رواية سفينة نوح الفصل الحادي عشر 11 بقلم سلمي خالد ابراهيم

        

رواية سفينة نوح

الفصل الحادي عشر 11 

بقلم سلمي خالد ابراهيم

صلوا على الحبيب المصطفى 🤎🌻

سيدتي.. وحدك فقط من عبر سبيل قلبي بسلام، دعيني أخبرك أنك أجمل فتاة رأتها عيني، لقد ماتت نساء العالم بنظري ولم يبقَ سواكِ، ذكريات..أنتِ زوجة نوح نصار فعليكِ أن تعلمي أن اسمك هو ذكريات نوح نصار.. أنتِ هي ذكرياتي الجديدة التي أحيّت قلب مُعقد.

زوجك المخلص

نوح نصار 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

_ هاخد حقي من ذكرى يا جميلة.. خدت اهتمامك وقلبك كله.. ومش هسمح بدا يتكرر تاني كفاية اللي عيشته زمان.. بنتك لزمًا تموت عشان ميبقاش في حياتك غير نادر الشرنوبي وبس.

مرر يده على ملامحها بحبٍ شديد قد يصل للجنون، يتأمل ملامحها الباهتة بحزنٍ والحقد يتدفق داخله، رأى الممرضة تدلف له تخبر بانتهاء وقتها، لينهض يرتدي سترته ثم أنحنى يُقبل جبين جميلة بعمقٍ هامسًا لها بعشق:

_ بحبك.

تراجع للخلف يلقى نظرة مودعة ثم غادر المشفى بملامح متهجمة، يشعر براحة قليلًا عندما أخذ هند وجميلة وسافر بهما على الولايات المتحدة، لن يدعها تقترب منهما مجددًا، أرتفع رنين هاتفه المزعج، لينتشله من جيبه يضغط على الزر ينتظر سماع صوت المتصل الذي قال:

_ آنسة هند عملت العملية خلاص ونجحت.

_ تمام.. شوف اللزم وأعمله.

أغلق الهاتف معه، ثم أنزلق جسده داخل سيارته، يتأمل الطريق أمامه، لقد تجمد جسده تمامًا كالتمثال، يتذكر حديث وحيد له بأخر لقاء..

****

" بقولك عارف بالاتفاق بيني وبينك وبعتلك رسالة فيها بيقولك طز تقولي ميعرفش"

نطق وحيد بإنفعالٍ واضح يتطلع لملامح نادر الباردة يجلس أمامه واضعًا قدم فوق الأخرى، ليعلق الأخر بسخطٍ

_ لو عرف فعادي كده كده هيعرف.. إنما أنت المفروض عارف إنك بتتعامل مع نوح نصار... يعني بيلمح أدق أدق التفاصيل.. فلو عقلك صورلك إنك تقدر تخدعه يبقى الجلالة خدتك زيادة عن اللزوم يا وحيد وهتفضل عايش في المربع بتاعك دا مبتخرجش منه.

أشتعلت عينيه بحقدٍ ما أن استمع لكلماته، فكانت كالبنزين الذي يوضع على حريق ملتهب، حدجه بنظرة حاقدة تحمل غليلًا، يهتف بسخطٍ:


_ واحتجتني ليه أما نوح عجبك أوي كده؟؟


أشعل سيجارته ينفث منها الدخان، يجيبه بنبرة هادئة:


_ نوح نصار عجبني من زمان وتفكيره عجبني و خسارة حادثة صاحبه هي اللي خلته لسه في رتبته دلوقتي بس للأسف اتحداني وواقف مع أكتر إنسانة بكرهها وبيحميها فلزمًا أصفيه.


رمقه وحيد بنفور وتعجب من رفضه لابنته، فلو رفض هند لكان صدق حديثه بكره للإنجاب، إنما يكره ذكرى فقط ولا يعلم السبب، نهض نادر بعدما أنهى سيجارته يهتف بهدوءٍ مثلج:


_ أنا هسافر بهند وجميلة لأمريكا وذكرى هعرف أجيبها بعيد عنه لما تعرف أنهم سافروا ووقتها هخلص حساباتي معاها هناك.. وأنت مهمتك خلصت خلاص لو في جديد هبقى أبلغك.


***


عاد من شروده على صوت رنين الهاتف بإزعاج غريب، شعر بوجود خطبًا ما وخاصة الرقم الدولي ليجيب بحذرٍ:


_ خير؟؟


_ ذكريات ونوح نصار أتجوزوا.


