رواية سفينة نوح الفصل الثاني عشر 12 بقلم سلمي خالد ابراهيم

       

رواية سفينة نوح

الفصل الثاني عشر 12 

بقلم سلمي خالد ابراهيم

صلوا على النبي 🤎🌻

 (أرقد بسلام..!)

الحياة لا يتناسب معها براءة شاب مكافح..!

ـــــــــــــــــــــــــــــ

_ هرن عليه على المغرب كده يكون روح وقالي عمل إيه أشطا.

نطق بها يتفحص هاتفه للبحث عن الأوراق التي تحتاجها الشركة للتقديم في الوظيفة، بينما أومأ نوح يطرق على باب الشقة بهدوءٍ ينتظر أن يفتح أحد، وبالفعل أتت ذكرى تفتح لهما بحماسٍ قائلة:

_ عملتوا إيه؟ لقيتوا حاجة؟

كاد أن يجيب ولكن وقعت عينيه على سفيان الذي يتناول الأرز باللبن بنهمٍ ثم يعلق عليه:

_ تحفة يا خالتي.. دا أحلى طبق رز بلبن كلته في حياتي.

_ أقسم بالله يا سفيان أنت أبلط وأتنح بني آدم شوفته في حياتي.

أدار سفيان رأسه يرمق نوح وسعدي نظرة متفحصه ثم قال ببسمة بلهاء:

_ تعالى يا نوح خالتي حميدة ومدام داليدا عاملين شوية رز بلبن هتاكل صوابعك وراهم.

ضم نوح شفتيه قبل أن تنفلت تلك السُبة منه، بينما حدجه سعدي بنظرةٍ مغتاظة ثم عادي يجلس على الأريكة دون أن ينبس بكلمة، فنظر سفيان للطبق الذي بيده مجددًا ليجده فارغ فوضعه على طاولة ثم قال بهدوءٍ: 

_ طب عامةً هقعد كام يوم كده في شقتي عشان عندي حالات مينفعش اتأخر عليهم.

أومأ الإثنان بتفهمٍ، بينما أشارت حميدة لذكرى قائلة بمكرٍ:

_ هاتي طبقين رز بلبن يا ذكرى وروحي مع جوزك أقعدوا شوية.

رفع نوح بصره نحو ذكرى مبتسمًا، بينما أومأت ذكرى بخجلٍ تسير من أمامهم هاربة، تقدم نوح من الشرفة يجلس بها ينتظرها، عقله ينسج ألاف التحاليل والتفسيرات لما حدث ولكن بالنهاية تبقى علامة الإستفهام أكبر، انتشله من التفكير صوت حمحمتها الرقيقة وهي تمد يدها بطبق له وهي جالسة جواره، أمسكه بصمتٍ منها يتأمل الطبق بملامح شاردة، بينما قطبت ذكرى ما بين حاجبيها لتسأله بفضولٍ:

_ مالك؟ روحتوا ملقتوش حاجة؟؟

حرك رأسه بنفيٍ يجيبها بشرودٍ:

_ بالعكس لقينا سيبر في نفس الشارع اللي فيه الشركة.. بس للأسف يا ذكريات تقرير الجثث اللي اتقتلت بيقول إن حد خد بعض الأعضاء منهم وكده القضية مش اغتصاب دا سرقة أعضاء في الأصل بس مين ورا كل دا معرفش.. مفيش طرف خيط واحد نمسكه.


شهقت ذكرى بصدمةٍ لحديثه، بينما زفر نوح باختناقٍ يضع الطبق جانبًا يغمض عينيه بضيقٍ لما يشعر به، ولكن شعر بأصابعها تمسك كفه بحنوٍ تهمس بلطفٍ:


_ هتلاقي حل يا نوح هي بس عشان المعلومات جتلك مرة واحدة لكن بعد ما تاكل طبق الرز بلبن دا وتفكر كده هتلاقي كذا حل.


زحفت بسمة طفيفة على شفتيه، يفتح عينيه ينظر لملامحها التي تبتسم له بتشجيع، ليتنهد بصوتٍ عالي يومئ برأسه قائلًا:


_ أدي طبق الرز بلبن اللي هيحل قضية معقدة.


