رواية سفينة نوح الفصل الخامس عشر 15 بقلم سلمي خالد ابراهيم

      

رواية سفينة نوح الفصل الخامس عشر 15 بقلم سلمي خالد ابراهيم

صلِّ على سيدنا محمد 🤎🌻

كيف لنا أن نأمن مجددًا وقد خان من ظننه عزيزًا الوفاء؟؟ـــــــــــــــــــــــــــ

أنفاسٌ عالية مسموعة، عينيه الحمروتان بشدة، نظراته النارية مصوبة نحو السماعة، لقطاتٌ سريعة مخيفة تمر من جديد، مسدس.. ياسر.. رصاص ثم دماء.. لقد عاد كل شيء يتكرر وبينهما خائن..!

صرخ بقوةٍ يدفع السماعة على الأرض بعنفٍ أسفل نظرات سعدي المصدومة ابتلع صدمته سريعًا يحاول تهدأت نوح ولكن أنطلق ذلك الوحش من داخله، أصبح بحالة أنفعالية يمكنها قتل أي شخص، ليصرخ من جديد بصوتٍ منفعل شرس مخيف:

_ ولاد ال**** بيهددوني تاني.. حاطين خاين تاني معايا.. فاكرين هيعلموا عليا ال**** وهعدي اللي حصل زمان.. قسمًا بربي لأقتلهم واحد واحد ومش هحلهم وهاخد حق الرصاصة اللي خدتها ... مبقاش نوح نصار إلا وفتحت جهنم عليهم.

دفع ذلك المقعد بقوةٍ ليصطدم بالطاولة التي اهتزت ووقعت أيضًا ليتناثر الزجاج لقطع مكسورة على الأرض، تحرك نحو إحدى الغرف يهتف بنبرة جامدة شرسة:

_ مش عايز حد معايا ولا أشوف مخلوق وإلا هقتله.

أغلق الباب بقوةٍ، بينما نظر سعدي له وأشفق عليه، يشعر بأن ما حدث مع نوح بالماضي ليس ترقية كما قال بل شيء أكبر ولا يريد إخباره! زفر بضيقٍ يتأمل الردهة التي أصبحت خرابة من غضب نوح، لأول مرة يتأكد بأن نوح لم يظهر ما لديه بل يمتلك الكثير وهذه أول نقطة.

نهض يحمل ما تكسر للسلة النفايات، ثم نظف الزجاج المنثور بأرجاء الردهة حتى لا يتأذى أحد يكفي ما حدث، وما أن أنتهى حتى استمع لصوت الباب يدق، أندفع نحو الباب يفتحه ليجد سفيان بملامح شاحبة ينظر لسعدي بقلقٍ يسأله بتوجس:

_ نوح عمل إيه؟

إنكمشت ملامحه بضيقٍ يجيبه مشيرًا نحو الأكياس التي تحمل المكسور:

_ البيه قلب تور هايج وكسر الصالة وحلف لو حد دخله هيقتله.

أغمض سفيان بحزنٍ، يشعر بألم نوح ولكن ما باليد حيلة، تناهد بصعوبةٍ ينظر لسعدي قائلًا بقلقٍ:

_ الله يعينا على اللي جاي يا سعدي.. نوح هيرجع أسوأ من قبل كده وهيشك فينا كلنا لحد يطلع الخاين.

ضيق سعدي عينيه بشكٍ منه، فحدسه يخبره بأن هناك المزيد، ليسأله بحيرة:

_ هو مش موضوع كان غيرة بين صحاب على ترقية؟؟

ابتسم سفيان بسخطٍ، يهتف بتهكم:

_ دا اللي قالوه عشان يهرب من الحقيقة..ومحدش يسأله ليه صاحبك خانك بدون سبب!

أنعقد لسانه أمام الحقيقة، يعيد ترتيب حديث نوح ثم سفيان الذي أوقع الحقيقة أمام عينيه، الآن فهم لِم لم يحب نوح أن يكون صداقة.. لم يجد إجابة حتى الآن عن سبب الخيانة..!

زفر سفيان بتعبٍ ثم قال بهدوءٍ وعقله يعمل بصخب:

_ مينفعش نوح يفضل لوحده دلوقتي.. هياخد قرارات غلط ولو دخلنا دلوقتي هنبقى أعدائه مش صحابه أو حتي زمايله.. فالوحيدة اللي تنفع ومش هيأذيها هي ذكرى.

