رواية غرام في العالم السفلي الفصل التاسع عشر19 بقلم داليا السيد

 رواية غرام في العالم السفلي الفصل التاسع عشر بقلم داليا السيد

ثمن الخطيئة
بيته كان كبير جدا بالنسبة لما كانت تعرفه.. يطلقون عليه بالأفلام فيلا 
لم يمكنها إيقافه وهو يخبرها بجمع ملابسها لأنها سترحل معه، سنخبره أنك جليسة وزينب هي من أرسلتك
هكذا ستكون الكذبة على الرجل الذي ستلقاه لأول مرة بحياتها
عرفته مؤخرا عندما تحدثت هدى معه، رجل الصخر، الكل كان يهابه ويخشاه حتى سقط بالمرض واختفى من الساحة ليظهر أمامها.. حماها لكن غير شرعي
لمسة يده على ذراعها جعلتها تفزع، تنتبه، تعود للوعي، جامد الملامح يقودها ومنيرة تلك المرأة الجامدة مثله تأخذ حقيبتها بلا كلمات وهو يقودها للأعلى
"أي خطأ سيؤدي بحياته، لن يتحمل صدمة"
لفت وجهها له ولكنه لم يواجها "لن يقبل بزوجة ابن غير شرعية"
قبضة يده اشتدت على ذراعها ستترك أثر كالعادة ولكن من يهتم فهو من يفعل وهو من يرى
"شرعية لكن العرفي لن يلقى ترحيب لديه"
لم تجادل فمن ذا الذي يلقى العرفي بأذرع مفتوحة إلا امرأة ضائعة مثلها؟
جسد نحيف ممدد بالفراش، رائحة الدواء تملأ المكان، صمت ثقيل غير مرحب به يسكن الغرفة، كآبة تحمل رائحة الحزن..
تركها بمكانها على بعد من الفراش وتحرك للفراش وتحدث بنبرة لم تعرفها به من قبل..
هو لم يمنحها غير الجمود، الغضب ونادرا، سخرية
الصمت يقوده وهو يأخذها، لا كلمات ولا أي معالم إنسانية، علاقة حميمية باردة ومع ذلك تجعلها مثارة كامرأة وأحيانا تخجل من نفسها بعد أن يتركها عندما تدرك أنها استمتعت وأنها كانت تتجاوب معه
"بابا، بابا"
كانت تحدق به وكأنها ترى شخص آخر لا تعرفه، بدا غريبا عنها، نفس الجسد، الملامح، لكن الروح مختلفة..
"رشدي"
رمشت وعيونها تسقط على الجسد الجامد بالفراش، الجراحة نجحت لكنه انتكس والطبيب أمر بالتزام الفراش بلا أي ضغوط نفسية وهي هنا من أجله..
هي الانتكاسة نفسها هي البنزين وهو النار والاشتعال قريب..
انحنى على والده ونظراته تبدلت بلا جمود، لامعة بلون دخاني مضيء وليس رماد الحريق
"كيف حالك الآن؟"
التعب كان واضحا عليه، أنفاسه عالية تدل على صعوبة التنفس ولكنه لا يستسلم، دافعه للبقاء موجود، ابنه.. ما زال يرغب برؤية من انحرم منه كثيرا، سعيدا، زوجة وأحفاد أمنية تسكن قلبه لكن مع رشدي تكاد تكون خيال، وهم ولا مكان لها بالواقع
"بخير حبيبي"
نظرات الرجل سقطت عليها، يشبه ابنه حقا لكن بلا جمود أو ربما لو رحل جمود الابن لصار من الأب..
"من أنتِ!؟"
ارتفعت حرارة جسدها.. ارتجفت أطرافها وضاعت منها الكلمات.. هي الضائعة، التائهة.. ومعه هي العسلية
اعتدل ليمسك بالدفة "أحلام، قريبة زينب مديرة مكتبي، هي ستكون جليسة لك حتى تسترد صحتك"
تأملها الرجل بحنان غريب، نسمة، تذكره بنسمة الراحلة كالنسمة، كانت بالثالثة عشر عندما سرقها مرض الموت منه ولم يهنأ بها.. تلك الفتاة تملك نفس نظرة ابنته البريئة
"تعالي يا ابنتي، اقتربي"
تجهم وجه رشدي، والده تبدل كثيرا منذ سقط بالمرض أو ربما برحيل النسمة البريئة بحياتهم، حدقت بالرجل لحظة ثم رحلت نظراتها له تستنجد به
ابنتي كلمة لم تسمعها من أحد منذ رحل والديها وهي ما زالت بالسابعة حتى أنها لم تعد تذكر ذكرياتها معهم
نظراته لها كانت شفافة لا شيء ارتسم عليها، فراغ فعادت للأب المستسلم لمصيره، حبيس الفراش وتحركت، جذبت ساقيها لترحل له
لم يتحرك من مكانه بل ظل ثابتا ثبوت الجبل جامدا جمود الحجر.. 
"بها شيء من نسمة يا رشدي أليس كذلك؟"
تقلص قلبه حتى كاد يختفي من ألم الذكرى، فتاته الصغرى لا أحد يشبها، هي واحدة بالعالم ولن تتكرر
وضع يداه بجيوبه، يحبس بهما أنين مختنق رغب بأن يفلت من بين شفتيه ينعي رحيل النسمة 
وهي لا تعرف عن النسمة شيء..
"ربما، أحلام ستقيم بالغرفة التي بجوارك بابا كي يسهل عليها التحرك إليك بسرعة"
لم ينظر لابنه بل ظلت نظراته عالقة بالعسل الصافي بعيونها، ابنته كانت رمادية العيون كأخيها لكن الصفاء الموجود بأحلام يماثل صفاء ونقاء نسمته الراحلة
"جيد، هل تجيدين القراءة؟"
الموافقة أتت بهزة رأس والصوت ضائع بجوفها والرجل يبتسم برفق وكأن ابتسامته طمأنة لها من شيء لا تعرفه
تاهت عيونها فلم تلاحظ نظرة العجوز الماكرة لابنه، رشدي كان يراقبها، يصورها بنظراته، يترصد بها كي لا تخطئ لكن علي لم يكن يرى ذلك بل له وجهة نظر أخرى
"حسنا، لو رغبت باستبدال ملابسك والتعرف على غرفتك فافعلي أنا لن أذهب لأي مكان"
ودون أن تعي ما تفعل رفعت وجهها للرجل الذي زرعها بمكانها الحالي، ماذا أفعل؟ أنت القائد هنا، أنت النور رغم عتمة ما تمنحه لي
"سآخذها لغرفتها وبعدها سأذهب ولن أعود الليلة بابا لدي عمل هام"
تفهم الرجل ولم يعترض..
**** 
كل تلك المدة وجراحها لا تندمل وما انغلق ترك أثر، طبيبة أو لا لم تتفوق على صفوان، عرف كيف يجعلها تندم بحق
أفسد جمالها بخبرة طبيب تجميل.. أوجعها بأصابع طبيب ماهر.. ما سرك صفوان؟ لا أحد يعرف حقيقتك سواه.. البئر الذي يحوي كل الأسرار، سبب كل مآسيها.. الريس
هارون
والآن وجع من نوع آخر، زلزال يهز كيانها، روحها حتى أنفاسها، زعر سيطر عليها طمس جراحها تحت شدته، زعر من نوع لا يمكن أن يغفل عنه أحد، نوع خاص جدا، مؤلم جدا، وفاضح جدا
دورتها الشهرية تأخرت.. وصدمة، رعب جنون، هلع
كانوا مرتان فقط والواقي كان ممر السلام والأمان فماذا حدث؟
احتمالات التمزق واردة، انت طبيبة وتدركين ذلك.. كان عليك الحذر أكثر
حدقت باختبار الحمل الذي استطاعت الحصول عليه بين الدواء دون أن تشعر هندية.. وباب الحمام يقف أمامها وللحظة ظنت أن له عيون تنظر لها بحقد واحتقار وفم مزموم يرغب بنعتها بأبشع الصفات
أغلقت عيونها مانحة الدموع فرصتها بالهطول ولكنها دموع لا تغسل أي عار فالعار لا ينزع عمن التصق به.. كالخفاش يلتصق ولا يخرج إلا بالدم نازعا معه الروح، الحياة، الخطيئة
بخطى مهزوزة من الخوف وليس من جراحها القديمة، من انتظار حكم الإعدام تحركت للحمام، هندية بالخارج تعمل ببيت أحدهم بعد أن تركت هارون وبسببها
هذا وقت الانتقام، دفع الحساب والفاتورة طويلة..