ضحكت بخفوتٍ عليه تردف بمشاكسة:


_ طب بكرة تقول ذكريات قالت.


_ من غير ما أستنى لبكرة.. أي حاجة تقولها ذكريات صح.


غمز بإحدى عينيه ماكرًا، بينما منحته نظرة خجولة قبل أن تبدأ بتناول طبقها، ليعودا بالحديث مجددًا عن أي شيء ولكن تلك المرة تمتعت ذكرى بجراءة جعلتها تناقشه بحبورٍ.


ـــــــــــــــــــــــــــــــ


_ أنا جيت يا مصر.. جيت يا ست الكل.


صرخ أحمد بتلك الكلمات المتحمسة عندما أندفع من باب الشقة نحو الردهة، لتغادر السيدة نعمة المطبخ تهتف بقلقٍ:


_ طمني يا حبيبي أتقبلت في الشغل؟؟


أومأ أحمد بفرحة يندفع نحوها يضمها بقوةٍ ثم يقبل رأسها ويدها بلهفةٍ قائلًا:


_ أتقبلت يا ماما خلاص وبقيت محاسب في شركة الحوت نفسها.. أنا الفرحة مش سيعاني يا أمي..


أدمعت عين نعمة بفرحةٍ تهتف بامتنان وتضرع:


_ أحمدك وأشكر فضلك يارب.. عقبال ما تترقى وتثبت نفسك في الشركة.


أومأ أحمد بحماسٍ مفرط، يتجول بعينيه باحثًا عن شقيقته، ليسألها بتعجبٍ:


_ فين لوجي يا ماما؟؟


ابتسمت بحبٍ وهي تردف بنبرة حنونة:


_ جوا يا حبيبي من أول ما صحيت وعرفت أنك رايح المقابلة وهي قاعدة بتصلي وتدعيلك تتقبل.. أدخل فرحها على ما أحطلك الغدا وأصحي أبوك ياكل معاك.


تلك الصغيرة المشاكسة، دائمًا تستطيع السيطرة عليه بأفعالها البريئة، أنطلق نحو الغرفة شقيقته يطرق الباب ثلاث مرات وما أن سمعها تسمح بالدخول حتى دلف بخطواتٍ بطيئ يهتف بحبورٍ:


_ أميرتي لوجي.


أنتفضت لوجي من السرير تضع المصحف جانبًا تركض نحو شقيقها، تهتف بلهفةٍ:


_ عملت إيه هاه؟ أتقبلت صح؟


ضحك أحمد على لهفتها ليهتف بمكرٍ:


_ عارف أنا نفسك أتقبل عشان مجموعة السكين كير بتاعتك.. أيوة يا ستي اتقبلت.


صرخت بحماسٍ تقفز داخل أحضانه قائلًا:


_ مبارك مبارك لأحلى أخ في الدنيا كلها.


ضمها أحمد بحنانٍ، يربت على ظهرها بحنوٍ قائلًا:


_ بحمد ربنا إني عند أخت في طيبة قلبك يا لوجي.. كله بفضل ربنا ودعائك ليا يا حبيبتي.


ابتسمت لوجي بسعادة ثم سمعا صوت السيدة نعمة تنادي ليذهبا إليها ويجتمعوا على طاولة واحدة يحتفلون بهذا الخبر السعيد.


ــــــــــــــــــــــــــــــ


دلف للمتجر الخاص بوالده، يتجه نحو المكتب الذي يجلس خلفه، يجلس على المقعد أمامه قائلًا بهدوءٍ:


_ السلام عليكم عامل إيه يا حاج؟


أومأ جلال يرفق إجابة حامدة على حاله، ثم قال بثباتٍ:


_ عملت إيه في الوظيفة الجديدة؟


اتسعت ابتسامة حسن يتمتم بفرحةٍ:


_ أتقبلت يا حاج وهبقى موظف أد الدنيا..


ابتسم جلال بفخرٍ لإبنه، يردف برضٍ:


_ ربنا يرضا عنك يا حسن.. مبارك يا بني ربنا يفتحلك الأبواب المتقفلة.