_ أنت بتقول إيه؟ كل اللي بعمله هيروح لو اتجوزها؟؟


نطق نادر بإنفعالٍ شديد، ليؤكد الأخر حديثه بزواج نوح وذكريات نادر الشرنوبي، صرخ نادر بغضبٍ يلقي الهاتف بقوةٍ بعدما أصابه أنفعال غضبًا شديد، يشعر بالإختناق الشديد مما حدث، ليهتف بغضبٍ عدائي:


_ إن شالله تبقى ضلعك يا نوح همد إيدي وأنزعه منك وأكسره.. مش هسيبها تتهنى وأنا متمرمط بسببها!!!


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


رأى المأذون ينزع المنديل عنه يده الممسكة بعم حسن، ليفلتها سريعًا ثم نهض يقترب من ذكرى بهدوءٍ وسط نظرات الجميع المراقبة لهم، يتأملون ما سيفعله، أمسك نوح بيدها فشعر ببرودة منتشرة بها ورجفة تتلاعب بأعصابها، تحرك بها باتجاه الشرفة بعيدًا عنهم، ليهتف سعدي بغيظٍ:


_ شوف الواد أتذلينا عشان يتجوزها و قاعدين مستنين بوسة ولا حضن يبلوا ريقنا وفي الأخر خلع.


ضربت حميدة كتفه تردف بغيظٍ:


_ أتلم يا معدوم الدم في بنوتة هنا وقوم معايا هنجيب صينية الجلاش باللحمة زمانها استوت.


عبست ملامح سعدي بتذمر، يردف بعبوسٍ يزداد:


_ جلاش إيه يا حميدة اللي أشيله وأنا في السن دا.. مش قايم من مكاني أن شالله ما كلوها حتى.


نظرت له فُلة تضحك على طريقته معاها، أدار سعدي رأسه يبحث عن صاحبة صوت تلك الضحكات الخافتة ليجد فُلة تقف خلف الطاولة تأكد على الأطباق، انتظر حتى رفعت بصرها نحوه ليغمز لها بمكرٍ ناطقًا بهمسٍ:


_ أي خدمة.


خجلت من طريقته وأسرعت تفر إلى المطبخ، بينما نهض سعدي من مقعده، يهتف ببراءة:


_ هروح أشوف صينية الجلاش يا حميدة.


رفعت حميدة حاجبها باستنكارٍ منه، قائلة بتهكم:


_ مش كنت عاملي فيها أبن بارم ديله ورافض!!


_ أنا ابن كلب يا حميدة.. بتشتمي جوزك وهو في تربته أنا مش هرد عليكِ عشان تعرفي إني ابن صالح ومشي.


تركها تستغفر ثم فر إلى المطبخ وما أن دلف حتى وجد فُلة تريد الخروج ليردف بخبثٍ:


_ على فين بس يا قطة؟


توترت بشدة من طريقته معاها، لتتراجع للخلف قليلًا تحتفظ بالمساحة الشخصية لها، تردف بارتباكٍ:


_ لو سمحت عديني أروح أجهز أكل لنوح وذكرى ياكلوا سوا.


اتسعت ابتسامته ما أن رأى توترها، وجهها المتورد من الخجل، ليهتف بهيامٍ:


_ دا أنا هقرص نوح في ركبته عشان أحصله في جمعته.


كبحت ضحكته بصعوبةٍ أمامه، تدور بعينيها بعيدًا عنه، تنتظر أن يبتعد أو يمل ولكن عاد يهتف بتسلية:


_ سيبك من المطبخ وركزي مع الموز.


قطبت جبينها بعدم فهمٍ، ثم خمنت أنه يغازلها فسألته بشكٍ مدعية عدم الفهم:


_ موز إيه؟ مفيش موز عندنا؟


_ عيب عليكِ وهو أنا مش مالي عينك دا أن شجرة موز بحالها.


اتسعت عينيها من تغزله بنفسه، فقد ظنت هذا الغزل لها، تهجمت ملامحها تمسك بسكينة صغيرة مرددة بعصبية:


_ أبعد عن وشي بدل ما أغزها فيك وأخلص.


رفع سعدي يده للأعلى كالمجرم الذي تم القبض عليه، يهتف ببسمة تزداد مشاكسة:


_ أموت أنا في الشرس دا.. ما تجي ونجيب مليجي.


_ مليجي يا سافل يا اللي عايز تتربى من جديد وقال إيه داخل تجيب صينية الجلاش.. وعملي نفسك صالح.. دا أنت فاسد.. وهبلغ عنك يا سعدي وأقول متحرش في بيتنا وقبلها هربيك بالشبشب.