كم من الوقت مر؟ 
ارتجفت يدها التي تخفي جهاز الحمل بها وبيدها الأخرى كانت تمسك الشيكان، الثمن، ثمن شرفها الرخيص
أمام المرآة رأت انعكاس لوجه امرأة شاحبة الوجه يديها ترتجفان وهي أخيرا تمسكت بوهم الشجاعة الغير موجودة ورفعت الجهاز أمام عيونها..
اتسعت عيونها المغرقة بدموع الخطيئة، خطان
حامل!!
الهواء تجمد حولها، برودة تعصرها، الوقت سكن توقف عند رؤية الخطان وسقط قلبها بين أقدامها جبانا لا يقوى على مواجهة الحقيقة
اهتزت ساقاها وتراجعت خطوة إلى الخلف بلا وعي، كأنها تلقت صفعة من القدر، صفعة قاسية أعادتها لتلك الليلة الملعونة 
الليل الذي بيع فيه جسدها، لا عن رغبة، بل عن قسوة العالم أو كذبة الانتقام، عن صفقة دنيئة سجلت بورقة وشيك
ارتعشت شفتاها، ودموعها عادت تنساب بلا وعي، تتساقط على جهاز الاختبار وكأنها تحاول محو النتيجة، تكذيب الحقيقة
صوتها خرج مبحوحا، واهنا وضعيفا لا يقوى على مواجهة الصدمة "لا.. مستحيل.. ليست هذه النهاية"
بأقدامها الحافية عرجت لغرفتها، بالهاتف نفس الرقم الذي لا يمنحها أي حياة، حاولت مرة واثنان حتى شهقت بنشيج الألم وصراخ مكتوم مؤلم من اليأس والندم وسقطت
الفراش تلقاها بلا رأفة فلا تستحق أي رأفة.. يداها التفت حول بطنها بوعي وإدراك أن هناك شيء ينمو هنا وعليها أن تخفيه قبل أن يولد، شيء لا ذنب له
انفجرت بالبكاء، بكاء مبحوح يحمل في طياته ندما لا يغتفر ويأسا لا يداوى
تذكرت عينيه حين تركته بالسيارة آخر مرة، ببرود قاتل دفعها لطريق لم تكن تعرف نهايته وأسقطها بالعذاب
رفعت الشيكات أمامها، المبلغ الكبير، وبدت الأوراق أثقل من روحها والآن..
تدفع الثمن الحقيقي.. روح جديدة تنبض داخلها من ذلك الشيطان
كانت تنبض بنبض امرأة غريبة عنها، مكسورة، منطفئة، لم يبق منها شيء سوى رماد الندم "أنا ضائعة.. ضائعة يا رب"
لابد أن تجده، تخبره، يحمل معها نصيبه من تلك المصيبة، الروح ليست لها وحدها، بل نتاج اندماج جسدين هي واحد والشيطان الآخر
بصعوبة ارتدت ملابس لا تعرف شكلها.. الدموع كانت كالضباب على عيونها، توقف الرؤيا.. توقف الطرق.. وطريقها أصبح سد
المبنى كان كما عرفته.. السيارة الأجرة انتظرتها كما طلبت من السائق، جراحها كانت تئن من الحركة ومع ذلك كانت تتحرك بإصرار لتجد مخرج للسد الذي وصلت له حتى ولو تسلقت الجدار ستفعل على يداها وقدماها
رجل الأمن لم يكن الرجل الذي رأته مع الشيطان بل شخص مختلف، حدق بها بعيون سوداء ضيقة، رأس أصلع ووجه مستدير "نعم يا فندم"
وجذبت صوتها من العالم السفلي الذي انغرست فيه بلا إجبار، اخترت طريقك فعلى ماذا الندم؟
"السيد جسار من فضلك"
نظراته مرت على جسدها الذي نحف ووهن وكدمات وجهها غير المخفية ثم منحها الرد الصادم "ليس هناك أحد باسم جسار هنا"
شحبت، ارتجفت شفتاها، البرودة مرت بكل شرايينها ولم ترتد صريعة الصدمة "بل هناك، أنت لم تكن موجود وقت أتينا هنا"
وتحركت للمصعد ولكنه لحق بها "مدام انتظري، هذا مصعد خاص ولا يدخله سوى من معه الكارت الخاص"
تجهم وجهها أكثر وسقط اليأس بقلبها.. هل كان وهم؟ هل سقطت بشباك نصاب؟
"أنت كاذب، أنا صعدت معه بهذا المصعد، افتحه لي ودعني أصعد وهو سيخبرك أنه يعرفني"
القوة التي تتحدث بها زائفة، مستعان بها من قلب يدق بوهن.. قد لا ينبض مرة أخرى لو أدركت انها أصبحت وحدها بتلك الدوامة المهلكة
"مدام أخبرتك انه خاص والكارت لدى السيد منصور وزوجته ولا يسمح لنا بالدخول به"
تجشأت مرارة أخطائها كلها مرة واحدة، هنا، وحدها على مسرح الجريمة تدفع ثمن الخطيئة
قترنحت من الوهن وكاد الرجل يلتقطها لولا أنها تماسكت، أغمضت عيونها كي تستوعب ما يدور حولها.. الأمل يذوب، يفلت من بين أصابعها.. ستحمل العار وحدها 
"أرجوك، لابد أن أراه ولو مرة واحدة، فقط خمس دقائق ثم هو سيخبرك أنه يعرفني، صدقني"
تألقت الدموع، أمسكت الدفة وقادت السفينة والغرق مصيرها
ربما تأثر الرجل بالدموع أو بملامحها الواهنة وكدماتها "تعالي سنهاتف الأستاذ منصور وهو سيخبرنا ماذا نفعل"
أشار لها لتعود معه لمكتب الاستقبال وبعد لحظة تردد تحركت معه، لا فائدة من العناد فلن يفيد 
الهاتف أجاب وصوت لا تعرفه صعد عبر مكبر الصوت "ماذا عيد؟"
ارتبك عيد وهو يتأملها، ذكر امرأة مع رجل متزوج قد يسبب مشكلة "امرأة تدعي أنها كانت قد صعدت مع رجل اسمه.."
ردت هي والرجل قد نسي الاسم "جسار"
"جسار، صعدت معه للشقة عندك يا فندم"
"جسار من يا عيد؟ أنا لا أعرف أحد بهذا الاسم"
وغلبت الدموع قوتها، سقطت، حفرت خطوط الخوف والفزع.. المتاهة التي بطريقها لها.. احتضنت قبضتيها الهواء، قبضت على الماء فتسرب من بين أصابعها.. وهو الماء الذي تسرب بلا تحذير
"سيد منصور.. منذ متى تقيم بتلك الشقة؟ أكيد أنت مستأجر حديث أليس كذلك، جسار كان موجود من قبلك"
هتاف الدهشة هو ما أجابها "من أنت!؟ أنا لست مستأجر من الأساس، أنا مالك تلك الشقة ومنذ ثلاث سنوات، كيف تسمح لغريبة أن تتحدث معي عيد؟"
الصدمة أكلتها ونزعت كل اللحم منها وتركتها عظام هشة ستتحطم وتتلاشى بقاياها مع أول ريح، تراجعت بلا وعي، التصقت بحائط جديد، كل الطرق تؤدي لجدار تلو جدار بلا منفد
العار..
من الجيد عودتها قبل عودة هندية.. لم تفكر كيف ستواجه أمها، ماذا ستخبرها!؟ أنا حامل وبدون زواج!؟
عادت لنفس الغرفة التي تحفظ لها سرها، اختبار الحمل على الطاولة بجوار الفراش، الشيكات بجواره وكأنهم يحتفلون بمصيبتها معا
الدموع شريك جيد ولكنها لا توجد أي حلول، فقط تمنح راحة مؤقتة، تجعل القلب نائما والعقل موقوف عن العمل 
وبلحظة حاسمة ترحل الدموع وقد انتهى عملها وتعود الحقيقة، أنا أغرق، أضيع، تلوثت بالوسخ ولن يمكنني الإفلات، بأصابع آثمة أمسكت الاختبار بيد والأخرى الشيكات، رفعتهم أمامها، الخطيئة وثمنها  
وهنا حلت اللحظة الفاصلة، لكن لم يعد العقل للعمل، سكنت دموعها، وكأنها جفت من فرط البكاء، حدقت بجهاز الاختبار للمرة الأخيرة ثم وضعته على الطاولة برفق، بجانب الشيكات التي ما زالت تحتفظ بآثامها وفتحت الدرج..