أمن حسن خلفه ثم نظر نحو جلال بخجلٍ يريد أن يحدثه ولكن لا يعلم ما رده تلك المرة، ليسبقه جلال ببسمة تحمل حبورًا:


_ متقلقش يا حسن هكلم أبو حنين.. وكمان شهر ونص كده تتقدملها وهكملك على الشبكة وسد الفلوس بتاعتها براحتك.. بس غصب عني يا بني كان لزم أقولك لاء وتدور على شغل مينفعش أخبط على بيوت الناس وأقولهم جوزوها لإبني وهو صبي عند الصنايعيَّ. 


أومأ حسن بإقتناع لحديثه، يهتف بنبرة هادئة سعيدة:


_ ربنا يحفظك ليا يا بابا.. عارف خوفك عليا والحمدلله أخدت خطوة وعقبال ما أخد خطوة لبيتها بقى.


نطق بجملته الأخيرة بشغفٍ ليضحك جلال عليه وعلى طريقته، يحرك رأسه بيأسٍ على طريقته ولكن ما باليد حيلة هو إبنه الوحيد ويريد أن يراه ببدلة زفافه.


ـــــــــــــــــــــــــــــــ


أتت تحمل قدحًا من القهوة لكل جالسين، ثم جلست جوار فُلة تنتبه نحو سعدي الذي أمسك الهاتف ليتصل بأحمد، وما أن أجابه حتى قال بتعريف:


_ فاكرني يا أحمد أنا سعدي؟؟


_ سعدي إزيك عامل إيه؟


ابتسم لعفويته الطيبة يجيبه بحبور:


_ الحمدلله يا نجم.. قولي عملت إيه في الشغل؟


_ والله يا سعدي أنت شكلك صاحب جدع وأنا حبيتك في الله..


ابتسم سعدي برضٍ له يشكره، ليجيب أحمد بفرحةٍ ظاهرة:


_ أتقبلت يا سعدي.. هشتغل في الحسابات من بكرة.


ابتسم له سعدي بسعادةٍ يردد بفرحةٍ لسعادته:


_ مبارك يا نجم.. أنت تستحق كل خير.


_ الله يبارك فيك يا سعدي.. هبعتلك الأوراق اللي محتاجينها هما لسه عايزين موظفين تاني.. مع أنهم النهاردة عينوا كتير أوي.


انتبه نوح لحديثه يشير لسعدي بأن يسأله عنهم وأماكن توظفهم، وبالفعل استجاب له سريعًا يردف بتساؤل:


_ عينوا كتير إزاي هما عندهم وظائف تستحمل كل دا؟ ومتأكد أنهم هيقبلونا؟؟


_ والله يا سعدي كل اللي خرج من الأنترفيو كان فرحان إنه أتقبل، دا غير أنهم لسه مجددين الإعلان النهاردة وأنهم عايزين موظفين ممكن للفروع اللي برة القاهرة.


علق سعدي بهدوءٍ:


_ يمكن.. هيبان لما نقدم.


ظنه قلق بشأن عدم توظيفه، ليهتف ببشاشة:


_ متقلقش يا سعدي ربنا مش هيسيبك.. أنا كنت مكتئب وحزين زيك عشان مفيش شغل وعايش عالة على أهلى.. وكان صاحبي حسن نفس الوضع وكنا بنشتغل صبيان عند الصنايعيّ والحمدلله ربنا فرجها في الأخر بوظيفة وكله هيحقق أحلامه.. أنت متقلقش وتوكل على الله.


أحب رضاه وتقربه لله، فهتف بصوتٍ هادئة راضٍ:


_ متقلقش عليا يا أحمد.


_ ماشي يا سيدي هقفل بقى عشان أنام بدري وألحق أصحى للشغل بكرة وهبقى أطمن عليك.


أنتهت المكالمة دون معلومة جديدة، فقط أنهم يريدون أعداد أخرى فقط، زفروا بيأسٍ من توقف حالهم، ليعلق سعدي بإحباط:


_ هنعمل إيه يا نوح؟ ملف الألعاب مجبش غير الشعار بس ومكتبش حاجة تانية ولا حتى تقرير زي الشركة التانية..


نظر له بصمتٍ وعقله يحاول ربط تلك المعلومات المفككة ولكن ما من جدوى لينهض قائلًا باختناق:


_ مش عارف يا سعدي بس أنا مش مرتاح الشركة دي فيها حاجة غلط.. كل اللي قدمنا دلوقتي إننا نراقب الشركة والسيبر يمكن يوقع خيط قدمنا..