انتفض سعدي بفزعٍ من مكانه يتراجع خلف فُلة قائلًا بتوترٍ:


_ يا دودو بهزر والله متقفشيش كده.. قولي أي حاجة الله يسترك.


كبحت فُلة بسمتها بصعوبةٍ، تنظر نحو حميدة قائلة باستعطاف:


_ حقك عليا يا خالتي هو بس الجلالة خدته يهزر لما حسيني زعلانة بس مش هيكررها تاني.


رفعت حميدة حاجبها ترمق سعدي بنظراتٍ حادة غاضبة، ثم قالت وهي ترفع سبابتها نحو فُلة:


_ عشانها هي بس وإلا كان طرقعة الشبشب سمعت في أكتوبر كلها.. ويلا هات الصينية وتعالي بلاش مرقعة كلنا قعدنا على السفرة.


زفر سعدي براحة، ينظر لفُلة بامتنان قائلًا:


_ روحي ربنا يحفظك للغلابة اللي زي.. أما ألحق أجيب الصينية قبل ما تيجي عشان مش هتحلني لو جت..


أمسك الصينية يحملها بحذرٍ لحرارتها العالية، ثم أغلق الباب الفرن، يسير نحو الخارج وقبل أن يغادر أدار رأسه لفُلة قائلًا:


_ فُلة..


انتبهت جميع حواسها معه، ليسترسل سعدي غامزًا:


_ انا هقرص نوح لحسن مشتاق للجمعة أوي.


غادر المطبخ ببسمة تتأرجح على شفتيه وخاصةً سماعه لضحكتها التي تحاول السيطرة عليها.


ــــــــــــــــــــــــــــــــ


أوقفها داخل الشرفة بها ستارة ثقيلة تفرد بالليالي العاصفة، لتغطي الشرفة بالكامل تحجب الرؤية ولكن الآن كانت مضمومة بشريط خاص مزين، تأمل السماء ما بين غفوة النهار واستيقاظ الليل، ولم يفلت يدها بل ظل ممسكًا بها يشعر بكل رجفة تصيبها كلما ضغط عليها، زحفت بسمة طفيفة لشفتيه عندما شعر بها تحاول سحب كفها عنه ولكن أمسكها بقوةٍ دون أن تؤذيها يحرك رأسه نحوها يتأمل ملامحها الخجولة، تهرب عينيها بعيدًا عنه ولكن بالنهاية تعود وتنظر له مجددًا فيرتفع خجلها من جديد، استدار نحوها حتى أصبحت أمامه، مانحًا لكفها الحرية ولكن يده أرتفعت لوجهها يلامس وجنتها برقة شديدة، حاولت الابتعاد للخلف ولكن يده الأخر لحقتها تمسكها من كتفها قبل أن تتقهقر للخلف، يهمس لها بنبرة هادئة حانية:


_ متبعديش يا ذكرى.


إزدردت لعابها بصعوبةٍ من هذا الموقف، حيرة تضربه رأسها لتقلبه رأسًا على عقب، نظراته مليئ بالحب ولكن هل هذه الحقيقة؟؟


أرتفع صوتها الأجش تهتف بمشاعر مضطربة:


_ هو.. هو أنت أتجوزتني ليه؟؟


نظر لحدقتيها اللتان تمتعا بالجراءة للحظات للحصول على الإجابة، ليقرب نوح وجهه نحوها قاطعًا تلك المسافة لتصبح نظراته ببحار عينيها الساحرتين، يجيبها بهمسٍ:


_ السؤال دا اتأخر أوي! كنت عارف إنك هتسألي وفضلت أدور على إجابة تقنعك وتوصف علاقتنا.


أنفاسه الساخنة تلامس بشرتها فتزيد من حرارتها وشعورها بالخجل، ولكن لم تستطع أن تحيد عينيها عنه، ليعلو صوتها يصل لمسمعه فقط:


_ لقيت الإجابة؟؟


حرك أهدابه وكأنه يخبرها بنعم، يفتحهما يجيب بنبرة حنونة شغوفة:


_ أسمحيلي يا سيدتي أجوبك بفلسفة نوح نصار..


" تمضي فاقدًا روحك حتى يأتيك من يرد فيك روحك بكلمة أو بضمة أو بنظرة".


