رواية سفينة نوح
الفصل الخامس 5
بقلم سلمي خالد ابراهيم
صلوا على النبي 🤎🌻
( لحظة إدراك)
عزيزتي لم أقصد أن أجعل دربك هو دربي ولكن قدرتك الخارقة أوقعتك في سلسلة من قضايا لن تنتهي!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينظر بترقب شديد لتلك الغرفة، لهفة أو ربما قلق لا يعلم ولكن كل ما يريده هو خروج الطبيب بأخبارٍ سعيدة تساعدهم في فك شفرات تلك القضية!
نعم محمد لا يزال على قيد الحياة ولكن بالأخير أمر قتله لا يزال مبهمًا!
انتفض من مكانه وإلى جواره سعدي الذي انطلق نحو الطبيب يسأله بلهفةٍ:
_ محمد عامل ايه يا دكتور؟
طاف الأسف والندم على ملامحه ليجيب:
_ للأسف هو بيحتضر جوا.
اتسعت عين كلًا من نوح وسعدي بصدمة. ليندفع نوح داخل الغرفة يقترب من فراش محمد ينظر له بشدة، بالفعل يحتضر ملامحه الشاحبة للغاية، شفتاه اللتان أصبهما البياض، تقدم منه نوح هاتفًا بهدوء:
_ أنت ضللتنا في القضية دي وخبيت أكتر من 26 سنة وهما السبب في وجودك هنا واختفاء مراتك.. قول أي حاجة تشفعلك في اخرتك أنت مش هتكون أخر واحد يقتلوه.
نظر له محمد بشحوبٍ، ثم حرك شفتيه ناطقًا بكلماتٍ متقطعة:
_لاب.. توب... في بيتي.. الباسوورد في كتاب التشريح بس قبل ما تفتح..
صمت محمد يشعر بصوبة الإكمال، ثَقُل لسانه بشدة، ليحسه نوح على الإكمال وسط اعتراض الطبيب ومنع سعدي له:
_ كمل بس ايه؟
_ المعلومات متقسمة في ملفات مختلفة كل ملف هيظهر خمس ثواني ويختفي من الجها...
انقطعت أنفاسه وأصبح الآن جثة هامدة لا فاقدة لروحها، فالجسد والروح يكملان بعضهما لإعطاء هوية الفرد نفسه فإذا افصلت إحدهما أنتهت الحياة.
نهض نوح من مكانه بصمتٍ بينما اقترب الطبيب يغطي وجه محمد الذي ألقى كلماته الأخيرة دون أن يعي الكارثة التي سيدلف لها نوح ورفاقه.
**********
جلس ثلاثتهم بالمكتب، يظهر اليأس والضيق على معالمهم، يتأملون الجهاز الحاسوب وكتاب التشريح بضيقٍ، بعدما أنطلق نحو وسعدي لإحضاره، فـ وجود الجهاز والرقم السري لن يسمح لهم باستخدامه أيضًا، نطق سفيان بشيء من اليأس:
_ هنعمل ايه مفيش كاميرا ولا جهاز يقدر يجيب المعلومات دي في خمس ثواني يا نوح.. دا حتى مهندس البرمجة والكمبيوتر قال إن اللاب معمول بشفرة لو حاول يدخل عليها الداتا هتتمسح من عليه؟
زفر مختنقًا، يهمهم بصوتٍ منزعج:
_ حتى لو في نسبة 1% إننا نهكره مش هجازف.. أنا معنديش استعداد أخسر معلومات مهمة زي دي لو مش متأكد 100% إن هقدر أخدها من الجهاز.
مسح سفيان وجهه ينظر لسعدي الشارد بطريقةٍ عجيبة، فاقترب منه يسأله بهمسٍ:
_ أنت ساكت كده ليه؟ نوح عمل معاك حاجة؟
نظرة متهكمة التصقت بملامحه بعدما سمع كلماته يجيبه بسخطٍ:
_ قصدك معملش ايه يحرق دمي بيه..
رفع نوح بصره نحوهما بهدوءٍ، نظراته غامضة باتجاه سعدي الذي لم يطق الجلوس بالمكتب، وما أن نهض حتى قال نوح بغموضٍ:
_ عيب يا سعدي كده.