زجاجة الدواء الممتلئة تعرفها جيدا، ألم تكن طبيبة وخسرت كل شيء؟
ظلت تحدق بها، أخذتها بيد مرتجفة، تقلبها بين أصابعها، الفكرة تنمو وتنمو في رأسها مثل همسة خبيثة "هذه هي الراحة، نهاية العذاب، لا أحد سيشعر بك ولا أحد سيبكي عليك"
أغمضت عينيها لحظة ورأت.. هارون الرجل الذي امتلك قلبها وألقاه للعذاب بلا رحمة، ليال من جنت عليها، والشيطان.. شيطان أحرقها بنيرانه ورقص فوق رمادها
دمعة ساخنة وربما أخيرة سقطت على يدها تبعتها أخرى ثم شهقة مكتومة، الزجاجة الفارغة سقطت على الأرض وتهاوى جسدها معها أيضا على الأرض ضاربا الطاولة ليسقط الجهاز والشيكات جوارها يواسوها برحلتها النهائية 
رحلة ذهاب بلا عودة، رحلة هي ثمن الخطيئة، استسلمت بلا مقاومة وهي تغلق عيونها وترحل لنوم، نوم بلا استيقاظ
النوم الأخير..
**** 
عزيز أوقف سيارته أمام المخزن وهو يرى سيارات هارون ورجاله بالمكان، سعد قاده تجاه الريس الذي ظل واقفا يحدق بالسماء التي تلونت بلون الغروب، شمس تنهار وليل يهزمها وغضب الريس يهزم هدوئه
"طلبتني هارون"
لم يتحرك، أراد حرق كل شيء من حوله لولا صفوان وأنس، إغلاق القضية أفضل من تركها وفتح أبواب هم في غنى عنها لذا انتظر عزيز قبل أن يطلق شيطانه
"لدي جثث الرجال التي هاجمتني أنا وزوجتي، خلفك بالمخزن"
لف الرجل جسده بلا وعي وكأنه يستوعب الأمر أو ظن أن الجثث خلفه.. لم يرى شيء سوى رجال هارون ثابتة بانتظار أوامر الريس كما هو نفسه
"هارون أنا لا أفهم شيء"
انغلق اليوم برحيل الشمس ورحل معها غموض كل ما كان الريس يعيش به، انكشف اللغز، العدو أسقط نفسه بنفسه والديب يطارد الفريسة الضعيفة والقوية
الظلمة محت الزرقة من عيونه، ليست ظلمة الليل بل ظلام الحقيقة التي وصلته، أخطأ العدو عندما كرر نفسه، تلك اللعبة لعبها خصمه مرة من قبل لذا بصمته كشفته
"من استأجرهم قتلهم وأرسلهم لي"
ولم يكمل أنه يسخر منه، يخبره أنه أضعف من أن ينال ثأره بيده، رسالة بلا كلمات تحوي كلمات خفية داخلها "أنت أضعف مني"
"المخزن لك وهذا .."
أوقفه بحزم "كان، لم يعد مقيد باسمي منذ شهر، أغلق القضية ولا أرغب باسم زوجتي أو اسمي بأي قضية"
وتحرك والهدوء لم يعد يسكنه.. 
"ومن وراء كل ذلك هارون؟"
توقف دون النظر لعزيز، هو بالأساس لم يكن يراه، ظلال ماضي قاتم كانت تغشى رؤيته، حرب واهنة نشأت بالصغر وترعرعت بلا شيء يوقفها والآن تقبض على حياته وحياة امرأته ولن يظل صامتا
"هذا ليس من شأنك عزيز إلى هناك وانتهت مهمتك"
وثار غبار الأرض حول أقدامه وهو يدهسه لسيارته وأنس يفتح له.. الكل أدركوا أن الزعيم غاضب، ثائر، جنونه لا حدود له
لم يدخل بالخلف بل بمقعد السائق وصفوان يتراجع ربما يلحق به ولكنه ضغط دواسة الوقود بقوة جعلت الإطارات تصرخ ناحته آثارها بالأرض كذكرى لتلك الليلة التي لن ترحل ذكراها بسهولة
الهاتف يقطع سكون الليل من حوله.. يشاركه سيارته
"هارون"
عوائه قطع سكون الليل حتى ولو كان داخل السيارة، لن يوقفه شيء ولا أحد
"أين هو!؟"
تراجع الكبير من نبرة الجنون بصوت الزعيم، يعرفها، يفهمها
لقد عرف..
"هارون اهدأ"
الهدوء كلمة اختفت من عقله وسقطت من قاموسه، فقط حقه، انتقامه، ثأره، تلك هي الكلمات التي ملأت الأجواء حوله، غشت عيونه، أوقفت تفكيره 
"كنت تعلم أنه وراء كل شيء، أنت شريكه بكل ما كان"
لن يقبل بطريقته لكن ليس الآن وقت الحساب "هارون أنت لا تعي ما تقول"
ضرب المقود بقبضته بقوة وصراخه لا يتوقف "أنا أعي كل كلمة انطق بها كما أعي جيدا ما علي فعله، سأقتله، لن يوقفني عنه شيء هل تسمعني، سأقتله وأقتل من يفكر بالوقوف بطريقي له"
كان لابد من إيقاف الشيطان الذي ضحك لأن القفص انفتح وسيطلق سراحه سيعيث بالأرض فسادا "هو ليس بمصر هارون وأنا عاقبته، نفيته خارج البلاد ولن يمكنه.."
لم يوقف السيارة ولم يثنيه ما سمعه عن إكمال رحلته "ما زلت تحاول حمايته، لم يمكنك وقف كرهه لي بما منحته له بل زدته قوة وغرور، لقد فلت زمامه منك يا كبير وهو سخر منك ولكنه لن يفعلها معي لن يجرؤ هل تسمعني؟ لن يجرؤ"
وضغط الإغلاق بقوة حتى كاد يهرس الشاشة التي عادت تضيء بنفس الاسم لكنه لم يجيب وسرعته المجنونة لا تتوقف 
حتى..
سيارة من سياراته لحقت به، صفوان.. 
تخطاه وهو لا يراه وبجنون لف صفوان بالسيارة ليوقفها أمامه بعرض الطريق وهو يضغط دواسة الفرامل لنهايتها ليتفادى الاصطدام به على آخر لحظة
الكبير أراد إيقافه لكن لا شيء يوقفه.. نزل وصفوان ينزل ليتفاجأ بلكمة من الزعيم دفعته للخلف مصطدما بالسيارة وهارون يعود ليلكمه لولا ذراع أخرى التفت حول ذراعه وصوت أنس يهتف بأذنه 
"هارون اهدأ، هارون توقف"
طار أنس وذراع هارون ترفعه من الخلف ليسقط على سقف نفس السيارة، صفوان استعاد نفسه وتلاشى لكمة هارون بآخر لحظة لتصطدم قبضته بصاج السيارة بقوة جعلتها تتعرج من شدة الضربة وقبل أن يتراجع لفته ذراع العملاق من الخلف ولكن هياج الريس أقوى من أن تقيده أذرع الرجال كان بحاجة لأذرع إخطبوط
جمع راحتيه معا واخترق بهم أذرع صفوان القوية ولكن ليس كقوة مدربه.. الريس
انفرجت أذرع صفوان والريس انفلت ولف جسده وقبضته تصطدم بأنف صفوان والقبضة الأخرى بمعدته
لم يعد يرى أمامه..
جذبه من صدر قميصه وأبعده وهو يفتح باب السيارة، لن يوقفه أحد لكن أنس عاد، سعد انضم له رجلان آخران الكل قيدوه ولكن ولا واحد تجرأ على رفع يده على الزعيم
"اتركوني، ستدفعون الثمن، ابتعدوا عني"
"كفى هارون، جسار ترك مصر وذهابك لن يؤدي لشيء"
دفعهم جميعا وكاد ينجح بأن يفلت، أشجع وأقوى رجال لا يمكنهم إيقافه لكن صفوان تدخل مرة أخرى وبكل ثقل جسده التصق بظهره دافعا جسد هارون لجانب السيارة، ساجنا إياه والرجال أسرعت تقيد ذراعيه وصفوان يخاطبه
"هارون الكبير يقسم أنه نفاه خارج مصر"
"كاذب، هو من ساعده والآن يحميه، لن أتركه، لن أتركهم سويا"
الرجال لم تفلته ولا صفوان "الغضب لن يقودك للصواب هارون، عد واهدأ وخطط وبعدها ننفذ"
بلحظة كان صفوان يرتد للخلف فاقدا اتزانه وتبعثرت الرجال من دفعته وهو يقف بثبات كديناصور هائج يتأجج جسده بالنيران ويكاد ينفخها من فمه فيحرق الأخضر واليابس
وبلا كلمات عاد لسيارته ولفها وتحرك عائدا، الغضب لن يقودك للصواب يا ريس، لن تفلت الزمام وأنت الريس
الرنين توالى وهو لا ينظر للهاتف ولا يجيب والظلام بالخارج يوازي عتمة ظلامه ولا شيء سيوقفه عن الانتقام ولو بعد مليون عام..