صمت قليلًا يتأمل ملامحها الخجولة وفضولها لتوضيحه، ليكمل ببسمة حنونة:


_ كل كلمة بتخرج منك ليا كانت بترد فيا الروح وأنا مش عارف.. نظرة عينيكِ دلوقتي كأنها سحر بيرجع ليا كل اللي فقدته في حروب دخلتها لوحدي وخسرتها.. ضمة دي مسكن بناخده عشان نكمل يومنا وحضنك دا مسكني.


رفع ذراعيه حولها يضمها لصدره، أرتجف جسد ذكرى ولكن شعرت بدفء غريب يتوغلها، رفعت كفيها بتردد ولكن بالنهاية وضعتهما على ظهره تضمه براحةٍ، تغمض عينيها بسكينة غريبة.. لم تشعر بالوقت ولكن تلك السكينة لن تعوض مهما فعلت، ربما هي البذر الحب التي خُلقت من إعجاب، ابتعدت قليلًا عنه ليمسك نوح وجهها بين كفيه يقبل جبينها بعمقٍ وكأنه يخبرها، سيدتي أنتِ فقط من أكن له الإحترام بين نساء العالم.


ابتعد عنها يتأمل عينيها المغلقتان ليبتسم بحنوٍ ثم مال عليها يقبل وجنتها برقةٍ، شهقت بخجلٍ تتراجع للخلف قائلة وهي تتحاشى النظر له:


_ أنت.. أنا.. هو كده إيه اللي هيحصل؟


لم تختفي بسمته بل ازدادت حبورًا، يجيبها وهو يمسك بكفها لتجلس على مقعدها:


_ في الأول لزمًا تعرفي إنك خلاص بقيتي حرم نوح نصار.. يعني اسمك بقى على اسمي بقيت عمرك يمكن القضية سبب تحركي ليكِ ومساعدتهم يسرت الجوازة.. بس السبب الرئيسي للجوازة دي هو إني طالب قربك يا ذكرى.. عمري ما فكرت أهينك و أتجوزك عشان قضية.. أنتِ أغلى بكتير مما تتخيلي في نظري.


حديثه جميل، يخلق مشاعر عجيبة تداعبها بلُطف ولكن لماذا كل هذا، تحرك فكها والحيرة تضرب وجهها:


_ ليه كل دا؟؟ اللي بينا كان خناق ومواقف فيها شهامة منك يا نوح بس معملتش اللي يخليك تتكلم بالحب دا كله؟


_ يمكن بالنسبة ليكِ مواقف عادية، لكن بنسبة لواحد حياته سودا مكنتش عادية.. زي المظلوم في السجن الأدلة كلها ضده بس القاضي قاله أنا مصدقك.


عبست ملامحها قليلًا تتفحص حديثه لتهتف بتعجب:


_ بس في النهاية هيتحكم عليه؟


أومأ لها ببسمة صغيرة، يكمل حديثه بشغفٍ:


_ كلمته بردت نار الإتهام.. وأنتِ كلام معاكِ برد ناري بس في النهاية أنا بقيت أسير حبك بعد ما كنت حُر يا ذكريات.


اتسعت عينيها بصدمةٍ من حديثه، تعجز عن الرد تمامًا، ربما لأن تلك المشاعر لا تزال تخلق داخلها، ولكن متى خُلقت لديه؟، استرسل نوح بهدوءٍ حاني:


_ إحنا لسه في بداية يا ذكريات.. وجوازنا هو طوبة البداية اللي هتبني حصن نقوي بيه الحب دا، واستمراره الحياة بينا دا راجع ليكِ يا تحبيني يا أنا فشلت أخليكِ تحبيني.


كلماته تحمل الشك، تعلم أنها لم تعطه ما يبرد ناره، هي تسأل وتستمع فقط، ولكن كل ما حدث جعلها مشوشة، أردت أن ترد ولكن دلفت فُلة بالطعام لهما تبتسم لهما بسعادة ثم غادرت ليهتف نوح ببشاشة لم تظهر سوى لها:


_ كُلي يا ذكرى لسه الأيام بينا.


أومأت له بالإيجاب تحتاج لوقت بعد تلك الإعترافات، تتناول بتريث، بينما تأمل نوح طريقتها بصمتٍ، لا يثق أهي تحبه أو تقبلته أم لا؟ لم تُبنَ الثقة في تبادل الحب بينهما بعد ولكن يشعر بأن الغد لهما سيكون أفضل مهما توحشت الظروف، سيكون هناك من يلقي بنفسه بين أحضانه.. ألا وهي ذكريــــــات.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


صباحًا..