استدار سعدي بتعجبٍ نحوه متسائلًا بعدم فهم:
_ هو إيه اللي عيب؟
علّت بسمة ساخطة ثغره يجيبه بتهكم:
_ تكون لقيت حل ومتقولش عليه لزمايلك!
جحظت عين سعدي بصدمةٍ من أين علم بهذا؟ بينما قطب سفيان جبينه ينظر نحو سعدي بتعجبٍ قائلًا:
_ هو أنت لقيت حل؟
_ قبل ما أجاوب أعرف عرفت منين إني لقيت الحل؟
ابتسم بتهكم مجيبًا:
_ لما تكبر هقولك.. اديني اللي عندك وخلصنا.
لم يتحمل طريقته الفظة بالتعامل، برزت عروقه وانفجر بغضبٍ جامح يحدثه بعنفٍ:
_ جرا إيه يا نوح باشا شايف نفسك عليا ليه؟ ساكت من أول أم دي قضية ومش عايز اتكلم وأقول رتبة أعلى وظروف زفت مر بيها... لكن اللي بيحصل عك وقرف وخليك في حالك الحل لما يتنفذ هتشوفه غير كده كل واحد يتصرف براحته في القضية.
بدأ يلهث من شدة انفعاله ينظر نحوه بأعينٍ حمراء من فرط عصبيته، بينما رفع نوح كفيه ثم بدأ يصفق ببرودٍ قائلًا بسخرية:
_ برفو عرض هايل يا سعدي.. كلامك دا هحاسبك عليه عشان تعرف أنت بتتعامل مع مين.. وأي خطوة في القضية من غير ما تقولي هتزعل مني!
أرتفع الأدريالين بدمه ليتقدم من مكتب نوح بهجوم قائلًا:
_ أنا بقى عايز أزعل منك وريني هتزعلني إزاي؟
وقف سفيان يحاول أن يبعد سعدي عن مكتب نوح، لن يتحمل الجو الكثير من المشحنات، بينما نهض نوح نحوه يتقدم منه حتى أصبح أمامه قائلًا بسخرية استفزت سعدي:
_ أستنى يا سفيان خليه يجرب يزعل مني ويشوف نفسه شوية قبل ما أخليه قليل في نفسه.
لم يتحمل سعدي طريقته المستهزئة، ليدفع سفيان بعيدًا يرفع ذراعه يلكم نوح فجأة بمهارة عالية، ترجع نوح عدة خطوات يمسك بفكه الذي نزف بضع قطرات من الدماء، ثم تحولت نظراته من غضب لبراكين تشتعل منفجرة، تتهجم ملامحه لتصبح أكثر عنفًا وشراسة، تقدم نحو سعدي بسرعة مخيفة صُدم سعدي منها ليلقى لكمة شرسة ثم باغته بحركة سريعة أسفل قدمه ليقع سعدي على ركبتيه امام نوح، كاد نوح أن يكمل ولكن هدر سفيان بصوتٍ عالي:
_ كفاية يا نوح دا مش ياسر عشان تعمل كده؟
ياسر؟ وما الذي حدث؟ نظر نوح نحو سعدي.. نعم ليس هو، ولكن للحظة أراد أن يخرج هذا الوحش المكنون منذ الحادث بسببه، يريد العودة ولكن لا سبيل للعودة بعد الغدر، تمنى لو استطاع الحصول على فرصة صغيرة لينتقم من صديقه المبجل لعل هذه الظُلمة تختفي دون أن تبتلعه، حدق بسعدي بضع لحظات يراه يلهث ويقاوم ألم قدمه وذراعه الذان تلقى عنف لكماته فهتف قائلًا بسخرية ممزقًا كبرياء سعدي:
_ مكانك دايمًا هيفضل تحت واللي تحت بيمشي ورا اللي فوق يا سعدي.
نهض سعدي بعد كلمات نوح، يبتسم بهدوءٍ عكس ما يشعر به من خذلان وألم، يردد بكلماتٍ أيقظت ضميره:
_ أنا جيت من البلد على القاهرة عشان أكبر وأبقى ظابط محترم يا نوح باشا.. مش عشان تكسرني تحت رجلك وتقولي هفضل تحت.
استدار سعدي ليغادر ولكنه هتف قبل مغادرته بمرارةٍ:
_ خلتني أكره الشغلانة الوحيدة كنت بحبها بسبب كسرة نفسي قدامك يا نوح.