**** 
انتفضت عندما علا صوت صرير الإطارات بالأسفل تبعه باب السيارة، هارون
نهضت مسرعة للنافذة.. لم تغفل، المكان ما زال جديد عليها ولم تعتاد عليه فلم يمكنها النوم.. لم تراه.. سيارة واحدة فقط تقف بالأسفل ولا أحد من الرجال موجود
ظلت تنظر بالظلام بلا جدوى ثم فجأة امتلأ المكان بضجيج السيارات والرجال ولكن ليس بينهم هارون..
ارتدت ملابس روتينية ورفعت شعرها وأسرعت تنزل والفزع يملأ قلبها، هل أصابه شيء كالمرة السابقة؟ هي لم تراه و..
مظهر صفوان زرع الرعب داخلها وهي تراه يضع منديل على وجهه ودماء تنشع منه، للحظة ثبتت بمكانها جامدة لا تعرف شيء.. ضائعة.. تسبح بفضاء بلا جاذبية فهو جاذبيتها هو شريان حياتها
"هو بخير لا تفزعي"
لفت وجهها لأنس، كان قد اقترب منها وهي لم تلاحظه، انشغالها بصفوان لم يمكنها من رؤيته بصوت مرتجف سألت "أين هو!؟ ماذا حدث لصفوان؟"
استجابت لها أقدامها وصفوان ظل بمكانه، لن يتحرك قبل الاطمئنان على صديقه
"أعتقد أنه بالمكتب"
عادت لأنس تحدق بوجهه وملامحه نمت عن القلق وهي لا تفهم "ماذا حدث؟"
ظل أنس ثابتا بلا هدى، الزعيم غاضب ولا أحد منهم يجرؤ على مواجهته "هو عرف من وراء ما حدث لكم وهو غاضب، غاضب جدا"
تجهم وجهها والذكرى ترتد لها، الجثث، البرد والقيود.. بلا وعي لمست أثرهم على معصمها ومع ذلك رفعت وجهها لصفوان "وصفوان؟"
لم ينظر لها هذا الأخير بل ظل واقفا كتمثال نحاسي عملاق لا يتزحزح فقط أنس المتحدث الرسمي للأنباء الليلة
"الزعيم"
التفتت لأنس غير واعية ما يقول أو واعية ولكن يصعب التصديق.. هل ضرب رجاله؟
لاحظت ابتعاد أنس دون أن يواجها مما يعني أن ما قاله ليس مزاح
وهل يمزح رجال الديب؟
نظراتها تحركت للمكتب وقلبها يدق بجنون وبلا تفكير تحركت وقبل أن تفتح صوت أنس أوقفها "لا أنصحك بالدخول ليال"
لم تلتفت له ولم توافقه.. هي ليال.. صغيرته، ملاكه.. هي المسك هي فانيليا حياته
هي أنثى الديب
الظلام يشبهه.. عاش وترعرع به ولم يهتم، اتخذه عائلة، التف به وانقاد خلفه حتى كاد يبتلعه حتى انتفض الضوء داخله فجأة بلا سبب
الرغبة بالأبيض كان نبتة صغيرة اندست داخله يوم أنقذ طفلة صغيرة من سارقي أعضاء الأطفال وعندما أعادها لأهلها عرف معنى الأبيض وأراده 
العوائق كانت بلا عدد والكبير ذللها له، علمه كيف يثنيها عن طريقه لكن تركه يفعلها وحده، يخوض الصعاب واحد تلو الآخر بلا مساعدة، يسقط.. ينهار.. يتفتت مائة قطعة ثم ما يلبث أن ينهض.. يجمع شتات نفسه ويعود أقوى وأقوى
الفانيليا تخترق أنفاسه.. لم يتحرك، عاقدا ذراعيه أمام صدره المحترق من لهيب الغضب يرتفع وينخفض من أنفاسه الهائجة كقلبه المتجمد خلف ضلوعه
ذراعيها التفت حوله من الخلف كعادتها واستقرت على صدره.. قلبه
رأسها ارتاح على ظهره وأنفاسها المرتفعة تكاد تصل له.. لم يمكنه الثأر لأنثاه
اللعين سخر منه، حرمه من ذلك والكبير أيضا شارك باللعبة وفازا وانطلقت صافرة الحكم وانتهت المباراة والنتيجة عشرة لهم وهو ملايين الأصفار
فاشل..
أبعد ذراعيها بقوة لم تشعره أنها آلمتها.. ابتعد بصمت.. المقعد احتضنه ويده أسندت رأسه وعيونه انغلقت كي لا ترى اللهيب المتقد داخلهم لكنها امرأته.. نصفه الآخر فهل يظن أنها تخاف منه؟
على الأرض استقرت بجواره ويداها لمست يده الأخرى المستقرة على ساقه.. رأت آثار الدماء الجافة على أصابعه فلمستها وهو لا يتحرك
هو لا يرغب بها الآن.. الوحدة رفيقته المخلصة.. من تتحمله وقت الغضب والفانيليا لن تتحمل
وضعت رأسها على ساقه ولم تتحدث، لا ترغب بمعرفة أي شيء فقط تكون معه ولن تسأل أو تطلب أي شيء فقط.. معه
لم يتحدث ولم يطالبها بالنهوض أو الذهاب وربما نسى وجودها بغمرة أفكاره وغضبه وجسار يرقص أمامه منتصرا
كم لعبة خاضوها ضد بعضهم وكم مرة فاز عليه وانهزم منه؟
لكن لعبة الموت لم تكن بالحسبان، تجاوزت قواعد اللعبة.. حطمت القيود وقدمت دعوة للموت
ما يؤلمه الآن أكثر أن الكبير اتخذ صفه، سانده، بعد أن كان يقف مشاهد، خانه.. تلاعب به وهو صدقه
الآن لا مكان للرحمة.. سيدمر كل شيء ولن يرحم أحد، سيجعله يندم و..
رنين هاتفه.. النهار ملأ الغرفة.. أبعد رأسه عن أصابعه لتسقط نظراته على رأسها المستقر على ساقه وعيونها مغمضة وأنفاسها منتظمة
نامت.. الفانيليا رحلت للنوم فوق ساقه.. ملامحها هادئة، مستقرة  
برفق اعتدل كي لا يوقظها وبلا أدنى مجهود رفعها بين ذراعيه وتحرك خارجا من الغرفة ليهب الرجلان واقفين لرؤيته لكنه لم ينظر لهما وهو يصعد للأعلى وزوجته بين ذراعيه وهو لا يفهمها
وضعها بالفراش وكاد يرتد لكنها لم تفلته، أحكمت قبضتيها الصغيرة حول عنقه وعيونها الناعسة تنفتح لتلتقي بعتمة عيونه المتشحة بجنون الهزيمة.. 
"لا تذهب"
نظراتها كانت راجية وآمرة بآن واحد، رفع يداه ليبعد يدها عنه لكنها جذبته لها حتى التحمت أنفاسهم واقتربت الوجوه وتحدثت على أبواب شفتيه 
"خذني الآن"
مجنونة هي.. ومجنون هو، غاضب.. ثائر مثل الفيضان لكن الفانيليا تأخذ الجنون لمكان آخر وهو يدرك ما تفعله والصواب تركها والابتعاد عنها ولكن هو الآن مغموس بالخطأ، مسير بالجنون
رفعت وجهها ومنحته المكافأة؛ بل مخدر للآلام التي تمرضه، قبلة رقيقة على شفتين باردتين برودة ديسمبر، جامد كالثلج لم يستجيب.. لا، الجائزة ليست جائزة بل مواساة وهو ليس امرأة ليواسيه أحد على حاله
حاول إبعاد ذراعيها مرة أخرى بقوة مناسبة لرقة الفانيليا لكنها قاومت ولم تفلت شفتيه بل منحته عضة أوقفته ونظراتها تلتقي بنظراته المشتعلة 
"فقط خذني هارون ولا تبقى بعدها"
لا يمكن التمرد على الفانيليا أكثر وهي تفلت عنقه ولكن لتمرر يداها على أكتافه لتفك أزرار قميصه وتخترق بيداها فتحته لصدره تعرف كي تؤثر على الديب وتوقف غضبه ولو للحظات وهو انقاد لها
لمساتها تنبض بقوة خفية تذيب غضبه، مجرد لمساتها تمنحه أول الخيط وهو جذب البكرة كلها ودفن جنونه بين أحضانها، مانحا إياها لمحة عن شراسة الذئب وحدة أنيابه
لم يكن يرى الفانيليا بل جسار.. الكبير.. الماضي.. ظلام الملجأ، برودة البلاط.. هزيمته
سقطت مهزوما بجوارها، متعب، منهك من حمولته الفائضة عن طاقته.. الهزيمة تأتي من أقرب الناس
لم يضمها له بل ظل على ظهره محدقا بالسقف، فراش جديد، غرفة جديدة بذكرى سيئة
وضعت رأسها على صدره كما اعتادت أن تفعل لكن لم تخبره برغبتها بالنوم بل صامتة وهو تقريبا لا يشعر بوجودها لكن عندما قبلت صدره سقطت نظراته على سواد شعرها الذي يشبه سواد قلبه بتلك اللحظة
"تحبك صغيرتك"
كلمات بسيطة لكن تحمل كل معاني العشق الذي تحمله له.. كل الأمان الذي يمنحه لها كل الامتنان لرجل كان سبب بعودتها للحياة، كلمات تحمل غرام.. غرام لرجل أصبح كل شيء بالنسبة لها
رفع ذراعه أخيرا ولفها واضعا قبلة على رأسها وهي تغمض عيونها وقد شعرت بدقات قلبه تهدأ تحت أذنيها وأنفاسه تنتظم ففعلت المثل
نامت..