استمعت حميدة لأذن الظهر يعلو ليطرب الأذن ينادي المؤمن للذهاب له، فإن كنت تظن أنك وحيد ففي الحقيقة أنت معك الله سخّر الكثيرون لك.. مؤذن يناديك.. صلاة جماعة تقفون بها في صفٍ واحد، كتاب مُنزل من السماء لتقرأه فيهدأ من لوعة قلبك.


تحرك سعدي ونوح للداخل يجدوا الطاولة جاهزة، كاد أن يجلسا ولكن علا صوت حميدة بسخطٍ:


_ قوم منك ليه مش سامعين الأذن.. روحوا صلوا الأول وبعدين تعالوا كلوا.


حدقها سعدي بتذمرٍ، يتأمل الصحون بشهيةٍ، يهتف برجاءٍ:


_ طب سندوتش نتسلى فيه وإحنا ماشيين يا حميدة!


كاد أن يمد يده ليأخذ قرص فلافل ولكن ضربت حميدة كفه قائلة بحدة:


_ ولا لقمة.. روح لبي النداء وصلي الأولى وبعدين تعالى الأكل مش هيطير.


عبست ملامح سعدي يتحرك نحو الباب ليلبس حذاؤه، يغمغم بكلماتٍ متذمرة، بينما نظر نوح لما حدث وقرر المغادرة بصمتٍ حتى لا يجادلها ولكن أوقفته تهتف بحماسٍ:


_ أستنى يا واد يا نوح عايزك.


ضم نوح شفتيه بحنقٍ يستدير لها ليجدها تعطيه ورقة صغيرة تردف ببسمة متحمسة:


_ خد الورقة دي عشان متنساش حاجة.. بص هتعدي على سوبر ماركت أو اللبان هات منه تلاتة كيلو حليب وأي بقال هات منه كيلو رز وكيلو سكر وورقتين فانيليا واستنضف ماشي عشان هنعمل رز بلبن النهاردة.


حدق نوح بالورقة بدهشة، ثم علق على حديثها بنبرة يشوبها صدمة:


_ لبان وبقال!! إحنا في أكتوبر يا مدام حميدة.


انكمشت ملامحها بإنزعاج واضح، ليصحح نوح حديثه بنفد صبر:


_ خالتي حميدة.. حلو كده.. عامة مفيش الكلام دا هنا دا بيبقى هيبر كبير بنروحه نشتري مستلزمات على بعض مرة واحدة.


حركت رأسها بالامبالاة تردف وهي تتجه نحو المطبخ:


_ أي حاجة المهم طلبات دي تجيلي.. ومتعوقوش عشان نفطر سوا البت ذكرى واقعة من الجوع.. وحالفة لتشرب شاي في البلكونة..


ضيق نوح عينيه ينظر لحميدة التي غمزت بمكرٍ، ليبتسم لها بإماءة ثم يغادر من الشقة بعدما أرتدى هو الأخر حذؤه، ينطلق مع سعدي بصمتٍ باتجاه الجامع سيرًا على الأقدام، كلاهما صامتين لم يتحدثا، حتى قرر سعدي بدأ الحديث قائلًا:


_ كده بعد الفطار هنفتح اللاب بس؟؟


أومأ نوح بهدوءٍ، يجيبه بعملية:


_ على حسب اللي هنلاقيه هنتحرك يا سعدي بس.


أومأ سعدي بصمتٍ، ثم شعر بتردد شديد في السؤال الذي يدور بخاطره، ولكن تجرأ تلك المرة يسأله:


_ مين ياسر؟؟


توقف نوح عن التحرك فجأة بعدما سؤاله، ينظر لسعدي بنظراتٍ جامدة، في حين توتر سعدي من صمته ليهتف بتراجع:


_ لو مش عايـ...


قاطعه بنبرة مختنقة ناهيًا الحديث:


_ واحد خاين العهد والصداقة.. الغدر بيجري في دمه.. ضرب عليا نار في عملية طلعناها سوا عشان أموت و ياخد الترقية.. بس خلفت توقعاته وعيشت تاني وهو اختفى بعد ما الموضوع أتعرف.


مرارة حديثه تذوقها سعدي بمسمعه، وصلا كلاهما للمسجد يحمد سعدي ربه أنه سأله بوقتٍ سيعود به لله ليفرغ طاقته، دلفا كلاهما ليصليا الظهر بتضرعٍ يحاولان نسيان أي شيء ليبقى عقلهم مع الله واحده، أختتما الصلاة بملامح مريحة بعدما كانت مكفهرة، ينهضان من مكانهما تاركين فرصة للغير بأن يصلي، يتحركان نحو الأرفف التي وضع بها الأحذية ولكن لم يجدوها..