استمع سعدي لإقتراحه ليغمغم بقلقٍ:

_ متأكد يا سفيان! نوح كسر الشقة والحمدلله مكسرهاش على دماغي.


أومأ سفيان بهدوءٍ يجيبه بتوضيح:


_ ذكريات الوحيدة اللي نوح بيرجع لطبيعته معاها.. دا غير إنها عاشت حاجات مأسوية زي نوح وبالتالي هي أكتر واحدة نوح هيسمعها.


أقتنع سعدي بحديثه ليتحركا نحو الشقة سريعًا، يطرق سفيان الباب بهدوءٍ، لحظات كانت ذكرى هي من تفتح لهما تنظر لهما بتعجب قائلة:


_ لسه شوية على الغدا يا جماعة.


حرك سفيان رأسه بنفيٍ يردف بهدوءٍ منتقيًا كلماته:


_ لا إحنا مش جايين عشان كده.. إحنا عايزينك تدخلي لنوح.


أنكمش جبينها بقلقٍ، تنظر نحو الشقة بخوفٍ:


_ ليه ماله حصل حاجة؟


أومأ سفيان بإرهاقٍ واضح، يجيبها بصوتٍ محذر:


_ الخطة اللي عملنها عشان نوقع شركة الحوت هما كشفوها لينا..وكمان عرفوا إني مركب سماعة وسابوني أروح عشان دايرة الشك تزيد بينا ونشوف مين الخاين..


شهقت بصدمةٍ تضع يدها على فمها، تحرك رأسها بنفيٍ سريع تندفع بالرد:


_ استحالة يكون في حد..إحنا كلنا مع بعض عشان نحل القضية إزاي هنخون بعض..أكيد في حاجة ولا بيحاولوا يوقعوا بينا!


عبست ملامح سعدي بضيقٍ يرد على حديثها:


_ حتى لو بيوقعوا بينا.. إزاي عرفوا بموضوع السماعة وإننا هنبعت سفيان؟


كادت أن تدافع ولكن لم تجد إجابة ليصبح الصمت إجابتها، استرسل سفيان باقي حديثه بتنهيدة:


_ سيبك مين الخاين ومين لاء!! دلوقتي نوح مش في حالته الطبيعية وخاصة إنه ليه سابقة في موضوع الخيانة دي وبالتالي هتلاقيه هيولع فينا كلنا لو محدش دخل وهداه ومفيش غيرك هيرضى يسمعه.


عقدت حاجبيه بتعجبٍ تعلق على كلمة واحدة من حديثه:


_ سابقة!! سابقة إزاي؟


حرك سفيان رأسه بنفيٍ يردف بهدوءٍ:


_ مقدرش أقولك يا ذكرى دا يخص نوح وهو الوحيد اللي يحكيلك.. ومتخفيش مش هيعملك حاجة ولو حصل أي حاجة إحنا هنقعد في الصالة عشان نلحقك.


حدقته بإنزعاجٍ واضح تغمغم بضيقٍ:


_ تلحقني من نوح!! نوح جوزي يا دكتور وهو أكتر واحد هيخاف عليا.. مش عايزة حد معايا لو سمحت أتفضلوا أنتم جوا وأنا هدخله وأهديه.


نظر سعدي لسفيان بتوترٍ ثم قال بقلق:


_ أسمعي الكلام يا ذكرى وخلينا قاعدين في الصالة.


ردت بإصرارٍ:


_ لاء يعني لاء.. أنا عارفة نوح محدش يدخل بس.


زفر سفيان يفرك جبينه للوصول لحلٍ سريع، بالفعل هي من تستطيع الدخول له ولكن لا يأمن نوح، نظر لها بجدية قاطعة مغمغمًا:


_ تمام هنديكِ نص ساعة وبعدها نيجي نقف في الصالة لو حصل حاجة هندخل علطول.. لو محصلش هنسيبكم عادي ونرجع الشقة ومش عايز اعترض هنا.. إحنا خايفين عليكِ ونوح مش في حالته الطبيعية دلوقتي.


رفعت حاجبها تردف باستنكار:


_ طب مدخلتش ليه طالما قلقان أوي كده؟؟


_ ما قولنالك يا بنت الناس البيه جوا هيولع فينا وإحنا حاليًا بنسبة ليه أعداء مش صحابه ومفيش غيرك يقدر يدخله لإنه بيرجع لطبيعته معاكِ.