**** 
"أنا وصلت يا مي"
الليل كان قد سقط منذ وقت طويل عندما دخلت هندية تحمل أكياس الخضار والخبز ومستلزمات البيت
لم تنتظر رد ابنتها فربما نائمة من أثر الدواء، خلعت الحذاء وتحركت للمطبخ تضع الأكياس "أحضرت لك كل مستلزمات المحشي، ورق العنب طازج كما تحبينه"
تركت الأكياس وتحركت لغرفة ابنتها وابتسامتها تعلو وجهها، سعيدة لأنها بدأت تتحسن والجروح تلتئم ولم تدري أن جرح كبير نزف حتى أودى بحياتها
تجمدت على باب الغرفة.. شحبت، ارتج قلبها من المشهد.. ابنتها الوحيدة ممددة على الأرض وزجاجة دواء بين أصابعها
لم تفكر بما وقع حقا بل خيل لها عقلها ونبض قلب أم، أن ابنتها احتاجت دواء ولم تجده
"مي، ابنتي"
اندفعت بفزع تجاه الجسد الملقى على الأرض، شاحبا، بل أبيض ولا نقطة دماء، شفاه زرقاء فقدت لونها الوردي.. جسد مرتخي كورقة شجر ذبلت وتساقطت راحلة
سقطت بجوار جسد ابنتها ترفعه نحو صدرها وما زالت تحمل أفكار مختلفة عما أصابها
صرخت، نادت، هزت، فعلت كل ما باستطاعتها ربما تجيبها، طعنات متتالية وجهت للقلب مباشرة، ابنتها الوحيدة لا تجيب.. ليست معها لتواجه السقوط الذي تسقطه بسببها
"مي.. مي ماذا حدث!؟"
من بين الهياج الذي لفها سقطت عيونها على التحليل.. برقت عيونها واتسعت.. لا، كذبت ما رأت.. ليس حقيقة بل حلم، كابوس لعين.. مدت يدها المرتجفة ودموعها لا تتوقف.. تؤازرها بمصيبتها التي تسقط عليها.. 
رفعته أمام عيونها.. الخطان واضحان.. هل حقا ما تراه؟ 
"مي.. مي انهضي وأخبريني ما هذا!؟"
الشيكات تناثرت بنفس المكان ورأتهم، الثمن، ابنتها غانية، عاهرة، امرأة رجال وبثمن غالي.. غالي جدا والشيكات تشهد
سقطت الشيكات بجوار الاختبار بلا وعي منها وصرخة مدوية مزقت قلبها قبل أن تمزق السكون من حولها وقد أدركت ما فعلته ابنتها بنفسها
انتحرت.. 
هل يغسل الموت العار!؟
***** 
فتحت عيونها وضوء النهار يتسرب للداخل، استوعبت ما كان، تنفست براحة عندما كانت رأسها ما زالت على صدره كما تعودت، مكانها، الأمان
حركت رأسها بهدوء كي لا توقظه لكن ما أن رفعت وجهها له حتى رأته يحدق بالفراغ أمامه.. النوم لم يملك القوة على هزيمته.. ظل ما تبقى من الشروق ثابتا لا يتحرك.. رحل عقله لكل ما مر به..
كان يعلم أن جسار يكرهه، منذ أول مرة التقيا فيها وهم أطفال عرف نظرة الكره بعيونه وتصرفاته.. مدربه كان يخبره أن الكره سلاح الضعفاء فتعلم أن يتجنب الكره.. لم يكره لكن كان يبتعد عمن لا يستطيع منحه أي مشاعر
جسار آذاه كثيرا، أراد إسقاطه، نزعه من مكانه، التخلص حتى منه ولو بالقتل لكن ولا مرة انتصر عليه..
ولكن مؤخرا هزمه.. هزمه يوم انتزع أولئك الرجال امرأته منه وأمام عيونه وهو عاجز عن أن ينقذها وهزمه اليوم وهو يمنحه الرجال مقتولة
يسخر منه، يهزأ من قوته ويضحك ملئ فيه ويهتف بعظمة، أنا الملك هارون، أنا هولاكو المنتصر
لطالما رغب بحرمانه من كل شيء حتى حريته، الكبير يعلم وكثيرا ما أخبره أن جسار عاش وسيعيش ويموت سجين الكراهية والتحيز لنفسه، ضيق الأفق
"هارون"
هزة خفية لمست قلبه.. صوتها العذب بلسم جراحه وذراعيها الدواء من كل داء
سقطت عيونه عليها تخفي ثورة المحيط بهما خلف رموشه وسوداء عيونها تمنحه ما لم يعرفه بحياته.. الحنان
"أنت لم تنم!"
كان إقرار تدركه.. تعلم أنه لم ينم لكنها اكتفت أنه معها ولم يرحل لأي مكان، راحته اخترقت وجنتها لعنقها "عودي للنوم ما زال الوقت مبكر"
مررت أصابعها على صدره حتى وصلت للسلسلة وتوقفت أصابعه عن العبث بخصلاتها بنفس الوقت "جائع!؟"
لم تسأله، لم تحفر بعمق ذكرياته ولم تفتح الستائر المظلمة لترى ما خلفها ولكنها تدرك أن هناك ما يجب أن يقال
أبعد عيونه وما زالت راحته ساكنة، فقدت الحركة.. لكن يدها لم تفقد حركتها وهي تقول "سأعد الإفطار"
قالت دون أن تتحرك وهو لم يفعل، كلاهم ظل جامدا بمكانه حتى عادت تعبث بالسلسة تبحث عن كلمات تجذب بها غضبه خارج سجنه "القصر كبير جدا هارون، هل رأيت كم غرفة به؟ لقد رأيتهم كلهم"
عادت نظراته نصف المفتوحة لها ولكنها كانت غامضة لا تمنحها أي معاني، فارغة، حادة، وهي تعلم أنها تخفي الغضب خلفها
"هناك خدم للتنظيف، لن تفعلي شيء، تلك الأيدي لم تخلق لذلك"
وجذب يدها لفمه وقبلها ثم لمح آثار القيود التي أصابتها وقت الخطف فمرر إبهامه عليها والغضب يعتليه مرة أخرى.. لهذه الدرجة يتملكك الكره تجاهي!؟ تعذب امرأة لا ذنب لها سوى أنها زوجتي من أجل أن تؤلمني؟
"كان هناك عطر غريب يأتي مع أحدهم عندما كنت مخطوفة، عطر خشب محترق ونفحة رقيقة، قهوة، وصوت عصا تتبعه، لم يقل شيئا فقط يمرر عصاه على جسدي بصمت ثم يرحل"
ضغطت يده على يدها بطريقة آلمتها.. تحفر بالجرح المفتوح فيتضاعف الألم، رفعت عيونها له "لم تخبريني بذلك وقتها ليال؟"
تبدل ملامحه جعل قلبها يرجف.. يهتز قلقا، عيونها زاغت للماضي القريب "هل يهم؟"
ترك يدها وأبعدها برفق ناهضا ليرتدي بنطلون قريب ويتحرك للنافذة، رؤيا النهار لن يفيد بشيء لكن ربما يمنحه أمل بأن النور يأتي دائما بعد الظلمة
لو أخبرته من وقتها لعرفه وما ظل كل تلك المدة تائه وجسار يتقدمه بخطوات
صوتها أتى من خلفه قلقا لكن ذهب منه الخوف "لم أظن أنه شيء هام، هل هو؟"
لف وجهه فقط ليواجه نظراتها الحائرة وأجاب بهدوء زال منه نصف الغضب "كان هام ليال"
تحركت لتقف بجواره وعيونها ثابتة على وجهه وشعور بالندم بدأ يتسرب لها لأنها غفلت عن أشياء هامة "آسفة، هل هو من كان وراء ما حدث؟"
للحظة ظل يحدق بها ونظراته تحمل فراغ لم تراه من قبل، لا يشركها بأي شيء، هل هي لا شيء له؟ ألا يجب أن تكون نصفه الآخر؟ 
أبعد وجهه للنافذة، رؤية الرجال تنتشر بالأسفل حول القصر لم تمنحه أي راحة.. الرجال لم توقف خطف زوجته ولم تحميه مما أصابه ولن توقف كره جسار
"من هو؟"