جحظت عين سعدي يبحث بين الأحذية بسرعة وقلق يردد بشكٍ:


_ أنا كنت حاطط الجزمة هنا.. راحت فين؟؟؟


_ عند اللي خلقاها..


حدقه سعدي بضيقٍ يعلق بانزعاج:


_ أنت بتهزر!!


علت السخط ملامحه، يردف بتهكم:


_ وأنت بتتغابي.. أنت في مصر ودخلت تصلي والجزمة مش موجودة يبقى التفسير الوحيد ليها إيه؟؟


_ في اكتوبر.. هو الحرامي حتى في اكتوبر.. هنروح منكوا فين يا عالم يا... استغفر الله العظيم يارب هيخلوني نغلط في بيت ربنا.


نطق بحنقٍ شديد، يزدرد لعابه باختناق ثم عاد يسترسل بحسرة:


_ الجزمة أم 500 جنية أتسرقت.. الله يسامحك ياما قولتلك متفصليش مع الراجل في ال200 جنية أهو طلع مش مسامح وأتسرقت.


دار نوح بعينيه بالمكان يبحث عن أحد ليسأله عن وسلية ليغادر فوجد شيخًا يجلس بقربهم يسبح أنطلق نحوه يهتف بنبرة جادة:


_ السلام عليكم يا حاج.. معلش الجزم بتاعتنا أتسرقت متعرفش طريق شبشب نلبسه حتى لو هنشتري.


نظر له هذا الرجل بسعادةٍ بالغة يردف بفرحة:


_ تعالي يا بني تعالي معايا قُبقاب ببيعه.


جحظت عيني كلاهما بصدمةٍ، ليهدر سعدي بذعرٍ:


_ لا يا حاج مش لدرجة الشخلعة دي كلها.. عايز شبشب بلاستك إن شالله فردة وفردة.


عادت ملامحه تعبس بضيقٍ، يردد باختناق:


_ يابني وماله القبقاب ما زي الفُل.


_ قبقاب إيه يا حاج دا أنا همشي بزفة في الشارع لو خرجت بيه.


زفر الشيخ بيأسٍ منه، يردف بحزنٍ:


_ أنا قُلت خلاص ربنا بعتلي رزقي وهشتغل وقاعد بسبح عشان يفرجها عليا.


إزدرد سعدي لعابه بصعوبةٍ يشعر بالضيق لأجل هذا الرجل، بينما نظر نوح له بملامح مختنقة ليهتف كلاهما بصوتٍ واحد:


_ خلاص يا حاج هات القبقاب.


نظر كلًا من نوح وسعدي لبعضهما ثم ابتسما بخفوت، بينما تحرك الشيخ بسعادة بالغة ترتسم على معالمه يحضر لهما من حقيبته نعل خشبي مصنوع خصيصًا للسير، تقدم نحوها يفلت النعل من يده ليصدر ضجيجًا عالي بالمسجد لفت نظر الجميع، نظر سعدي حوله ليجد نفسه محط أنظار الجميع، بينما هتف نوح ببسمة متحسرة:


_ بداية مبشرة بالتفاؤل.


دفع نوح للرجل حساب النعلين بكرمٍ، يردف بعدها وهو يرتديه:


_ بعد كده يا حاج أبقى أشتغل في شغلانة معروفة الشباشب البلاستك مأثرتش في حاجة.


ابتسم الشيخ بفخرٍ يردف بإعتزاز:


_ دي مهنة ورثتها من أبويا وجدي وكمان قُلت بما إنها مش معروفة يبقى هتشتغل أسرع.


رمقه نوح بنظرة مغتاظة، بينما رد سعدي بحنقٍ:


_ أنتِ هتعمل زي قوم زمان كل ما ينزقوا في إجابة يقولوا هذا ما وجدنا عليه أباؤنا وأجدادنا.. بص يا حاج متقولش ولا تفكر كده تاني.. أشتغل زي ما السوق بيقول هتلاقيها فرجت عليك.. وأدعي ربنا ممشيش أدعي عليك بعد الشخلعة اللي هتحصل دلوقتي.


استدار مع نوح يسير إلى الخارج ولكن مع أول خطوة كان صوت النعل يصدع بالمكان بأكمل ليلفت نظر الجميع، مسح نوح على وجهه يردف بتهكم:


_ أمك سابت أيام ربنا واختارت النهاردة بذات نروح نجبلها الرز واللبن عشان تعمل حلويات.