غادر سعدي من المكتب والمبنى بأكمله، بينما نظر سفيان نحوه يردف بأسى وصدمة تعتري كلماته :
_ أنت اتغيرت كده ليه يا نوح مكنتش كده!
لقى صمت منه، صراخ ضميرة ألجم لسانه وأبخر كلمات دفاعه فاسترسل بعتابٍ واضح:
_ قررت تعتزل وتبعد ماشي... بطلت تحكي معايا وقولت حرية شخصية لكن توصل بيك تكسر نفس اللي قدامك بكل برود وتستقوى عليه! وكل دا بسبب عقدتك زمان!
حدجه بنظرة شرسة مخيفة، ضغط على جرحٍ لم يبرأ بعد، ولكن اندفع سفيان بهجوم:
_ متبصليش كده على أساس هخاف أنا يمكن بمثل الخوف لكن مش بخاف منك يا نوح... خلي بالك أنت سبت جرحك من غير ما تعالجه وبقى بيكبر أكتر لحد ما بقى وحش بيجرح اللي حوليها.. سلام.
**********
تلفتت يمينًا ويسارًا بتوترٍ، تسحب مفتاح صغير قديم من جيب سترتها بيدٍ مرتجفة، ثم مدت يدها نحو الباب تضعه به سريعًا، تتلهف رؤية متعلقات ابنتها، أندفعت تشعل الضوء تنظر لسرير الصغير لطفلة تحمل عامين، أغرورقت عينيها بالدموع، تتقدم نحو الفراش بخطواتٍ مرتجفة، تحبس أنفاسها قبل أن تنفلت شهقاتها المتألمة، مدت أناملها تلامس الفراش بحنينٍ جارف، تمسك بفستانٍ زيتوني صغيرة..
انهمرت دموعها سريعًا، تقرب الفستان من أنفها تستنشق رائحته، حرصت كل الحرص على إبقائه دون غسله ليتحفظ برائحة ابنتها، أنفلتت تلك الشهقة تابعها شهقات عديدة تملأ أرجاء الغرفة، تجلس بإنهيارٍ على الأرض تضم فستانها قائلة بصوتٍ مرتجف:
_ سامحيني يا ذكريات... حقك عليا يا حبيبة قلب ماما.. سامحي أمك وضعفها.
_ كفاية يا ماما هتتعبي تاني والأزمة هتجيلك.. يلا بينا نخرج قبل ما يجي ويعرف إنك دخلتي الأوضة.
صوتٌ حزين متألمة على حال والدتها، تعلم جيدًا سطو والدها وقوته التي تُفرض على الجميع، فهو الجبروت الحقيقي، هو فرعون في عصر سيدنا موسى، فكلما حاولت جميلة الاقتراب من ابنتها يمنعها بقسوةٍ، يخبرها بجبروتٍ
" بنتك ماتت في حادثة فاهمة، معنديش بنات غير هند وميشرفنيش بنت زيها تبقى بنتي"
رفعت " جميلة " عينيها تنظر نحو هند المرتجفة بشدة محاولة كبح دموعها، لتمسك بكفها الموضوع على كتفها تسحبها في عناقٍ قوي تهمس لها بصوتٍ مبحوح:
_ قلبي وجعني عليها يا هند.. عيشت أكتر من 15 سنة معرفش عندها حاجة وبعيدة عني... أبوكِ منه لله هو السبب مش مسمحاه أبدًا.
أرتجف جسد هند بألمٍ مكبوت، فوالدتها تدعو على والدها وظُلمه، أي حياة تعيشها هي!، عندما يصبح مصدر الأمان صاحب أكبر مخاوفها، ومصدر الحنان منبع الألم، أغلقت عينيها بقوةٍ تاركة لدموعها العنان لتهبط فلن تستطيع تغير والديها ولن تستطيع تغير حياتها!
****************
أغلق الباب بهدوءٍ، ينزع حذاؤه بملامح جامدة، ينبض عرق صدغه بقوةٍ أثر أندفع الأدرينالين من شدة الضيق، تحرك نحو غرفته دون أن يلقي سلامه على والدته كعادته، أغلق الباب بعنفٍ شديد يبدأ بنزع ملابسه بتشنج. تعجبت حميدة من طريقته، تقطب جبينها بدهشةٍ، تستمع لصوت أغلاق الباب بتلك الطريقة العنيفة، حركت رأسها عدة مرات ثم نهضت تعد بعض السندوتشات صغيرة وكوب شاي ثم سارت نحو غرفته، تطرق ثلاث مرات ثم دفعت الباب بتروّي تطل برأسها قائلة بمزاحٍ طفيف:
_ أنت لو داخل على كُفار هترمي السلام عليهم.. بس عشان تعرف إنك ابني ضنايا عملتلك الأكل وجيباه لحد عندك.