السؤال صريح وقد توقعه "جسار، نائب الكبير"
تراجعت، والدهشة سكنت ملامحها، نائب الكبير ويفعل به ذلك، ماذا عن الكبير؟
"والكبير؟ هل هو من أراد ذلك؟"
سؤال رن بأذنه عشرات المرات قبل أن تسأله هي، بل وصرخ بالرد بوجه الكبير، كلاكم فعل بي ذلك، لكنه يعلم أن الكبير لن يلعب به من الخلف، الكبير يواجه، يصفع بالوجه وليس بالظهر لكنه لم يظن أنه يغفل عن رجاله
"ينفي أن له يد بالأمر"
"وأنت تصدقه؟"
عاد لها وسؤالها يحوم حول رأسه والغريب أنه يصدقه ولا يعلم لماذا يصدق أنه يجهل أفعال جسار ولكنه لا يرغب بقبول المشاعر هنا 
ابتعد من أمامها إلى الفراغ الكبير بغرفتهم، لا يعلم ماذا عليه أن يصدق أو لا يصدق، هو بمغارة متعددة الممرات وهو تائه لا يعرف أيهم تقوده للخلاص.. جسار ممتلئ بالبغض والكراهية حتى آخره.. لم يحب أحد بأي يوم ولم يكتفي بما وصل له، دائما هارون هدفه، الحرب بينهم كانت تنهض ثم تخبو ولكنها لم تتجاوز مراحلها مثل تلك المرة
"ربما، تلك المرة ليست الأولى ليال لكنها تجاوزت كل الحدود خاصة عندما دخلت أنت بيننا"
اقتربت والخوف يصارع ليصل لها "لماذا؟"
نظراته استقرت على وجهها، شعاع من نور الصباح لمع على وجنتها المتوردة، شفاها الساكنة تجذب نظراته، عيونها النابضة بالحب تخفي القلق وليس الخوف، خصلاتها المبعثرة تعجبه، شكلها كله يعجبه
صغيرته تأخذ عقله وقلبه، ملاكه، حبيبته تلمس قلبه برقتها وتذيب غضبه بلمستها
دفع يده بعنقها وجذب وجهها له وانحنى ليقترب منها "ربما لأني أستحق الكره"
وتناول شفاها بقبلة غريبة لم تفهم مذاقها لكنها استجابت بكل كيانها حتى أبعدها وهي لا تمنحه فرصة للحديث بل استنشقت الهواء وهتفت 
"أنت لا تستحق الكره هارون، أنت تستحق الحب، كل من هنا مدينون لك بحياتهم، كل واحد لديه قصة عن الريس وكيف أنقذ حياته أو جذبه من الضياع.. ذلك الرجل لا يكره هارون بل يكره الخير داخل هارون، الريس والزعيم الذي اكتسبتهم بقلبك لا بذراعك"
ابتسامة الزعيم تأتي من النصف الآخر للكرة الأرضية ولا أحد يجذبها سوى الفانيليا
ابتسم..
"الفانيليا تنحاز للريس"
رفعت يدها على صدره، تلمس جزء من مصادر قوته، عضلاته لكنها تعلم أن الجزء الأساسي هو قلبه، حبه للخير، لرجاله، لها
"الفانيليا ترى ما لا يراه الريس ولا يرغب بالاعتراف به، أنت تحمل الخير داخلك حبيبي وتحارب من أجله ولولاه لما اخترت الأبيض ولما بقي رجالك حولك يمنحون حياتهم لأجلك بلا تفكير"
ظلت أصابعه تعبث بعنقها، مستمتع بملمس شعرها الناعم والفانيليا تريح قلبه بكلماتها، تصنع له كعك الفانيليا وتسد جوعه منها، الصغيرة تهزم الزعيم
"تعلمت الكثير عنهم بوقت قصير صغيرتي"
أحاطت وجهه بيداها، تحب ملمس شعر ذقنه الطويل، لحيته التي لا يزيلها ولكن لا يدعها تطول أكثر من اللازم "بل عنك حبيبي، أحب أن أعرف كل شيء عنك فكل قصصهم مرتبطة بك وأنت منقذهم كما كنت معي هارون، أنت لم تنقذ حياتي فقط أنت منحتني حياة لم أكن لأحلم بها وسأظل عمري كله مدينة لك بها"
قرب وجهه منها حتى التقت الأنفاس "لست مدينة لي بأي شيء، وجودك معي هو كل ما تمنيته ولا أرغب بسواه"
"وأنا لن أكون سوى معك"
جذبها له وهي تعلقت بعنقه وذراعه تلفها بحزم وتملك، أغمض عيونه والراحة تتحرك طاردة الغضب بعيدا بتلك اللحظة.. الهدنة بدأت مع جسار ولكن لن تطول فهو لن يترك حقه تلك المرة والمواجهة آتية 
إما قاتل أو مقتول..
الإفطار لم يكن كما اعتادت عليه من هندية ولا كما تحب، ثمية والطاهي يتعاملون بطريقة مختلفة، الثراء عنوانها لذا صمتت ولم تعلق طالما هو لم يفعل
عند السيارات افترقوا ذهبت مع أنس للعمل الجديد حيث الفندق ومكتبها الذي تم إعداده لها وهو وضع قبلة على جبينها وانتظر حتى قاد بها أنس السيارة ورحل
لم ينظر لأنس ولم يتحدث معه ولا مع صفوان الذي نال كدمة تحت عيونه من الريس،  دخل سيارته وهاتفه يبدأ العمل وهو يعد نفسه للعودة للغضب بعد رحيل الفانيليا والكبير اسمه يضيء الشاشة وهو أبعد الهاتف
لم يجيب..
لأول مرة منذ ثمانية وعشرين عاما لا يجيب نداء الكبير ولا يهتم، غضبه فاق الحدود ولولا الرجال بالأمس لما عرف ماذا كان سيفعل وربما أشعل النيران بكل مكان يخص جسار 
ولكن..
من قال إنه سيمرر ما كان!؟ 
عندما يسقط الذئب لا يفكر في الهروب بل في الانتقام ولا يلوم الذئب في عدوانه إن يكن الراعي عدو الغنم.
الذئب نادرا ما يظهر مشاعره لكن وقت الشدة أو الاختبار يلجأ للعنف والهجوم، وقد قيل "حين يختبر الولاء، تموت الحياة في العيون وتتكلم الأنياب"
والآن وقت الأنياب
"هل أنت بخير؟"
لم ينظر لصفوان وهو يسقط الهاتف بجيب الجاكيت ونظراته للطريق بالخارج "نعم"
تنفس صفوان بقوة فهو لا يستطيع ترك صديقه هكذا، يخفي الغضب خلف هدوء زائف يعرفه جيدا "الكبير قال.."
نبرة الحزم أوقفت صفوان، جعلته يدرك أن لا مجال للنقاش هنا فقط تنفيذ الأوامر، أوامر الزعيم "الكبير لم يعد يعنيني بعد اليوم"
نظرة من صفوان له بالمرآة جعلت صفوان يدرك أن لا عبث بالكلمات ليس بعد ما كان
"والآن"
قراره نابع مما مر به "لا كبير بعد اليوم"
الغضب لا يملك عيون ليرى بها ولا عقل ليفكر به، الغضب طوفان، حمم تحرق، تذيب لكن بلا اختيار، يأخذ الأبيض والأسود وكل الألوان ماحيا كل شيء بطريقه
هم من صنعوا منه ذلك الوحش، لم يكتفوا بالظلام المعتم الذي زرعوه داخله بل لونوه بأسود قاتم وزادوا عليه 
لم يمنحوه فرصة ليظل بالأبيض، سرقوه.. جذبوه للوحل وهو تعب من المقاومة ولن ينتظر حتى يسقط مهزوما
"لا تدع الغضب يهزمك، أنت لم تفعل يوما"
التفت وجهه لعيون صفوان بالمرآة، صوت العقل، مرآة الحقيقة، لكنه لا يرغب بهم الآن، أغلق الباب بوجهه واختار الانتقام
"لذا هو انتصر ولن أسمح له بتكرارها"
"هو لم ينتصر هارون، أنت بخير وليال كذلك و.."