نظر سعدي له بحسرةٍ ثم قال بصرخٍ بعدما غادر المسجد:


_ الله يسامحك يـــــــــــامـــــــــــــــا.


تحرك كلاهما للمتجر لشراء ما طلبته حميدة وسط ضحكات الناس عليهم ونظرات التعجب والسخرية منهما، أخيرًا أنتهوا من الشراء ليقفوا أمام الكاشير للحاسب وما أن وضع مشترياتهم بالحقيبة علق ببسمة كبح لتختفي:


_ أمشي براحة يا فندم عشان الصوت بس والزباين.


_ يا متنمر يا قليل الأدب.. أشيل قبقاب الزفت دا وجيلك تاني أوريك.. يلا يا نوح كفاية تهزيق أكتر من كده.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


_ إيه صوت التطرقعة العالية دي؟؟


سألت ذكرى بتعجب وهي تجلس على الأريكة تنتظر عودة نوح وسعدي، ليبدأ بالفطور ولكن زيادة هذا الصوت جعلتها تنهض تبحث عن مصدره بينما قطبت حميدة جبينها بتعجب من سماع هذا الصوت تنظر لداليدا قائلة:


_ هو أنتم عندكم حاجة بتطرقع كده يا أم نوح؟؟


حركت رأسها بنفيٍ تشعر بالحيرة هي الأخرى، تردف بدهشة:


_ أول مرة في حياتي أسمع الصوت دا.


لحظات كان الصوت توقف وعلت طرقات على الباب فأنطلقت ذكرة تفتح الباب تنظر لملامح نوح وسعدي الواجمة، تعجبت منهما ولكنها أفسحت لهما المجال ولكن علا صوت القُبقاب ليقع على مسمعهن، نظرن نحو الصوت لتتسع عين حميدة وداليدا بصدمة، بينما وضعت ذكرى يدها على فمها تحاول كبح ضحكتها ولكن لم تستطع لتنفلت منها بقوةٍ، رمقها نوح بنظرة نارية جعلتها تركض لغرفتها تسترسل ضحكتها بينما هتفت داليدا بدهشة:


_ إيه دا يا نوح؟ أنتِ مشيت تعمل صوت بالبتاع دا في الشارع.. فين الشوز بتاعتك؟؟


_ أتسرقت!


إجابة مقتضبة مختصرة نبس بها، بينما نزع سعدي هذا النعل عنه يهتف بحسرة:


_ أتفضحنا في نص أكتوبر بسبب صوت ابن الصرامة دا.


ربتت حميدة على ذراعه تردد بمواساة:


_ تعيش وتاخد غيرها يا حبيبي.


نظر لها سعدي بحنقٍ ثم نهض إلى الطاولة، بينما نهضت حميدة تضحك عليهما تردف من بين ضحكها:


_ روح يا نوح كُل في البلكونة وأنا هنادي ذكرى تيجي تاكل معاك.


_ فين فُلة؟


سألها بفضولٍ واضح، لتجيبه حميدة بمكرٍ:


_ تعبانة من الصبح فسبتها تنام.


بدا التوتر يظهر على ملامحه، ليكبح ظهوره بصعوبة ليسأل بثباتٍ زائف:


_ مالها يعني؟


أجابته وهي تنطلق للغرفة:


_ عندها شوية صداع.


اختفت حميدة داخل الغرفة، بينما بقى سعدي ينظر للطبق بعبوسٍ، يريد المزاح معها ومشاكستها ولكن الآن هي مريضة، ماذا عليه أن يفعل لها؟؟ أنغمس بتفكيره في هذا الأمر، بينما عادت حميدة ومعها ذكرى التي تنظر للأرض بخجلٍ تتحرك نحو الشرفة بخطواتٍ مرتجفة، تزيح الستارة لتدلف للداخل مغلقة إياها خلفها، تهتف بتوترٍ :


_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


حدقه بوجومٍ ثم عاد ينظر للصحون القابعة أمامه، يرد السلام باقتضاب، عقدت ما بين حاجبيها بحيرةٍ تتقدم نحوه بعفوية متسائلة:


_ مالك يا نوح؟؟


لم يجيبها بل ظل صامتًا، لتكرر ذكرى السؤال مجددًا بحيرة أكبر، مد نوح يده للرباط يزيحه عن الستارة لتغلق الشرفة تمامًا تمنع الرؤية، وبلحظةٍ سحب يدها نحوه لتشهق بصدمةٍ عندما وقعت على قدميه محاصرة بين ذراعيه، حاولت التملص من يده ولكن لم يدع لها فرصة بل ظل يحدق بعينيها هامسًا بكلماتٍ صارمة:


_ وقفي حركة لإني مش هسيبك.