نهض يتحرك نوح من أمامهم للشقة الأخرى، بينما تناهد سعدي بيأسٍ ثم نهض هو الأخر ليغادر الشقة،  تأملت ذكرى وفُلة فعلتهما وشعرا بالضيق لينظرا لبعضهما ثم أردفت ذكرى بعبوس:


_ نعمل إيه؟؟


حركت رأسها بنفيٍ لعدم التواصل إلى حل، تمط شفتيها بضيقٍ ولكنها عادت تردف بعد تفكير:


_ تعالي نروح لخالتي حميدة ومدام داليدا ونبقى نفكر بعدين..


نهضت كلتاهما باتجه الشرفة ولا يزال عقلهما يبحث عن شيء لإخراج الإثنان من قاع الحزن.


ـــــــــــــــــــــــــــــــ


صباحًا..


_ أنا فرحان أوي يا حسن.. أخيرًا بقيت موظف محترم في شركة.


ابتسم حسن له بحبورٍ، يربت على كفه بحنوٍ قائلًا بتشجيع أخوي:


_ أنتِ ابن حلال يا أحمد وتستحق كل حاجة حلوة في الدنيا دي.


منحه نظرة إمتنان شديدة، ثم هتف بشغفٍ بين ثناياه حماسٍ لشاب يشق طريقه:


_ عارف أول قبض ليا دا لزمًا يبقى مميز يا حسن.. هجيب لبابا مصحف خطه كبير عشان نظره وماما بقى هجبلها الإيرفراير عشان من ساعة ما شافتها وهتتجنن عليها والبت لوجي أختي هجبلها مجموعة عناية بالبشرى.


ضحك بخفةٍ وهو يتخيل فرحتهم بتلك الأشياء، ليعلق حسن بسخطٍ:


_ ليه هتقبض بالدولار كل اللي بتتكلم فيه دا عايز قبض شهور.


زفر أحمد بعبوسٍ، ثم عاد يبتسم مرة أخرى يردف بأعين ملتمعة:


_ مش مهم هبقى أدور على تقسيط ولا حاجة.. نفسي أفرحهم أوي يا حسن.. أبويا تعب معايا أوي وأمي كل يوم تدعيلي حتى لوجي كانت بتساعدني عشان ألقي شغل.. نفسي أدخل الفرحة في قلبهم.


ألتمعت عين حسن بحبٍ لصفاء قلبه، ليهمس حسن بشغفٍ:


_ وأنا مستني أجمع قرش عشان أتقدملها يا أحمد.. بتخيل اليوم اللي دبلتي في إيديها وأمشي وأقول عملتها يا ناس أتجوزت اللي قلبي اختارها.


ضحك أحمد عليه وعلى لمعة عينيه الواضحة، ثم أشار له بيده قائلًا:


_ طب يلا نشتغل بدل ما نترفد في أول يوم.


أومأ حسن يباشر عمله بإجتهاد شديد مع صديقه.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


_ فين نوح يا طنط؟؟


سألت ذكرى باهتمامٍ بعدما لاحظت غيابه عن طاولة الإفطار، لتجيبها داليدا بحبورٍ واضعة قدح الشاي على الطاولة:


_ هتلاقيه في أول أوضة على اليمين.. دي بتاعته ولما يحس إن القضية معقدة بيدخل فيها ومحدش بيدخل عليه...


غمزت لها بعينيها بتسترسل بمكرٍ:


_ بس أنتِ مش أي حد.


ابتسمت ذكرى بخجلٍ ثم نهضت تتحرك نحو الغرفة تطرق مرتين متتاليتان ثم دفعت الباب تراه يقف أمام لوح خشبي يعلق عليه صور كثيرة وأسفل كل صورة بعض الكلمات.


_ قُلت مش عايز حد معايا دلوقتي..


تقدمت تقف خلفه مباشرةً تبتسم بمكرٍ وخاصة عندما لم يحيد عينيه عن اللوح الخشبي، ثم مدت كفيها تستند بهما على كتفه من الخلف تهمهم بنبرة ناعمة:


_ حتى ذكريات يا نوح؟


زحفت بسمة طفيفة لشفتيه ما أن سمع صوتها، ليستدير لها وقبل أن تعيد يديها مرة أخرى جانبها كان يمسكها مرة أخرى ليضعهما حول رقبته قائلًا بمكرٍ:


_ إلا ذكريات حبيبة نوح.