النبرة تعود والقوة تهز "تكذب على من؟"
زم صفوان شفتيه ونظراته تفر من الزعيم، قبضته تقبض بقوة على المقود، هو لا يكذب هو فقط يضع لمسات تجميلية على الحقيقة لكن الريس يراها ويراها جيدا مجردة من أي تجميل ولن يفوت الحساب
"لديك امرأة بحاجة لك"
دفع قبضته بباب السيارة بقوة غضبه وعوائه قد يصل للسيارات المجاورة "لدي امرأة ترغب برجل شجاع وليس جبان يفر من المواجهة، رجل قادر على حمايتها لا أن تنزع من يده ويقف عاجزا عن الدفاع عنها"
"كدت تموت وأنت تدافع عنها هارون"
"ولكني لم أمت، لم أمت وأعيش أحمل عار العجز ولن يزول سوى بموته أو موتي، لن أتركه"
النيران التهبت بعيونه وهو يواجه صفوان الذي أوقف السيارة أمام باب الشركة ورجل الأمن يسرع ليفتح للريس وما زالت نظراته تحرق صفوان
لن تدفع امرأته ثمن خطيئته.. جسار، الكبير، هو نفسه من عليهم دفع ذلك الثمن الذي يدينهم به القدر ولن يتنازل عنه
ثمن الخطيئة..
**** 
حكايتها تخرج من علبة ملفوفة بالرمادي.. بين الأبيض والأسود
لا هي عاهرة ولا هي شريفة
تدفع ثمن خطيئة لم ترتكبها، دعارة التصقت بها بلا أي وجه حق ودفعت ثمنها وما زالت تدفع ولا تعلم متى ستنتهي من سداد الدين!؟
حياتها بالفيلا كانت مختلفة أخذت وقتا حتى اعتادت عليها، لم تعرف ماذا يعني خدم ولا أشخاص تنتظر أن تلبي لها احتياجاتها، ملابسها نظيفة وجاهزة بالخزانة بلا مجهود منها.. هل الجليسة تنال تلك الحياة؟
"تعالي أحلام، ظننتك نائمة!"
كانت الثامنة صباحا وهي لم تنال نوما هادئا، جامد الملامح لم يزورها منذ عدة أيام، تقريبا اسبوع منذ أحضرها، وهي لا تعرف كيف تقود وحدها، اعتادت أن يفعل أحد لها
والديها، سعد، هارون ومن بعده جامد الملامح ولا مجال للمقارنة كأنك تقارن بين الأبيض والأسود.. ليتني احتفظت بك هارون، أحتاجك يا ريس..
"لا حضرتك، تعلم أني أستيقظ مبكرا"
تحركت له ووقفت أمام الفراش، الرجل كان متحفظ معها الأيام السابقة وهي أيضا والعمل كان الأساس لكن مؤخرا بدأ يعتاد عليها ويرتاح لوجودها الهادئ 
"هل أطلب لحضرتك الإفطار؟"
ابتسم وملامحه التي تميل لملامح ابنه تعجبها "ما زال الوقت مبكرا، هل تناولت خاصتك؟"
نفت برأسها وتحركت للدواء "ليس بعد، الدواء وبعدها تغتسل"
عادت له وتناول الدواء وعندما خرج من الحمام كانت قد استبدلت الأغطية ورتبت الفراش وفتحت النوافذ فابتسم وقال "والدة رشدي كانت تحب أن تفعل مثلك، تفتح نوافذ البيت كله وترتبه قبل أن تتناول أي شيء"
قبل أن يصل للفراش قالت "ما رأيك بالجلوس هنا وتناول الإفطار أمام النافذة؟ الجو اليوم مشمس وجميل؟"
ابتسم وتحرك معها للمقعد "معك حق فقد مللت الفراش، وأعجبني الجلوس هنا كالأمس، أنت تمنحيني طاقة إيجابية أحلام"
جلس وهي تلف شال حول عنقه وتحاول منحه الراحة، هو عمل ربما تسدد به ما تبقى من الدين 
"أرغب بإفطار غير تقليدي أحلام"
حدقت به فابتسم وأكمل "فلافل بالإسكندراني، فول بالزيت الحار، باذنجان مقلي وبطاطس وفلفل أخضر حار"
فغرت فمها مما قال فضحك من مظهرها حتى دمعت عيونه وقال "اهدئي بالطبع لن أفعل هي مجرد رغبة، حلم مثل اسمك"
لمعت عيونها، لم ينتبه أحد لاسمها من قبل، ولا حتى هي، أحلام!! حياتها كلها كابوس وراء الآخر ولم تنل حلم جيد بأي يوم
لا شيء نالها من اسمها..
اقتربت، تغاضت عن الأحلام لأن لا مكان لها، لا هنا ولا بأي مكان، الواقع دنياها والكابوس آخرها 
"تعلم عن الإسكندرية الكثير وحضرتك لم تكن تعيش هنا"
هز رأسه ونظراته تخترق الطبيعة بالخارج.. سماء صافية، شمس مشرقة، صوت العصافير تمنح راحة غريبة، راحة افتقدها منذ سنوات كثيرة
"والدة رشدي كانت هنا، عرفتها عندما كانت تدرس بجامعة عين شمس حيث التنسيق ألقى بها هناك لأراها وتبدأ قصتنا معا"
ظلت صامتة احتراما لذكريات الرجل، مندهشة أنه بدأ يحكي لها فهي مجرد جليسة ولها اسبوع ولم يفعل خلاله "أحببتها من أول نظرة وأمضينا معا أجمل وقت، كنت بآخر سنة لي وهي بالفرقة الأولى، انتظرتها حتى أنهت دراستها وأتيت هنا مع والدي ووالدتي قبل وفاتهم وخطبتها"
قصة حب ناجحة أثمرت عن رجل جامد لا يعرف عن الحب شيء
"من الواضح أن حضرتك كنت تحبها جدا؟"
لمعت عيونه أمام الفراغ أمامه وكأنه يجذب الذكريات من جوف الماضي والتي لم يعد يملك سواها الآن، ذكريات عاشها بسعادة ودمرها يوم تزوج ناني محاولا تجديد شبابه بامرأة تصغره بكثير من السنوات كاذبا على نفسه أنها تمنحه السعادة فلم تمنحه سوى العار وهو من دفع ثمن الخطيئة.. 
بل نسمة..
لمحت الحزن يتجول داخل مقلتيه، نبرة صوته تؤازره، كلماته تعلن عن الندم "ولم أحب سواها، هل ستمنحينني إفطار جيد؟"
تفهمت رغبته بغلق الحوار، هي حياته وهي غريبة عنه ولن يمنحها أكثر من ذلك وتمنت لو عرفت من نسمة التي تحدث عنها يوم رآها
لم تجعل منيرة تعد شيء بل فعلت هي، منحته إفطار شهي تناوله بشهية وهي تراقبه حتى انتهى بسعادة "هذا رائع يا فتاة"
أبعدت الأطباق ومنحته الدواء وتراجع بالمقعد ناثرا نظراته بالحديقة المتفتحة الأزهار بالأسفل "هل والديك موجودين أحلام؟"
كانت تقف بجواره، تنتظر أوامره، كثيرا كان يأمرها بالجلوس ولكنها لم تعتد ذلك بعد "لا، ماتوا بحادث وأنا بالسابعة"
كل الأيام السابقة لم يسألها شيء عن نفسها وهي لم تتحدث، الرجل كان يضع حدود بينهما واليوم ينزعها
لف وجهه لها، لا تحب تلك النظرات التي تحمل الشفقة، تغيظها، تذكرها بحياة البؤس التي عاشتها "من تولى أمورك؟"
إجابة مختصرة تؤدي الغرض، لم تخبره عن هارون وحياتها وسط عائلة أخرى انتمت لها ثم بغباء خرجت من بين أحضانها "أخي"
أبعد وجهه ولم يمنحها أي تعبير والصمت لفهم لكن سرعان ما طالبها بقراءة كتاب أحضرته من المكتبة العامرة بالأسفل، رشدي يضع بها الكثير من الكتب ولا تعلم هل قرأ منها شيء أم لا؟
المساء يهرول رغم ساعات النهار الطويلة بالتوقيت الصيفي،  منحته دواء الليل بعد العشاء وسكن جسده بالفراش وهي قريبة منه جدا ترتب الوسائد خلفه وهو يبتسم ويقول 
"أنت تبعثين الراحة بحياتي أحلام"
ابتسمت ونادرا ما تفعل من كثرة الهموم عندما انفتح الباب فجأة ورأت جامد الملامح يدخل
انتهت من ترتيب الوسائد وارتدت معتدلة بجوار الفراش ولم تنظر له، كانت تشعر بالراحة بابتعاده الأيام السابقة، والده يختلف عنه كثيرا رغم أن ما قرأته عنه لا ينطبق على الرجل الذي عرفته..