تناهدت بموافقة ثم تحركت نحو الشقة ولكن أوقفها سفيان يسألها بغموضٍ قبل أن يدلف للشقة:


_ مش شاكة فينا يا ذكرى؟


استدارت تنظر له بدهشة لسؤاله، ثم أجابت بهدوءٍ مختصر:


_ لاء، أنا أكتر واحدة عارفة يعني إيه خاين.


أومأ سفيان بصمتٍ ثم دلف للشقة دون أن ينبس بكلمة، عقله يفكر بما حدث معهم يحاول الوصول لتحليل منطقي لما يمرون به.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


مشاعر مضطربة اقتحمت قلبها لتصارع عاصفة من الاضطراب، لأول مرة سترى نوح بشكلٍ غير الحنان الذي يغرقها به في كل مرة، صوت سفيان وتحذيراته تتردد في أذنها كصدى عالي، أخذت نفسًا عميقًا قبل أن ترفع كفه برجفة ضعيفة تطرق عليه، لم تستمع لإجابة بل صمت يغرق المكان ويغرقها معه، راودها القلق عليه هل حدث مكروه له!!


عند تلك النقطة لم تتحمل الوقوف بل اندفعت لداخل الغرفة بقلقٍ واضح على معالمها، لتجده يقف أمام النافذة يتأمل الشارع، يديه داخل جيب سرواله، دققت النظر بوجهه الذي أنعكس على الزجاج لتجده جامد مشدود بشدة، عينيه البارزتان بوضوح، عروق رقبته النافرة، يبدو أن هذا موعد ظهور وحشًا ظل يحاربه كثيرًا..!


شجعت نفسها لتتحرك قدميها وتتخطى ذلك الخوف وتذهب له، وبالفعل وصلت خلفه وما كادت أن تضع يدها على كتفه أوقفها بصوتٍ مخيف:


_ أطلعي برة.


تجمدت يدها في الهواء تنظر له بصدمةٍ، ولكن لا وقت لها لابُد أن تخرجه من حالته، وضعت يدها عليه هامسة بصوتٍ هادئ حنون:


_ نوح أنا مش هسيبك.. أحكـلي حصل إيه؟؟


أغمض عينيه يحارب هذان الشعوران.. واحد يريد. إلقائها في الخارج والأخر يريد ضمها سريعًا ربما تدوي ذلك القلب الذي تعرض للخيانة.. الأمر متعب والحرب ليست سوى معاه فلو كانت مع شخصٍ أخر غير نفسه لأصبح الأنتصار حليفه.


تحركت تقف أمامه تنظر لوجهه المضطرب، عينيه اللتان تخفيان نظراته ولا تعلم أي نظرة سترى، ليعود نوح يردد باختناقٍ ولا يزال صوته قوي يثير الرعب:


_ أطلعي برة يا ذكريات.. متخليش اللي بينا يتهد دلوقتي وأنا مش في وعيّ.


لا تعلم ماذا تفعل ولكن تذكرت ضمته لها ليبدأ يومه، دون تردد رفعت ذراعيها تلف حول نوح تضمه بلطفٍ قائلة وهي تربت على ظهره، تريح رأسها على صدره:


_ مهما عملت يا نوح مش هسيبك.. خليك واثق إن رصيدك عندي عمره ما هيخلص وإن أي حاجة هتعملها هي حلوة مهما كُنت شايفها وحشة.


لحظات الإنهيار لا تريد سوى ضمة وتشجيع أن أسوأ ما بنا لن يصيبنا بخسارة فادحة مع من نحب، فإن أخبرتك بتركي فأنا بالحقيقة لا أريد أن تتركني بل أريدك.. فـ هكذا يصرخ قلبي ولكن يصفعني عقلي بقسوةٍ ويخبرني أن الوحدة هي أفضل حل، والآن هي أشد لحظات أنهزامية..


لم يشعر بذاته سوى يلف ذراعه حولها يدثر وجهه بعنقها دون حديث، فقط تنهيدة طويلة وعضلات يابسة، ابتسمت ذكريات براحةٍ، ثم رفعت كفها تداعب خصلات شعره قائلة:


_ تعالي نقعد وتحكيلي كل حاجة.