خجلت من نظراته القوية عليها، يديها اللتان ترتجفا منه وتحاول سحبهما ولكن لم تفلح، بل زاد الأمر عندما ضمها بذراعٍ واحد يهمس جوار أذنها:


_ أنتِ الوحيدة اللي تدخلي وتعملي اللي تحبيه يا ذكريات نوح الجديدة..


_ نــــوح!! أبعد شوية.


صوتها المرتبك الناعم جعله يضحك بخفة يزيد من ضمها وكأنه يخبره لأدخلكِ بين ضلوعي، يردف بسكينةٍ مغمضًا عينيه بعدما دثر وجهه بتجويفة عنقها:


_ عايز أفضل في حضنك.. خليني أدوق طعم السكينة معاكِ.


صمتت بعد حديثه المعسول، دفئ كلماته يتخلل عقلها ينبت ذكريات جديدة أكثر مرونة وشغف، زفرت ذكريات براحةٍ تلف ذراعيها حول عنقه بحنوٍ، فإن كان يريد السكينة فهي تريد الأمان وها هو الأمن يحيط بها فالتتشبث به بكامل قوتها.


رفعها بخفة نحوه جعلها تشهق بصدمةٍ تتورد وجنتها بخجلٍ قائلة ببسمة خجولة:


_ بتعمل إيه نزلني!!


_ أمم عايز مقابل!


قالها بصوتٍ أجش، يحيط خصرها بقوةٍ دون أذى حتى تسنح له الفرصة لرؤية معالمها، عبست ملامحها بعدم فهمٍ، تتمتم بضيقٍ خجول:


_ طب نزلني ونتفق على المقابل.


أومأ بموافقة حتى لا تختنق، يساعدها على النزول حتى وقفت أمامه، لتردف بحماسٍ:


_ إيه رأيك نخرج نتمشى شوية.


نظر لها بتقيّم من طلبها ثم قال بمكرٍ:


_ وماله يلا.. بس كده يبقى ليا مقابلين.


تبخرت ابتسامتها بعد ظهورها، تنظر له بضيقٍ قائلة بصوتٍ متذمر:


_ أنت نصاب على فكرة أنا بديك مقابل الأول..


_ عارف ومستغل وحطي تحت مستغل دي مية خط عشان هتكتشفيها الأيام الجاية.. وأنتِ اللي أقترحتي مش أنا.


ضمت شفتيها بغيظٍ، ثم تحركت بتذمر قائلة بعدما منحت لشفتيها إفراج:


_ أتفضل ألبس أنا كده كده جاهزة.


ابتسم على طريقتها المتذمرة، ثم تحرك نحو خزانته يحمل ملابس الخروج خاصته، فلم يأخذ كل شيء فقط ما يحتاجه للشقة الأخرى، ألقى نظرة أخيرة على اللوحة يتأملها بضيقٍ من عدوم الوصول لحل ثم غادر الغرفة، ينظر لذكرى التي أرتدت حذاؤها تنتظره، وإلى جوارها حقيبة ظهر، هتف ببسمة صغيرة نمت على ثغره:


_ يلا بينا.


ـــــــــــــــــــــــــــــــ


_ هي إيه الشنطة دي؟؟


سألها بتعجبٍ من حملها للحقيبة بعناية بالغة، ضمتها ذكرى بحماسٍ تردف بنبرة هادئة حنونة:


_ ملكش دعوة بس خلينا نوصل لعم حسن بسرعة دا أهم حاجة.


أومأ بموافقة وعينيه لا تزال على الحقيبة، بينما لاحظت عينيه فشعرت بتوترٍ أن يعلم خطتها فهذا الماكر لايمكن أن تأمنه، نظرت بعيدًا تفكر بشيء لتبعد عينيه عن الحقيبة، فوجدت محلًا لبيع المصوغات الذهبية، لمحت داخله قلادة معلقة صورتها على الزجاج تحمل شكل زهرة اللوتس، ابتسمت باتساع تشير نحو المتجر قائلة ببسمة متحمسة لتشغله:


_ بص يا نوح السلسلة دي.