نظر لها بصمتٍ دون أن يتفوه بكلمة، لتتسع عين حميدة قائلة بدهشة:
_ لا دا الموضوع كبير عشان يخليك ساكت كده!! مالك يا سعدي؟
تقدمت باهتمام تضع الطعام على مكتبه، تجلس جواره على الفراش تتأمله بصمتٍ، تنتظر تحريك فكه ليجيبها، وبالفعل استجاب لها ينظر لها بضيقٍ متمتمًا:
_ داخل في قضية مع أتنين واحد منهم ظابط أعلى رتبة مني والتاني دكتور، الظابط دا طلعوا عليه إنه معقد وعلطول شايف نفسه عليا وعلى أي حد.. وصاحبه بيدافع عنه كل ما تحصل حاجة يقولي بسبب حادثة ولما اسأله إيه هي الحادثة ميجوبش فالنهاردة تقريب ضربنا بعض وهو علم عليا.
كانت تستمع باهتمامٍ بالغ، تلتقط أذنيها كلماته بتفحص سريع، حركت رأسه بتفهمٍ ثم قالت بهدوءٍ يحمل حنوًا:
_ الطبيعي أدافع عنك وأزعق في صاحبك دا ويمكن أدعي عليه كمان.. بس هقولك مثل كده حطه حلقة في ودنك.. ما محبة إلا بعد عداوة فصاحبك دا اللي ماسك في خناقه هتلاقيه حلو وهتبقوا سمنة على العسل.
ابتسم سعدي بسخرية، فهي لم ترَ ولم تسمع حديثه، ردد بتهكم واضح:
_ بس يا حميدة أنتِ ماعرفيش حاجة!
مدت يدها تمسكه من أذنه قائلة بغيظٍ:
_ هو أنت يا واد فاكر نفسك هتكبر عليا.. لا دا أنا شوفت أشكال عرة كتير وياما أتعملت مع تعابين أشكال وألوان وربك كان بيقدر الواحد عليهم هتيجي أنت وتقولي معرفش حاجة.. بكرة لما يبقى صاحبك هتقول حميدة قالت.
أفلتت أذنه جراء أنتهاء حديثها، يتأوه سعدي من مسكتها القوية وتركها المفاجئ، نهضت حميدة تنظر له بصرامة مرددة بضيقٍ:
_ أطفح الأكل وعلى الله يا سعدي تيجي من برة مضايقة متسلمش ولا ترمي سلام ربنا على أهل بيتك ليلتك هتبقى شبشب معايا.
رفع سعدي يده يؤدي لتحية العسكرية، يبتسم داخله على ألفة ودفء والدته، فمهما حدث لا تحب قطع الاتصال والود، نهض من مكانه مقبلًا يدها بحبٍ يردد باعتذارٍ:
_ حقك عليا يا ست الكل أنا بس مضايق لإنه علم عليا واتبهدلت في المكتب وإحنا لسه بنقول يا هادي في القضية!
تنهدت حميدة بضيقٍ ولكن حاولت كبح لجام غضبها تقديرًا له، تهتف بعد إماءة صغيرة:
_ ماشي يا سعدي بس تاخد بالك، وزي ما قولتلك يا بني اللي زي صاحبك دا الدنيا داست عليه بس هو اللي حابس نفسه في نقطة صغيرة وهتلاقي غشيم حبتين بس جواه طيب وخايف يتعامل عادي فيحصله اللي حصله قبل كده.
تنهد سعدي بصوتٍ مسموع، فهناك جزءًا داخله يخبره أن نوح سيصبح خِله الوفي، أومأ ببسمة صغيرة ناطقًا قبل أن يقترب من الطعام:
_ حاضر يا حميدة هسمع كلامك لما نشوف.
ابتسمت برضا ثم غادرت الغرفة لتسير نحو المطبخ تزعم على صنع بعض الحلوى السريعة.
************
صباحًا...