"مساء الخير، كيف حالك بابا؟"
لم ترى وجهه المتعب بعد تلك الأيام بدون نوم وعمل متواصل بل وسافر القاهرة ولم يمكنه العودة إلا بعد أن انتهى وعاد مرهق لكن استمر لإنهاء تكليفات هارون.. 
الرجل يكتفي ببريد الكتروني واحد يتضمن مشقة ليالي من العمل المتواصل لإتمام ما يريده وهو لا يتخاذل، النجاح رغبة تسكن داخله، قطار لا يتوقف إلا عند إتمام المهمة بلا اهتمام بالعقبات بل يدهسها تحت عجلاته..
والآن ثورة تنهض خلف قناع الجمود الذي يرتديه بسبب ما رآه وسمعه.. 
ماذا كانت تفعل بالقرب من والده بتلك الدرجة؟ كلمات الرجل ماذا كانت تعني!؟ 
العابث يظن الجميع عابثين مثله حتى ولو كان والده..
"مساء النور بني، أنا بخير، اشتقت لك"
لم تلين ملامحه ولم تعبر الرمادية عن ثورته الداخلية ولم يبدي اهتمام لكلمات الاشتياق الغريبة "العمل لا يتوقف"
وأخيرا رفع وجهه لها ولكنها لم تمنحه مذاق العسلية التي يرغب بها بل احترق سكر العسلية داخل بؤبؤ عينيها بلا معنى، هل غاضبة؟
"كيف حال أحلام معك بابا!؟"
ابتسم الرجل ولم تفوته نظرات ابنه لها وإن لم يفسرها جيدا، يعلم أن ابنه يهوى النساء لكن ليس جليسته "رائعة"
نبرة الحماس جعلته يعود لوالده لا يفهم ما يحمل صوته من معنى ولكن يرى لمعان عينيه للفتاة "تبدو مستمتعا؟"
ضحك الرجل براحة وسعادة "جدا فهي فتاة رائعة بكل شيء، تمنحني الراحة بقدر استطاعتها"
تورد وجهها وأيضا لم تمنحه أي مذاق للعسلية، ظلت تحميها برموشها وتحرمه منها وهو يغلي، فوران الدم بعروقه يجعله يرغب بالتحرك لها وجذبها له وطحن شفاها بفمه حتى تصرخ وتطلب النجدة دون فائدة كعقاب
قبض أصابعه بجواره متحكما بثورته الداخلية وعلي يراقب ملامح ابنه "هل انتهيت من عملك!؟"
جذبه من بلاد بعيدة لا زاد بها ولا مياه، أعاده للأرض التي يهتز عليها راغبا بتركها ليثبت على أرض تلك التي تقوده للجنون، لماذا لم يمزق ورقتها حتى الآن؟ كلمة طالق لن تأخذ منه أي مجهود
"لا، فقط انتهيت من الجزء الصعب ولم يعد هناك داعي لبقائي الليل أيضا"
أرادت الانسحاب لكن هذا معناه أن تسقط بين ذراعيه.. لن يتركها لكن هل سيفعل هنا؟ وسط الخدم وربما والده يشعر فبماذا سيبرر فعلته؟ لن تبقى يوما بعدها
"إذن اذهب لترتاح تبدو متعب"
"وأنت ألن تنام؟ تأخر الوقت"
صمت الرجل قليلا وهو يواجه نظرات ابنه.. ولمح وجه أحلام الذي لم يتحرك تجاه رشدي ولو مرة، ظلت تحدق بالأرض ولا تشارك بالحديث، غامضة تلك الفتاة، مليئة بالأسرار ولا يمكنه اختراقها لكنه يرتاح لها
"نعم لكن أحلام ستقرأ لي قليلا لأنام"
رفع نظراته لها مرة أخرى منتظرا أن تبادله إياها لكنها لم تفعل، تركته يصارع وحده وكأنها تهمله، تخبره أن لا معنى لوجوده..
"تمام، طابت ليلتك"
وتحرك، طاحنا الأرض والغضب تحت أقدامه، داقا أجراس الإنذار بأنه سيحطم أي شيء يقف بطريقه الليلة فالتجاهل الذي تتبعه معه يثير جنونه وسيجعلها تندم
هل توقعت أن تأخذك بالأحضان وأنت تلفها بالعهر وتجبرها على العرفي؟
أحمق.. مغرور.. مهووس بالعسلية
غرفتها ملتصقة بغرفة العجوز لتستجيب له بأي وقت ومع جرس تم وضعه بجوار فراشها يمكنه استدعائها بسهولة
دخلت وهي تتوقع رؤيته بالداخل لكنها تنفست براحة عندما لم تجده، هل تراجع عنها؟ لم تحاول النظر له ورؤية ما يحمله لها والآن سعيدة ربما قرر تمزيق ورقتهم واعتبارها مجرد جليسة وهذا أفضل مائة مرة
هل حقا ما تدعين يا عسلية؟
حمام دافئ وملابس نوم مريحة بشورت قصير يظهر ساقيها الملفوفة وجاكيت محكم بلون الأصفر جعلها مشرقة كشمس النهار وشعرها البني يتحرك معها وهي تتحرك للفراش يصحبها عطرها الجديد برائحة الورد
لم تدخل الفراش لأن الباب انفتح فأوقفها، منحها تحذير، جامد الملامح وصل، الرمادية سقطت عليها
الأصفر يشع ببريق مبهر، سرق نظراته، حرق الغضب داخلهم، الأبيض بذراعيها العارية ذكره بلون جسدها الذي يمرر أصابعه عليه وهي معه
ناعمة كالحرير..
حبال شعرها الثقيل تكاد تسقط سحرها عليه حتى تجذبه لها وتلتف حوله وتسقطه ضحية من ضحاياه
جمدت، فقدت أي قدره على الحركة وروبه الأزرق يلف جسده الثري بالعضلات، تعرفه كما يعرفها، كلاهم حفظ الآخر ويعرف كل جزء منه، عطره الثقيل ملأ الغرفة، شعره المبلل كالعادة مصفف للخلف ولا خصلة هاربة..
الرمادي بعيونه أكلها كلها حتى دب الفزع بعيونها وتقلب لبني قاتم منزوع منه الراحة وتراجعت خطوات للخلف مقابل خطواته وهي تواجه نظراته بلا هروب فلا مكان لتفر له ولن يمكنها الفرار 
الستائر احتضنتها فأوقفتها وهو يصل لها مدركا أنها لن تذهب بعيدا ولا يعرف من أين تأتيه تلك الثقة؟
القرب مهلك، مدمر، مفقد لكل قوى العالم ومعه فقدان حتى لتوازنها، أصابعها قبضت على القماش الناعم وقلبها تصاعد لفمها طالبا النجدة وعقلها يتعجب!!
لماذا الخوف اليوم؟ هو نفس الرجل فما الجديد؟
سقطت أنفاسه على بشرتها اللامعة ولحقت رائحة عطره بها ممتزجة بالتبغ وفمه يقترب من وجهها "بماذا تعبثين أحلام!؟ العجوز انتهى مع ناني ولن تكون هناك امرأة أخرى بحياته"
اتسعت العسلية أمامه وتلونت وجنتاها بالوردي الذي يحبه وانطلق لسانها معترضا لكن بصوت غريب "أنت مجنون، أنت من أحضرني هنا"
لمسة من أصابعه على وجنتها زادتها ارتجافا وهي لا تصدق ظنونه، لمس عنقها بشفاه غاضبة لكن مشتاقة وارتجفت، أغلقت عيونها وحرارتها ترتفع مائة وخمسين فهرنهيت
همسه داعب عنقها برقة "لتكوني لي وليس لأحد آخر، سأقتلك لو فكرت برجل آخر طالما بيننا ورقة"
ظنت أنها مزقت القماش من قوة الضغط عليه.. لا تجد شيء تبثه الغضب الذي هاجمها سوى أنها تركت القماش الذي لم يمنحها أي شيء ودفعت القبضتين الصغيرتين بصدره بقوة لم تعرف من أين أتتها ليتفاجأ بها مرتدا للخلف من دفعتها 
"أخبرتك كثيرا أني لست عاهرة فكف عن إهانتي، أم أنك لا تستمتع إلا بإيلامي وزيادة كرهي لك؟"
تجهم وجهه وكلماتها تنطلق كسهم حاد يخترق سكون عقله ويمزق هدوء قلبه ويزعزع الجمود عن ملامحه 

                 الفصل العشرون من هنا
تعليقات



<>