أخيرًا أبعد بصره عن الحقيبة ينظر باتجاه الذي تشير نحوه، أعجبه شكل القلادة تحمل شكلًا رقيقًا للغاية، مطرزة بفصوص من الألماس الصغير للغاية، علا صوتها ينتشل تفكيره برفقٍ:


_ عارف زهرة اللوتس معناها إيه؟؟


نظر لها بصمتٍ دون أن يجيب لتسترسل هي بتوضيح حماسي:


_ هقولك.. زمان قرأت عنها إن الفراعنة شايفين إنها رمز البعث والحياة الجديدة بعد الحياة الصعبة.. والمصريين بيشوفوا إنها بداية جديدة.. الزهرة دي كانت في النيل يُقال إنها كانت بتتفتح الفجر وتخرج نور وترجع تتقفل بليل.


لمست كلامتها قلبه وشعر بأن ما ترمز له تلك الزهرة يلامس قلبه، زفر بصوتٍ مسموع ثم عادا يتحركان حتى وصلا لمكتبة عم حسن، دلفت ذكرى في البداية لترى عم حسن ينتظرها يهتف بنبرة ودودة:


_ أخيرًا جيتي! ظبطلك كل حاجة.


أشار على الطاولة الموضوع عليها براد شاي يحمل شكل من العصر الفكتوري، وشمعة حمراء اللون، فراش على الطاولة، وورقة بنية اللون موضوعة بعناية تستعد لما سيوضع عليها..


تقدمت ذكرى نحو الطاولة بعدما شكرت عم حسن الذي ذهب ليتحدث مع نوح، وضعت الحقيبة جانبًا ثم أمسكت العلبة تضع بها قطع الكيك الساخنة، وقدحين مخصصين لهما، وبعض الزهور التي أشترتها في الخفاء من الياسمين، لم يكن جو رومانسي بقدر كانت تخلق حالة من الهدوء لتسكن عقله، انتهت من إعداد الطاولة، لترفع بصرها باتجاه الباب فوجدته يقف يضم ساعديه، يبتسم بحبورٍ، رفعت كفها تشير له بأن يأتي ليتحرك نحوها بهدوءٍ يهتف بدفء:


_ عرفتي منين إني بحب الجو دا؟


فركت كفيها بتوترٍ تجيبه بعدما بللت شفتيها:


_ مدام داليدا قالتلي إنك بتحب الجو دا.. وأنت مخنوق من إمبارح فجبتك عشان تروق دمك.


حرك رأسه بإماءة يجلس على مقعد أمامها، بينما جلست هي في مقابله، لتبدأ جلستهما الهادئة بجوٍ استطاعت ذكرى خلقه، رائحة الكتب وقدح شاي ساخن، أورق بنية قديمة، بعض الآثار الفيكتورية، كل شيء يسحب الطاقة السلبية...


_ لو مكنش حد ساعد الجوازة تكمل كنت هتتقدملي ولا مش هتفكر؟؟


حرك القدح بحركات دائرية ثابتة ليتحرك محتواه بعدها بثباتٍ، ظل دقائق صامتًا يبحث عن إجابة، بالفعل لو لم يفعل سعدي وسفيان كل هذا هل سيأخذ خطوة؟، سمع صوتها المختنق من دموع أردت الفرار:


_ متوقعتش إن الإجابة صعبة كده!!


نعم توقعت يغرقها بحديثٍ معسول، ولكن لم يفعل ظل صامتًا يبدو وكأنها أمر واقع لابد من أن يتقبله، وضعت قدح الشاي جانبًا دون النظر له، تهمس باختناقٍ:


_ شبعت.


كادت أن تنهض ولكن أمسك كفها يهتف بهدوءٍ:


_ بس أنا لسه مقولتش إجابة..


_ شكلها إجابة صعبة فـ بعفيك منها.


زفر بتهملٍ يحرك رأسه بنفيٍ يردف بنبرة ودودة:


_ مش صعبة قد ما عايز اختيار الكلام اللي يليق بيكِ يا ذكريات.. الموضوع إن كان قلبي خربان.. علطول حاسس بالغدر من أقرب الناس ليا فمكنتش عايز أدخلك في دايرة الشك.. أنتِ غير أي حد وقربك ليا هو خوف عليكِ مش عايز في يوم نظرتي ليكِ تكون غير حب وعشان حاجة تانية.