لم يجيبها بل ابتعد قليلًا ليتيح لها فرصة التحرك وبالفعل جلست على الأريكة وهي تقبض على كفه ولكن لم يجلس بل ظل واقفًا أمامها، قطبت جبينها بتعجبٍ وقبل أن تندفع بالسؤال، وجدته يترك كفها ثم سحب قميصه لأعلى ليظهر جزعه العلوي عالي أمام حدقتيها المصدومتان، ألقى قميصه بعيدًا ثم رفع سبابته نحو تلك الندبة يهتف بصوتٍ مشدود ووجهًا مكفهر:


_ الندبة دي دفعتني كتير أوي.. تلاتة صحاب ياسر ونوح وسفيان كنّا صحاب في كل حاجة، بس سفيان مختلف عني أنا وياسر لإنه مسالم أكتر.. بس أنا وياسر كنا مع بعض في كل حاجة وأي فكرة.. في الدراسة سوى.. ندخل نفس القسم والكلية حتى الشغل كنّا سوى لحد ما كان في عملية مهمة لزمًا نطلعها ونقبض على تجار سلاح، وخططنا أنا وياسر وخلاص فاضل التنفيذ وروحنا العملية وبدأ الاشتباك بينا وبين المسلحين.. كانت العملية صعبة لإنهم مكنتش بس صفقة سلاح سلم واستلم لاء دا بيصنعوا سلاح ووقعوهم هيجيب الناس الكبيرة اللي بيتعاملوا معاهم.


صمت عن الحديث يجلس جوارها واضعًا كوعه على قدمه يستند بوجهه على كفه، كل شيء يحرقه دون عودة لابُد أن يستمر بالحكي، استرسل أسفل نظراتها الحزينة:


_ وقتها وكأن بينطبق عليا قصة الجملة "حتى أنت يا بروتس!!"


قطبت جبينها بتعجبٍ تجيبه:


_ قصة إيه دي!


عاد بظهره للخلف يتأمل السقف بشرودٍ، يحارب ناره من الغدر، ليبدأ بسرد تلك القصة ربما تهدأ لوعة الألم:


_ يوليوس قيصر كان هو رئيس الدكتاتوري الجمهورية الروماني وكان ليه صديق اسمه بروتس كان أقرب حد ليه المهم كان عندهم زمان حاجة اسمها مجلس الشيوخ الروماني.. المجلس دا جاله خبر إن القيصر هيطيح بيهم وهيغدر.. فهما قالوا قبل ما يغدر بينا نقتله.. بمعني أصح نتغدى بيه قبل ما يتعشى بينا وراحوا المجلس وكل واحد معاه خنجر، جه يوليوس قيصر واجتمعوا عليه وبدأ كله يدخل الخنجر وسيفه في القيصر، كان بيقاومهم كلهم، لحد ما لقى صاحبه بروتس قدامه ابتسم وقال صاحبه جاي ينقذه بس فجأة لقى بروتس بيخرج خنجره وطعن بيه قيصر.. في اللحظة دي بس يوليوس أدرك معنى الخيانة من أقرب حد ليك وإن تحط ثقتك كله في حد هو أول واحد هيشوه روحك ويخليك مسخ..


صمت نوح بألمٍ وأدار رأسه المستندة على ظهر الأريكة، ينظر لذكريات التي تتأمله بصمتٍ ليكمل بنبرة مختنقة ولكن أنين الألم واضح:


_ يوليوس قال وقتها قبل ما يموت حتى أنت يا بروتس يعني حتى أنت يا صاحبي غدرت بيا معهم.. عرفتي دلوقتي حتى أنت يا بروتس قصتها إيه؟!


أدركت معنى كلماته، ولكن لم تعلم ماذا فعل ياسر، لتردف برجفةٍ أصابت كلماتها:


_ يعني صاحبك.. دا عمل زي بروتس؟


تأملت حدقتيه الغارقتان بالألم، ثم أجابها وقد شعر بأن الوفاء كلمة نادرة لم تعد موجودة بهذا الزمن:


_ كنت بضرب نار على واحد مهم يعتبر رئيس تجار السلاح بس فجأة جه من ورايا حد رافع السلاح فيا، أضطريت أوقف ضرب بس مكنتش أعرف مين اللي في ضهري.. جه رئيس التجار السلاح ووقف قدامي وقالي بالنص بص وراك كده..


