الملثمان داخل السيارة ثم أنطلق بها سريعًا، بينما استدار نوح نحو ذكرى ينظر لرجفة جسدها، دموعها التي لا تزال تنهمر بغزارة، هبط لمستواها يهمس بصوتٍ رجولي دافئ:
_ أنتِ كويسة يا ذكرى؟
فتحت فمها لتخرج عدة شهقات قبل أن تردف بصوتٍ مبحوح مختنق:
_ أنا المفروض أسألك السؤال دا.
قطع حديثها شهقة قوية أثر بكائها، تحاول السيطرة على دموعها بعدما أصبح الخطر بعيدًا، ليبتسم نوح يجيبها بطأنينة:
_ متقلقيش يا ذكرى هو دا يعتبر خدش صغير.
رفعت بصرها تنظر نحو ذراعه ولكن سرعان ما شهقت بصدمةٍ من رؤية الدماء تقطر من ذراعه، كادت أن ترفع كفها نحوه ولكن تراجعت تشعر بالذنب، أغمضت عينيها بقوةٍ تكبح دموعها، ثم عادت تفتحهما تردف بنبرة متعبة:
_ ممكن تلف وتغمض عينك.
قطب جبينه بتعجب ولكنه لم يرغب بالجدل معها، استدار يغمض عينيه من شدة الإرهاق، بينما أمسكت ذكرى بحجابها الطويل تزيحه عن رأسها، تشقه نصفين، أمسكت بنصف تضعه على رأسها تخفي رقبتها، تحمد ربها بوجود تلك البندانة، بينما أمسكت النصف الثاني واقتربت من ذراع نوح تلفه بقوةٍ لتمنع تدفق الدماء منه.
شعر بها نوح ولم يتحرك إنش، يسمح لها بفعل ما تشاء، لتختتم ما تفعله بهمسٍ نادم:
_ أنا آسفة على كل اللي بيحصلك بسببي وبسبب نادر الشرنوبي.
فتح عينيه بإجهادٍ ينظر لها ببسمة متعبة، ولكن لا يزال قادرًا على الرد والحديث، قال عائدًا للفلسفة خاصته:
_ خليني أقولك رأين بنيت عليهم قناعتي وأنتِ أفهمي منها إجابتي..
أومأت بإيجابٍ وقد اقتحمها الفضول لتعلم ماذا سيقول، لم يمهلها دقيقة وبدأ بأول مقولة:
_ جلال الدين الرومي قال
"لا تحبس نفسك في خطأ لم ترتكبه، فأنت بريء كما يولد الفجر بريئًا من ليل مضى."
و نزار قباني قال :
"أقسى من الجريمة أن نجلد أنفسنا بجرم غيرنا."
واحد شافها بمنظور طاهر زي الفستان الأبيض اللي وقع عليه حليب وفضل زي ما هو أبيض معلهوش ذنب.. والتاني شافها بمنظور كأنها جريمة المتهم الوحيد نفسه والشهود عليها نفسه والقاضي عليها نفسه.. تفتكري بعد كل دا هل الإنسان هيقدر يعيش عادي ولا هتكون حياته مدمرة بسبب تحمله ذنب مش موجود؟
استدار سينظر لها بهدوءٍ يسألها بعدما ختم حديثه، لتفهم ذكرى حديثه، تجيبه ببسمة ممتنة على ذلك الشعور الهادئ الذي منحها إياه بعدما أصابتها لوعة الندم.
كانا يجلسان بمواجهة بعضهما، تتأمل هي الشمس بينما هو ظل يحدق بها، شعرت بالقلق من نظراته، وقاربت الشمس على المغيب فإزداد معها على الخلاف شعورها بالقلق، فوجودهما بمفردهما بهذه الصحراء أمر مرعب، حاولت تحريك فكيها لتنطق بقلقٍ:
_ هو إحنا هنروح إزاي؟
ظل ينظر لها بصمتٍ دون أن يتحرك، عينيه مليئة بالغموض، فارتجف قلب ذكرى من نظراته التي أرعبتها، ولكنها حاولت التحلي بالصبر، تقنع ذاتها أنه من أنقذها كيف له أن يدمرها، حاولت الحديث مرة أخرى ولكن هتف نوح بثباتٍ:
_ عايزة تتاكلي وتتمصمصي كمان أتكلمي!
اتسعت عينيها من وقاحة حديثه، لتهتف بصوتٍ محرج:
_ أنت قليل الأدب على فكرة.
لم يتحرك بل ظل كما هو، يهتف ببسمة ثابتة تعلو ثغره:
_ وأنتِ دماغك شمال على فكرة.. وكتري في الكلام وهنبقى عشا حلو للتعلب اللي وراكِ!!!