انتباها الفضول وخاصةً صفائها بعد حديثه، لتهمهم متسائلة بفضولٍ، ليضحك بخفوت يكمل حديثه بمقولة: 


_ إذا دخلتم القلوب فأحسنوا سُكناها فإن خرابها ليس بهينٍ.


فلو اتأخرت في أي خطوة يبقى عشان خايف إني أدخل قلبك وأنا اللي أأذيه.


نمّت بسمة طفيفة على ثغرها، تنظر له بسعادةٍ لحديثه، في حين ربت هو على كفها يهمس بلطفٍ:


_ هفضل أقولك يا ذكريات أنتِ غير.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وقفت تتأمل الصحن الكيك الساخنة بسعادةٍ، اتفقت مع ذكرى لصنع الكيك وقسمها بينها وبين سعدي، ابتعدت عن الشرفة ثم دلفت للردهة لتجد سعدي يجلس بعبوسٍ يتأمل الأوراق والتقارير، أطلق زفيرًا ثقيل وهو لا يعلم أي خطوة عليه أن يبدأ، تشتت أنتباه بعدما رأى ظلها يقترب منه ليرفع بصره نحوه بتعجبٍ يرى توترها الواضح، هتفت فُلة بنبرة خجولة:


_ بما أنك عملتلي ينسون فأنا عملتلك شاي بحليب وكيكة وتروق دمك في البلكونة.


اتسعت ابتسامته ينتفض فجأة من مكانه بطريقة أفزعتها لينطلق نحو الشرفة يتأكد من حديثها، وبالفعل وجد كل شيء موضوع بعناية تحمل لمستها الفريدة، ابتسم بامتنانٍ لما فعلته، ليهتف بتأثرٍ:


_ تعرفي إن دي أول مرة يتعملي حاجة زي كده.


رفعت حاجبيها بدهشة، تنظر نحو الطاولة قائلة بتعجبٍ مشيرة عليها:


_ متوقعتش تفرق كده دول شوية كيكة وشاي.. أي حد ممكن يجيبهم.


نفى برأسه ينظر للطاولة بحبٍ يتأمل محتوياتها بتمعن ليحفرها بذاكرته يجيبها:


_ أي حد يجيبهم فعلًا بس مفيش حد جابهم يا فُلة... أنا يمكن تجيلي هدية يوم ميلادي أو عيدية في العيد من عيلتي.. بس إن حد ياخد باله منك ويهتم يعملك بنفسه بدون مناسبة دي محصلتش غير منك. 


ابتسمت بخجلٍ عندما أزاح بصره عن الطاولة ينظر لها، ليجلس على مقعد يهتف بنبرة هادئة حنونة:


_ تعالي أقعدي معايا.


نفت برأسها بيأسٍ قائلة بقلة حيلة:


_ مقدرش.. أنا شوفتك زعلان واتفقت مع ذكرى على الموضوع دا عشان تخرج من زعلك بس صعب أقعد معاك لوحدي.. أنا في حاجات أتماديت فيها أصلًا.. عن أذنك.

تضايق من رفضها ولكن معها حق، يرى إختفائها من أمامه سريعًا، فنظر نحو الطاولة يتأمل محتوياتها تناهد بحزنٍ لجلوسه بمفرده ليمد يده يمسك بتلك القطعة يتناولها بنهمٍ، يتمنى لو شاركته فُلة تلك اللحظة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مر ستة أيام ولم يظهر أي جديد، كل شيء يسير كما هو إلا من بعض الشجار داخل السيبر بسبب الألعاب، ليتخلل اليأس ملامح نوح وسعدي وسفيان بشدة، لن يصمت عنهم اللوا إن لم يحصلوا على أي تقارير تدل على تقدمهم.

يجلسون كالعادة باليوم السابع في الردهة جميعهم يتأمل بعض بصمتٍ وأوراق تقارير الخاصة بجثث القضية أمامهم، وبيان عن شركة الحوت أيضًا، لا يوجد دليل عليهم، نظرت ذكرى نحو نوح بتردد ولكن شجعت نفسها تهتف بنبرة متوترة:

_ نوح عندي أقتراح.