وصلت كلًا من ذكرى وفُلة المكتبة في الساعة السابعة صباحًا، يفتحون باب الحديد سويًا بخفةٍ ثم تليه باب زجاجي، وضعت فُلة كيس الطعام تردف بحيرة:
_ ناكل الأول ولا نروق وناكل؟
_ لا نروق وناكل أنا بعد الأكل بتقل.
نطقت جملتها تتحرك بالقطعة قماش صغيرة لتمسح الزجاج المليئ بالتراب، تتذكر ذلك المتعجرف الفلسفي _ نوح نصار_ وطريقته معها، ضحكت بخفوتٍ ما أن تذكرت ذلك الحجر الصغير الذي ألقته عليه، مدت يدها بالقماش تمسح أخر جزء ليصبح ما بالخارج واضحًا وما أن أزاحة يدها حتى وجدت نوح يقف أمامها واضعًا يده بجيب سرواله الأسود، يرتدي نظارته الشمسية تخفي ملامحه الجامدة، شهقت بفزعٍ ما أن رأته تضع يدها على صدرها الذي يعلو ويهبط بقوةٍ، تأمل نوح فعلتها ثم هتف بسؤالٍ واحد هادئ:
_ المكان اللي بقعد فيه فاضي؟
أومأ ذكرى ببلاهة صامتة، ليتحرك نوح نحو أرفف الكتب يسحب كتاب عشوائي ثم توجه نحو الطاولة صغير بها مقعدين مخصصة لمن أراد تصوير شيء أو قرأت كتاب، تعجبت من صمته وهذا الهدوء الذي يغلفه ولكنها قررت عدم أعطاء للأمر أهمية، انسحبت نحو الداخل لترى فُلة قد أنتهت من ضبط الكتب وإزاحة التراب من بعض الكتاب، فلم يكن المكان سيء لدرجة، جلست ذكرى جوار فُلة تفتح حقيبة الطعام وبدأت تمسك بالسندوتش الأول تلقي بنظرة سريعة على نوح الذي تتهجم ملامحه تارة وتلين تارة وتلتمع عينيه بألمٍ تارة ثالثة، شعرت بوجود خطبًا به خاصةً ويده تتلامس صدره فوق موضع قلبه، فاقت من شرودها على صوت فُلة تهتف بصوتٍ مختنق من أثر الطعام الذي تلوكه:
_ بقولك عايزة السندوتش دا؟!
أشارت على السندوتش الأخير الموضوع على الطاولة بعدما انتهت من تناول طعامها، مدت ذكرى يدها تنتشل السندوتش بغيظٍ، تنهض من مكانها قائلة بأنزعاج:
_ بطلي طفاسة السندوتش دا مش بتاعي.
دهشت فُلة من حديثها ولكن اختفت الدهشة عندما وجدتها تقترب من نوح تمد يدها بالسندوتش وعلى ثغرها بسمة صغيرة. رفع نوح بصره ينظر للسندوتش بتدقيق، ثم نظر لذكرى باستفهامٍ دون أن ينبس بكلمة، تنهدت ذكرى بصفاءٍ تجيبه بقناعة غريبة أثارت دهشته:
_ عارفة إنك مبتطقنيش.. بص هو شعور متبادل وأنا كمان مش بطيقك بس يعني إحنا بنفطر وأنت أكيد مفطرتش فجبتلك السندوتش دا.
رفع حاجبه باستنكارٍ واضح، يعلق بتهكمٍ:
_ خليه لقلبك الرهيف.. وبلاش كل اللي تشوفيه تشفقي عليه.. نصيحة هو اللي هيتعب!
أعادت كفها نحوها مجددًا تنظر له بضيقٍ، فلم تتخل رده المتعجرف هكذا، استدارت بصمتٍ تضع السندوتش على الطاولة خاصتها مجددًا، تجيب بصوتٍ متهكم تبادله إياه:
_ ونصيحة مني لو مشفقناش على الناس اللي أنت منهم.. قلبك أنت اللي هيتعب.
نهض من مكانه يغلق الكتاب بقوةٍ صدى صوته اقتحم أذني ذكرى و فُلة، ارتدى نوح نظارته ثم قال قبل أن يغادر بخطواتٍ سريعة قاسية:
_ اللي أنا منهم معندهمش قلب فمش هيحتاج الشفقة بتاعتك عشان هو مش نافع يتعب ولا يحس.. هو ميت أصلًا.