عاد ذلك الشريط من جديد أمام عينيه يتذكر تفاصيل هذا المشهد القاتل


****


ضيق عينيه بشكٍ من نظرات الشامتة بعيني هذا الرجل، ولكن بالفعل استدار للخلف وسرعان ما أتسعت عينيه بصدمةٍ كسرت كل شيء، ياسر أمامه بملامح جامدة يرفع سلاحه بقسوةٍ أمامه، اقترب ذلك الرجل من نوح يهمس جوار أذنه:


_ إيه رأيك في المفاجئة دي بقى؟ قُلت بما إنك جاي مخصوص عشاني يبقى لزمًا أجبلك واجب الضيافة.


لم يسمع شيء فقط عينيه معلقة على ياسر، يبحث في عينيه عن أي مشاعر للندم أو تراجع ولكن وجد جبروت وقسوة داخلهما، كيف لم يلاحظهما؟ اختفى الراجل وبقى نوح يقف أمام ياسر يحرك فكيه بصعوبةٍ ناطقًا:


_ أنت.. أنت بتعمل إيه؟


تأمل صدمته التي لم تزول ثم علت بسمة ساخرة على شفتيه يجيبه بنبرة متهكمة:


_ زي ما أنت شايف.. رافع في وشك السلاح.


صفعة الكلمات أقوى من أن يصفعه بالحقيقة، حدقه بعدم تصديق ثم صرخ به بقهرٍ:


_ أنت جرى لعقلك إيه!! بتخون صاحبك وبلدك.


صوب المسدس باتجاه قلبه، يجيبه بجبروتٍ مخيف، يحدد هدفه:


_ مش فارقة معايا.. وعشان تعرف إن باقي على العشرة مش هسيبك تعيش لحظة واخدة بصدمة لو فضلت عمرك كله تتعالج منها مش هتعرف.


ضغط على الزناد لتندفع تلك الرصاصة الخائنة نحو قلبه، تخترق صدره بقوةٍ دون رحمة، أرتدى جسد نوح للخلف بأعينٍ مصدومة لأخر لحظة كان يأمل أن كل هذا سراب، ولكن نظر نحوه فوجد بسمة الساخرة إذًا هي حقيقة!، اختفى من أمامه، ليسقط على الأرض وهذا السائل الأحمر يغرق جسده بالصدره والأرض، لقد صدق جبران خليل جبران عندما قال


" عندما أصابت الرصاصة قلبي لم أمت.. لكنني مت لما رأيت مطلقها"


أغمض عينيه بهروبٍ مما حدث، لقد رفض عقله ما حدث لن يصدقه، فكيف من كان معنا باليالي خِلٍ وفي هو اليوم هو خائن محتال.


*****


تلك الشقهة المتألمة الباكية أفاقته، نظر لوجهها الباكي ليهتف ببسمة شاحبة:


_ دخلت المستشفى وطلعوا الرصاصة بس فضلت أسبوع مش حاسس بحاجة عقلي رافض اللي حصل.. لما فوقت خدت القميص اللي فيه دمي وفضلت في أوضتي محبوس وحاطه قدامي بـفكر.. إيه اللي حصل!


نظر نحو ذكريات ثم قال بضعفٍ لأول مرة يظهره:


_ دا كان صاحبي وأعز أصحابي ليه يعمل فيا كده! دا سؤال فضلت عايش عشان ألقي إجابة بس ملقتش.


مد يده يزيل دموعها من وجنتها بلطفٍ، يسترسل بألمٍ لا يزال عالقًا بشرنقته:


_ رفضت أدخل عمليات تاني وأكتفيت بالقضايا الصغيرة، برفض دخول أي حد معايا في أي قضية.. واللي بيدخل بتعامل معاه كأنه عدو.. مش عايز صحاب تاني أنا شوفت بما فيه الكفاية من الصحاب.. فبقيت بنسبة للكل المعقد اللي مستحيل حد يشتغل معاه.


أختتم حديثه بقبل صغيرة على جبينها، يضع كفه محتضنًا وجنتها بلطفٍ يكمل ببسمة متعبة:


_إلا أنتِ يا ذكريات.. كنت بتتعاملي معايا إني إنسان عادي مش معقد.. رغم أسلوبي معاكِ بس وقت ما كنت مخنوق جيتي تديني جزء من فطارك.. أنتِ حياة جديدة ليا وعمري ما هسيبك أبدًا لأخر العمر أنتِ مرتبطة بنوح نصار.


ملت تريح وجهها على كفه، تبتسم بحبورٍ على حديثه، ولكن لم تشء الصمت، لتحدثه بصوتٍ أنغمس في الدفء:


_ خليك واثق إن مفيش خاين تاني يا نوح.. سعدي وسفيان جم حكوا اللي حصل بس صدقني مفيش حد.. أقعد فكر براحة أكيد في حاجة غير الخيانة.