نظر لها بإهتمامٍ بالغ، في حين ركزت حواس سعدي وسفيان عليها، لتكمل بعدما بللت شفتيها بصعوبةٍ:

_ خليني أروح أقدم في الشركة طالما شاكك فيها وأدخل كده كده مـ...

صمتت عندما رأت ملامحه التي أصبحت أكثر شراسة،ينظر لها بتوعدٍ مخيف على تفكيرها، إزدردت لعابها بصعوبة ثم حاولت الحديث لتبرير موقفها ولكن أرتفع رنين الهاتف ينتشلهم من تلك المحادثة المخيفة، نظر سعدي للهاتف بتعجبٍ ثم قال:

_ دا أحمد؟؟

انتبه نوح له ثم قال بنبرة جادة تحمل الريبة:

_ رد عليه وافتح الاسبيكر.. 

أومأ سعدي يضغط على زر القبول ثم مكبر الصوت، يجيب بنبرة ودودة:

_ ألو يا أحمد..

_ أنا حسن يا سعدي.

انتفض سعدي من مكانه بقلقٍ بعدما سمع صوت بكائه، يسأله بقلق:

_ حسن!! فين أحمد؟ أنت بتعيط ليه؟

أجهش حسن ببكاءٍ مرير، يردف بألمٍ غائر، كلماتٌ مخيفة، وقلبٌ مكلوم:

_ قتلوه.. قتلوه عشان أنسب واحد ياخدوا أعضاؤه يا سعدي.. أحمد مات خلاص وأتاخد.. وقع ضحية البطالة و النصابين اللي ماشيين بشعار المساعدة وهما كلاب بتنهش في المحتاج.. أنا مش عارف هكمل ولا هروح لصاحبي بس أحمد وحشني وحاسس إني هروحله.. كان نفسي أتجوز حنين يا سعدي حلم عمري اللي فضلت أحارب عشانه بس مش هلحق..

شعر حسن بخطواتٍ قادمة، فهتف سريعًا بصوتٍ مودع:

_متسبش حقه ولا حقي يا سعدي.. دور ورا الحوت تحت الأرض.. فـ..

أنقطع حديثه بعدما وقع الهاتف منه، يحاول الفرار ولكن حوائط بشرية منعته بقوةٍ، صرخ بكامل قوته وهو ينازع للحفاظ على أخر قطرة في حياته بقهرٍ:

_ أبعدوا عني.. سبــــــــــوني حرام عليكم عايزين مني إيه!

اختفى الصوت وأختفى كل شيء، صمت سعدي بعجزٍ بينما وضع نوح وجهه بين راحتي يده يستند بساعديه على قدمه، بينما وضعت ذكرى يدها على فمها تمنع شهقاتها ولكنها فشلت لتنهض نحو غرفتها تجهش في بكاء مرير، لقت قتلوه الأوغاد، قتلتم براءة شاب يكافح في الحياة للحصول على الحلال ورزق طيب، أنتهكوا حقوق إنسان رغب بالعيش في سعادة صغيرة للحصول على وظيفة ولكن بالحقيقة كان أول طريقه لأن ينتهك ويستباح جسده لتصبح أعضاؤه ثروة يثرى بها الظالم ويزداد جحودًا.

بسمته، حماسه، نظرته الشغوفة، تشجعيه لصديقه، صراخ الأخر ورغبته بالزواج.. كلها تمر أمامه بشريطٍ سينمائي سريع ولكن نهايته حزينة، أغمض عينيه يكبح تلك الدمعة التي تريد الهطول ولكن لم يستطع فما شهده كان أقسى..

آهٌ قتلوك يا أحمد! غادرت ضحية لحياة مخيفة بها وحوش قاتلة تستغل حاجة الضعيف، آهٌ وألف آه يا أحمد، أنت ندبة ستظل محفورة بقلبي لأخر عمري.. لن أترك حقك يا أحمد، الآن أرقد في سلام حتى يعود حقك من هؤلاء الأوغاد.

             الفصل الثالث عشر من هنا

لقراءة باقي الفصول اضغط هنا


تعليقات



<>