أُغلق الباب تلقائيًا عندما تحرك، لتتأمل ذكرى ظله بضيقٍ فلم تستطع تغلبه بالحديث، تقدمت فُلة وهي تتناول أخر جزء بالسندوتش قائلة بتعجب:
_ هو إيه كلام أفلاطون وأرسطو دا؟؟
أستمعت لصوتها يلوك الطعام لتستدير سريعًا تنظر نحوه بغيظٍ قائلة:
_ هو أنتِ معندكيش دم يا بت.. أنا لو مصاحبة جاموسة كانت احترمت نفسها ومكلتش أكل غيرها.
أشاحت فُلة بوجهه بضجرٍ، تنتقل بعيدًا عنها تكمل باقي الجرد الخاص بالكتب، بينما تحركت ذكرى لتضع الكتب حسب تصنيفه بالأرفف.
***************
تائه..
هذا أقل وصف ينعت به بتلك اللحظة، لا يعلم أي سبيل يختار، نفسه تخبره كل ليلة وكل صباح عن جرح صدره، وعقله يصرخ به بألا يعيد الماضي وقلبه ينظر للأمور بطريقة إنسانية مؤلمة يخبر ما ذنب البريئ معك!..
أي حزب سيأخذ صفه؟ هل شجاره وطريقته معهما خاطئة! نعم يعلم أنه قاسي ولكن لا تُصنع القسوة من تلقاء نفسها هي صنائع البشر...!
زفيرًا مختنق صدر عنه يصف سيارته داخل مبنى العمل، أراح ظهره للخلف يفكر بحياته الباردة، طريقته التي أثارت عجب الجميع! وأخيرًا موقفه مع سعدي العجيب، وشفقة ذكرى عليه! كيف لها أن ترى جرحًا لم يبرأ؟ أغمض عينيه بقوةٍ حاسمًا أمره، لابُد من إعادة ترتيب حياته وإلا سيقع بخسارة فادحة يكفي ما خسره بالماضي، فتح عينيه بألمٍ ظاهرًا يهمس بصوتٍ مرير:
_ هنتقم منك يا ياسر على غدرك بيا..
تحرك من سيارته نحو مكتبه بصمتٍ، دون أن ينزع نظارته الشمسية، إنها تخفي ألمه.. عُري نفسه وكل شيء تفضحه عيناه به، علا صوته يخبر العسكري بهدوءٍ:
_ سيب خبر في مكتب سعدي إني عايزه.
أومأ العسكري بتعجبٍ وخاصة من نبرة نوح الهادئة فعادة تكون ساخرة ما الذي حدث، يبدو أن لك قوة خارقة يا سعدي لتغير نوح منذ عامين ويزيد، دلف نوح مكتبه ينظر بنقطة فارغة باردة، لا يفكر بشيء فأصبح العقل مجهد يتهرب من التفكير في حياته، انتشله من شروده صوت طرقات ودلوف سعدي للمكتب بملامح جامدة غير التي يلتقي بها، تناهد نوح يشير بهدوءٍ:
_ تعالي يا سعدي عشان نشوف حل للقضية.
جلس بجمودٍ على المقعد، يعلق ساخرًا داخله:
_ حتى مش هاين عليك تعتذر عن اللي عملته.
حمحم سعدي قبل أن يتحدث بنبرة ذات جمود رسمي:
_ في بنت اسمها ذكرى بتلمح أي حاجة وتحفظها علطول.. عملت عليها تحريات و طلعت نضيفة فاضل نبلغ سيادة اللوا وتدخل معانا في القضية.
أومأ نوح بهدوءٍ، ينهض من مكانه يحدثه بجدية:
_ أنا هبلغ سيادة اللوا دلوقتي استناني.
أومأ سعدي بالإيجاب، ليغادر نوح مكتبه يتجه نحو غرفة اللواء ماجد يخبره بضرورة دلوف تلك الفتاة للقضية وبعد أحاديث كثير أخيرًا وافق على مضض دلوفها للقضية، عاد نوح لمكتبه ليجد سعدي ينتظره بالخارج، تأمل وقوفه بصمتٍ يرمقه بنظرة متعجبة، ليجيب سعدي بسخرية:
_ صاحب المكتب مش موجود وميصحش أقعد فيه لحد ما تيجي!