_ لأول مرة أعترف بكده.. أنا خايف يتكرر تاني ومش عارف هثق فيهم إزاي!


نطق بصراحةٍ شديد، لتربت على يده تمسكها بتشجيع قائلة:


_ أنا معاك ومش هسيبك وكل خطوة في القضية دي هنمشيه سوا ومش هسمح لأي حد يقرب منك ولا يخون ثقتك يا نوح.


ابتسم بلطفٍ لها، ثم استمع لصوت الجرس الباب لينهض يمسك بقميصه يرتديه بهدوءٍ أسفل خجلها، ينهض نحو الردهة وهي خلفه ليفتح لهم الباب يتأمل معالم وجههم بهدوءٍ ثم أفسح لهم المجال، يردف بهدوءٍ لذكريات:


_ روحي أنتِ وأحنا شوية وهنيجي معاكم هناك.


أومأت تغادر الشقة، بينما أغلق نوح الباب خلفها ثم جلس معهك بالردهة في صمت تام.


ــــــــــــــــــــــــــــ


صامتٌ بعقلٍ مشوش أمامهم، أين القرار الصائب في معركة ستكون الخسائر فادحة..!


أصدقائي لا أريد أن أقع ضحية الشك أنتم الغالون، لو كنت أملك قلبي لنزعت عنه الشك وبقيت طيلة عمري بينكم أثق بكم، ولكن خان قلبي ما أريد لأقع ضحية للشك، محشورًا في زاوية أكدها ليّ غريبًا ظننته يومًا صديقي، والله إني أموت ألمًا ولا يعلم أحد ما أمر به.. ربما يظن البعض أن الأمر تافهًا ولكنه عذابًا قاتل.. تتلاعب بي الشياطين لأقع في وسواسهم وأنال أكبر خسارة.


أنتبه ليد سفيان التي تشيح أمام حدقتيه يردد بقلقٍ:


_ نوح.. أنت كويس؟!


نظر له مطولًا يتذكر حديث ذاته، ثم قال لأول مرة بصراحة أمامه:


_ مش عارف يا سفيان.. أنا في حرب مع نفسي.. بحارب نفسي وفي النهاية لو خسرت هخسر نفسي.


رغم عدم ترتيب كلماته إلا أنها عميقة بشدة، فمواجهة لنفسك ليس أمر هين كما يظن البعض إنها حرب صامتة دون صراخ دون أسلحة دون دماء الضحية والقاتل فيها أنت، ربت سفيان على كفه بلطفٍ يهتف بنبرة هادئة:


_ محتاج تهدى وتفكر مش أكتر.. هتعرف الحقيقة فين.


نظر له قليلًا ثم أومأ بهدوءٍ ينهض من أمامهم يتجه نحو الشقة الأخر في هدوءٍ، بينما تأمل سعدي طريقته ولم ينبس بكلمة قرر أن يرى ماذا سيفعل ليعلم أين الخائن؟ ابتسم بسخطٍ فالشك الأقوى عليه ولديه الدافع القوي لخيانته.


ـــــــــــــــــــــــــــــ


جلس على مقعده خلف المكتب يتأمل تلك الصورة القديمة ذات لون أبيض وأسود، ألتمعت عينيه بكراهية شديدة متأملًا عائلته، ثم بصق على الصورة بقوةٍ يلقيها بعيدًا، يمسح على وجهه بقوةٍ مانعًا ظهور ذلك الرجل مجددًا ولكن فشل عاد يتذكره...


***


أندفع يلقيه داخل ذلك المبنى القديم حاملًا طفلته بين يديه، يتأمله بسخرية وهو يرى عينيه اللتان تلتمعان بصدمة، بينما صراخ الطفلة يتردد بالمكان بقوةٍ، هدر به بقهرٍ:


_ أنت معندكش قلب بتعمل فينا كده ليه؟؟


قهقه بقوةٍ ضاحكًا، يشير له مودعًا:


_ عملت الصح.. أنت أستفدت وأنا استفدت.


صرخ به مجددًا قبل أن يغادر:


_ طب أنا عارف ليه؟ إنما البنت الصغيرة دي ذنبها إيه دي تبقـ.. آآ


قاطعه بحدةٍ مانعًا إياه من الحديث:


_ بقولك إيه الكلام مات لحد كده لو مش عايز تزعل مني يا فريد أكتر من كده يبقى تسمع كلامهم.


أشار للرجل الواقف خلفه، يتراجع للخلف مستمعًا لصراخ فريد بالإعتراض..


***


فتح عينيه بقوةٍ يتأمل الغرفة بقوةٍ، يضحك بقوةٍ حتى أدمعت عينيه بألمٍ، يذرف الدموع بقوةٍ على ما يشعر به، وضع يده على قلبه يحاول منع ذلك الألم الذي تسلله، ليبدأ بلكم صدره قائلًا بحرقةٍ:


_ كفاية.. مش بعد كل دا وتفوق.. مينفعش تفوق دلوقتي بذات.


أخذ شهيقًا قوي ثم أخرجه بمهلٍ، ينظر للهاتف قليلًا ثم أمسكه يحرك أبهامه عليه ببطءٍ حتى استمع لجرس الرنين المكالمة، وضع الهاتف على أذنه ينتظر أن يستمع لصوتها..


_ ألو.


زحفت بسمة ساخرة لثغره، يستمع لصوت أنفاسها ثم تكررها لنفس الكلمة، وأخيرًا منح الإفراج لشفتيه ليطلق كلماته الخبيثة:


_ ذكريات.. اللي أتجوزت وعاشت حياتها وأختها مشلولة وأمها في غيبوبة حقيقي مشوفتش واحدة زيك؟


تجمد جسدها بصدمةٍ.. نادر الشرنوبي من جديد ماذا يريد منها، عادت تهتف بشحوبٍ:


_ أنت كنت هتقتلني لما حاولت أشوفهم.


ضحكة ساخرة أخرجها قبل أن يجيبها:


_ ما أنا عارف.. سفرتهم برة مخصوص عشان أفضالك يا ذكريات.


دارت بعينيها تنظر من باب الشرفة للردهة لتجد حميدة تشاكس في نوح تارة وتعبث مع سعدي تارة، جميعهم يحاولون إنهاء حالة الحزن، عادت تردف بصوتٍ جامد متماسك ما أن رأت ذلك المشهد الدافئ:


_ متقدرش تعمل حاجة.. خلاص مبقتش في حكمك ولا ليك عندي حاجة!


إهتز ثباتها بعد ضحكته القوية، تستمع لصوت فحيحه السام:


_ طب بصي قدامك كده في العمارة اللي في وشك.


أدارت رأسها تتأمل تلك للعمارة وسرعان ما أرتجف جسدها بذعرٍ وهي ترى رجلًا مسلح كاشف نفسه لها، ليسترسل نادر بخبثٍ:


_ طالما سكتي كده يبقى أنتِ شوفتيه.. عرفتي بابا حبيبك قادر ولا لاء؟؟


أغلق تلك المكالمة تاركًا إياها بحالة صدمة، سالت دموعها بعجزٍ، قد تيبس جسدها دون حركة، كلما حاولت التعافي يأتي ليدمر أفضل ما بعد بها، أرتفع ذلك الخط الأحمر من سلاحه يسير على جسدها حتى توقف على صدرها من الجهة اليسرى بموضع قلبها، دقائق كان كانت الرصاصة تصيب باب الشرفة، بينما أختفى جسد ذكريات داخل نوح، يختفيان أسفل سور الشرفة كساتر، راقب القناص ما حدث ليتصل بنادر يخبره بتنفيذ أول خطوة من خطته وسيختفي بعدها.


_ أنتِ كويسة؟ حصلك حاجة؟


قلقٌ منبعث من كلماته كلما تذكر شكل ذلك المقنع وهو يصوب عليها وهي جامدة مكانها، لو لم يشعر بالقلق من طول تلك المكالمة ولاحظ رجفة كفها لكانت بين عداد الموت. رفعها قليلًا يتفحصها بقلقٍ، يتأمل شحوب وجهها ليصبح لونه باهتًا، بصعوبةٍ استطاعت الحديث تجيب برجفةٍ:


_ كـ كويسة.


أشفق على حالتها رغم ضيقه منها، كاد أن ينهض ليرى هل أختفى ذلك القناص أم لا ولكن أمسكت ذكرى بقميصه بسرعةٍ تهتف برفضٍ هستيري:


_ لالالالا متطلعش.. هيقتلك.. نادر قال هيقتلني وهيقتلك.