استشف سخريته ولكن رأى الحزن المبطن داخله، ظن أنه سيتهمه بالسرقة شيء من مكتبه، مد نوح يده يربت على كتفه قائلًا بتنهيدة:
_ تعالي يا سعدي ربنا يهديك.
_ ويهديك يا خويا.
قالها بسخطٍ يسير خلفه، يقفا بمنتصف الغرفة بصمتٍ يعم بالمكان إلا من صوت الهاتف الذي يدق، استمع نوح لصوت المتصل به ليعلق بصوتٍ جاد:
_ فاضي تيجي معانا؟
_ حتى لو مش فاضي هتجبني من قفايا هو أنت حد بيقدر عليك.. قول هنروح فين؟
حرك نوح رأسه بيأسٍ من صديقه ينظر نحو سعدي يسأله بعينيه، ليجيب سعدي سريعًا محاولًا السيطرة على ضحكته من سخرية سفيان:
_ وسط البلد في مكتبة هناك هنروح عندها.
دقق نوح النظر نحو سعدي يراوده الشك من كنية تلك الفتاة ولكن الصبر جميل، بضع لحظات ويعلم من هي، بينما تعجب سعدي من نظرات نوح ولكن حرك كتفيه بالامبالاة فما يهم هو الوصول لذكرى، تحرك مع سعدي للخارج يغادرون المبنى نحو تلك المكتبة يمرون بطريقهم على منزل سفيان ليأخذوه.
***************
_ بقولك رجع الكتاب.. الكرتونة دي كان فيها خمسة وعشرين كتاب فجأة بقدرة قادر بقوا تلاتة عشرين كتاب حرام عليك تسرق صاحب عمرك في أهم كتابين عليهم طلب!
كلمات غاضبة مغتاظة نطقت بها لصديق الحج حسن، نظر لها ببرودٍ يردف مشيرًا لسيارته:
_ العربية عندك طلعي منها الُكتب.!
رفعت حاجبها باستنكارٍ من ثقته الزائدة، تبتسم بخبثٍ تسأله بأسلوبٍ ماكر:
_متأكد يا عم مرسي؟؟
ارتجف قلبه من نظراتها ولكن كيف سيفضح أمره وقد نشلها من الكرتونة سريعًا قبل أن يلاحظه أحد، أومأ ببرودٍ يقنع عقله بأنها تحاول هز ثباته ليردف ببسمة صفراء:
_ والله العربية عندك شوفيها؟
تحركت ذكرى بتحدٍ أسفل نظراته، تقف أمام الباب الخلفي من الحهة اليُسر للسيارة، تفتح الباب سريعًا تمد يدها للمقعد تزيح للأمام بسهولةٍ، اتسعت ابتسامتها وهي ترى الكتابين مغلفين موضوعان أسفل المقعد بمخبئ صغير، لتمد يدها نحوهما تمسكهما قائلة ببسمة خبيث تنم على شر:
_ عيبك يا عم مرسي إنك فاكر الناس غبية زيك.. قولتلك طلعهم من نفسك مسمعتش الكلام أهو منظر بقى فلانة مقطعة قدامنا... صح يا فُلة؟
كبحت فُلة ضحكتها تومي برأسها عدة مرات، ليتقدم مرسي نحوها بملامح غليظة تنم على الشر، يرفع كفه يمسك بالكتابين بقوةٍ قائلًا بجشعٍ:
_ بقولك إيه يا بت أنتِ مش هتيجي تعلمي عليا على أخر الزمن.. سيبي الكتابين بدل ما تاخدي علقة معتبرة!
ارتجف جسد ذكرى من طريقته وهجومه بجسده الممتلئ عليها، تتراجع للخلف بتوترٍ حتى ألتصقت بالسيارة، محاولة منعه من الإمساك بالكتابين، حاول نزعهما منها ولكنها تأبى الإفراط بهما، رفع كفه هوى عليها بصفعة قاسية جعلتها تترنح بوقفتها، تنظر نحو برعبٍ، عاد يحاول إمساك بالكتابين مجددًا ولكنها رفضت ليرفع كفه مجددًا يحاول صفعها ولكن شعر بيدٍ لا بل بمن يضع يده في آلة حديدة لكسر عظمه، أدار رأسه ينظر لمن يقف فما كان سوى نوح تلتمع عينيه بشراسة مخيفة، يهمس بفحيحٍ قاسي:
_ عندنا لمؤاخذة في سوق الرجالة اللي بيمد إيده على واحدة بيبقى لمؤاخذة تاني.. والـ لمؤاخذة دا بيتفرم لحد ما يعرف جنسه إيه رجل ولا ست...