أمسك كفها سريعًا يحاول امتصاص قلقها قائلًا بحنوٍ مقبلًا جبينها تارة ووجنتها تارة :


_ أهدي يا ذكريات.. أنا أهوه موجود ومش هطلع بجسمي كله بس لزمًا أعرف موجود ولا لاء عشان اتأكد من حاجة.


شعرت بوجودها مجددًا، أغمضت عينيها بإرهاقٍ ولا تزال ممسكة به، تدثر وجهها بصدره تنفي بوضوح صعوده، ليتنهد نوح بتعبٍ ثم مد قدمه يفتح باب الشرفة قليلًا بعدما أغلقه خلفه يحمي من بالداخل، استجاب سعدي له وتفحص المكان بحذرٍ وحرافية، ليشير لنوح بأنه أمن، زفر براحةٍ ينظر لذكرى بحنوٍ ثم قال بلطفٍ:

_ ذكريات قادرة تمشي ولا أشيلك.. متقاقيش خلاص مفيش حد؟؟

ابتعدت قليلًا تطالعه بملامح ضعيفة، ثم قالت بصوتٍ شاحب:

_ أنا مش حاسه برجلي.

مد يده يمسح على وجنتها بحنوٍ يهدأ من ذعرها، لتغمض عينيها باستجابة للمساته الحانية، دقائق وجدت ذاتها مرفوعة بين ذراعيه، انتفضت بارتباكٍ تنظر له بخجلٍ وعينيه تلتمعان بدموع:

_ نزلني عشان خاطري مقدرش أظهر قدامهم كده.

كبح ضحكته عليها ليهتف بمكرٍ:

_ خلاص غمضي عينك وأعملي نفسك نايمة وأنا هدخلك لإني أستحالة أنزلك.. بصراحة الوضع عجبني.

شهقت بخجلٍ من جراءته ولكن سرعان ما دثرت نفسها داخله أكثر ما أن تحرك لداخل الردهة أسفل نظرت الجميع التي تلتمع بقلقٍ عليها، أندفعت داليدا بخوفٍ تسأله:

_ نوح طمني يا حبيبي.. هي كويسة؟؟

أومأ لوالدته ببسمة هادئة يجيبها:

_ متقلقيش هي كويسة بس نايمة من الخضة.

تنهدوا جميعًا براحةٍ، ليتحرك نوح نحو غرفته ومعه فُلة التي تحركت تفتح الباب بهدوءٍ لتساعده، ابتسم بامتنان لها، لتبدله الابتسامة بتفهمٍ ثم أغلقت الباب خلفهما.

وضعها بترويّ على الفراش يمنحها حرية، ولكن تفاجأ بها لا تزال متشبثة بقميصه، أنزل بصره نحوه بدهشةٍ ليجدها غفت بالفعل ولا تزال عالقة داخل أحضانه، زحفت بسمة صغيرة لشفتيه وعقله على يقين أن ذكريات تشعر بالآمان معه.

ــــــــــــــــــــــــــ

_ سيأخذ الأمر وقتًا لا داعي لتعجل.

نبس بتلك الكلمات الجامدة، ينظر للصهيوني بجمودٍ، يرى عينيه الباردتان ثم سمع صوته ببرودٍ:

_ حسنًا معك كل الوقت لن نتسرع.

تحرك يغادر الغرفة، بينما تأمله فريد باختناقٍ يهمس بنبرة محتقرة:

_ أنا هصلح كل العك اللي عملته.

بدأ يعبث بهذا الجهاز يحرك أصابعه بسرعةٍ، يرسل بعض الإشارات لتستقبل من جهاز داخل مصر، عاد فريد يهتف بشرٍ:

_ أنت اللي بدأت الحرب يا دانيال.. وهبدأ أكشف سر سر لنوح.

راقب الجهاز ببسمة تعلو ثغره، يرى تأثر بيولوجية جسده بعد ألتقاط تلك الشرحة التي غرزها بجسد صديقه الإشارات الآمرة لتتصل بعقله، فأصبح هو المتحكم الوحيد به الآن، أهتز جسد ذلك السجين بقوةٍ بعد أن أرتفعت الكهرباء بجسده، ليرى ما نطق به على جهازه:

_ عـــــــــــايز نوح.. هــــــــاتوا نوح نصار.

               الفصل السادس عشر من هنا 

لقراءة باقي الفصول اضغط هنا

    

تعليقات



<>