أرتفع صوته مجددًا ليسمع فُلة وكأنه يوجه لها الحديث قائلًا ببسمة تنم على شر:
_ الراجل دا بيتهيألي مد إيده عليها صح؟؟
حرك الرجل رأسه بنفيٍ مذعور يتأوه من قبضة نوح التي تزداد عنفًا كلما نطق بكلمة، ليصرخ الرجل بفزعٍ:
_ لا مش بمد ايدي..
_ كداب مديت إيدك عليها وضربتها بالقلم!
نطقت بها فُلة بشماتة واضحة، ليحرك نوح رأسه يهتف بأسفٍ زائف يراقب ملامح الرعب الظاهرة على الرجل:
_ تؤ تؤ تؤ كده تفتني عليه.. أهو هنضطر نعرف جنس ملته إيه الراجل الـ***** اللي مد إيده على صحبتك.
لكمه نوح بقوةٍ أطاحته أرضًا، يصفعه عدة مرات على وجهه قائلًا بغضبٍ جامح:
_ لو فاكر ملهاش حد يبقى عند أمك يا****، ولو اتعرضلتها تاني وقالت إنك ضايقتها هتشوف الو**** على حق.
أمسكه من ياقة ملابسه يقرب وجهه نحو ذكرى قائلًا بصوتٍ أمر لا يتحمل النقاش:
_ أضربيه بالقلم.
اتسعت عين ذكرى بصدمةٍ، تحرك رأسها بنفيٍ تبرر رفضها:
_ لالالا أنت ضربته..
_ اللي ضربتهوله عشان قل مننا كرجالة.. لكن حقك هتاخديه بنفسك يلا أضربيه...
أدمعت عين ذكرى برعبٍ من الفكرة، تحرك رأسها بنفيٍ تنظر له بتوسلٍ ناطقة:
_ عشان خاطري بلاش!
عوج فمه ببسمة ساخطة، يبعد مرسي عنها قائلًا ببسمة خبيثة:
_ وماله أنا أضربه و...
صرخ مرسي مقاطعًا إياه يردف بصوتٍ مرتجف:
_ لا أبوس إيدك متضربش تاني وشي ورم.. أضربي بقى الله لا يسيئك.
إزدردت لعابها تشعر بالخوف من تلك الفعلة، لن تقبل ضربه، فحاولت إقناع بمهاودة:
_ العفو عند المقدرة وطالما قادرة أجيب حقي منه دلوقتي خلاص يا أستاذ نوح.. مضيعش عليا الثواب الله يجازيك الخير.
صمت نوح أمام حديثها، فلا قول بعد الدين، فك قبضته عن مرسي الذي أسرع نحو سيارته يقودها بسرعةٍ هاربًا من بطشة نوح.
وقفت ذكرى تتأمل ما حدث وشعرت بسعادة تنتشلها من قاع الخوف، تهتف ببسمة صغيرة ممتنة:
_ شكرًا أوي.
نظر لها بهدوءٍ، ثم قال متجاهلًا حديثها يشير لسعدي وسفيان أن يأتيا:
_ تعالي يا لذيذ منك ليه.. مش جايبكم فيلم طالع بطولته تشوفه... تعالوا خلينا ننجز.
نظرت ذكرى نحو سعدي بدهشة، تردف بذهولٍ:
_ إيه دا سعدي باشا حضرتك بتعمل إيه هنا ولا ليك حد وماما حميدة كويسة وهي جاية النهاردة؟؟؟
رفع سعدي كفيه يحاول إيقافها يجيبها سريعًا:
_ بس بس.. جيت عشان عايزك في موضوع مهم.. وحميدة كويسة ومعرفش جاية ولا لاء.
أومأت ذكرى براحةٍ، ثم انتبهت لحديث قائلة بحيرة:
_ موضوع إيه اللي عايزني فيه؟
كاد سعدي أن ينطق ولكن علا صوت طلقات نيران قوية بأرجاء المكان أدت لفزعها بل وفزع الناس أيضًا ليعم الهرج والمرج بالمكان....!