توقفت عن الحركة بتوترٍ، تنظر لحدقتيه اللتان تتعمقان بخاصتها ثم قال بهدوءٍ:


_ متضحكيش بالطريقة دي قدام حد يا ذكريات.. أنا غشيم في وقت عصبيتي.


إزدردت لعابها بصعوبة، تومئ برأسها سريعًا ليتركها ولكن وجدته يقترب منها أكثر يقبل وجنتها، شهقت بخجلٍ تهتف بحرجٍ:


_ نـ.. نوح سيبني.


ابتعد عنها يبتسم لها، يتأمل ملامحها التي تلونت بخجل واضح، ليفك ذراعيه عنها ببطءٍ قال بعدما منحها غمزة بعينيه الماكرتين:


_ إفراج يا ذكريات.


ابتعدت عنه تجلس على المقعد بحرجٍ، بينما نهض هو يزيح الستارة مجددًا، يردف بنبرة رجولية هادئة بين ثنايها السكينة:


_ أول مرة من بعد والدتي أشارك حد البلكونة وكوباية القهوة.


نظرت له بدهشة، ليعود يجلس أمامها قائلًا وهو يقطع الخبز ليغمسه بطبق الفول ثم يرفعه لها قائلًا بمكر:


_ ودي أول مرة أأكل فيها حد بإيدي.


رمشت عدة مرات وهي ترى يده تدثر اللقمة بفمها لتتناولها سريعًا قبل أن يتلطخ وجهها، تهمس بخجلٍ محاول إخفاؤه عنه:


_ أنت غريب أوي.


_ أنا مش غريب بس الطبيعي مراتي تتعامل كده وأحسن كمان.


قالها بهدوءٍ حاني، بينما زحفت ابتسامة صغيرة لشفتيها تشعر بمداعبة لطيفة لمشاعرها، تكمل تناول الطعام معه وسط أحديثهما المختلفة التي يتجاذبها.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ


_ جاهزة يا ذكرى؟


سألها نوح بأهتمامٍ بالغ، يجلس جوارها على الأريكة وأمامهما جهاز الحاسوب، بينما يقف سعدي من خلف الأريكة، زفرت ذكرى بتوترٍ بالغ، تردف برجفة:


_ جاهزة بس خايفة!!


نظر نوح نحو سعدي قائلًا بهدوء:


_ معلش سيبنا شوية؟


أومأ سعدي بهدوءٍ تاركًا إياه فعقله مشغول بفُلة ومرضها، رفع بصره ينظر لحميدة وداليدا اللتان تجلسان بالشرفة يحتسون الشاي مع بعض البسكوت، ليزفر براحةٍ يتجه نحو المطبخ يبحث عن بعض الأعشاب اللازمة لصنع مشروب دافئ لها...


بالجانب الأخر، رفع نوح ذراعه يحيط بذكرى التي ترتجف بتوترٍ، ولكنها انتفضت أسفل ذراعه تهتف بخجلٍ:


_ نـــوح!!


_ حبيبة نوح.


زاد من ضمه بعد كلمته الحنونة، يهمس لها مسترسلًا:


_ غمضي عينك يا ذكرى متخفيش محدش هيقول حاجة.


نظرت له بتوتر واضح ليرفع كفه الأخر يقرب رأسها لصدره وكأنها طفلته يدللها، استمعت لدقات قلبه بخجلٍ ولكن تشعر بالسعادة لهذا، تغمض عينيها براحةٍ، أسترسل نوح همسه الحنون:


_ خدي نفس كبير وبعدها خرجيه براحة.


هذا أحد تمارين التخلص من التوتر، نفذت ذكرى ما قاله بتريث، تشعر بتسلل السكينة لها، لترفع كفها تستند على صدره بطمأنينة، شعر بحركتها تلك لتزحف بسمة صغيرة لشفتيه.. وعقله يردد..


" صغيرتي أعلم أنا هذه الضمة هي ترياق الطاقة خاصتك، لذا وبكل كل سرور سأمنحك إياه كل يوم بصدر رحب".


قبّل رأسها بحنوٍ يحرك إبهامه برقةٍ على وجنتها لتزيد من سكينتها داخل أضلعه...


*******


رفع كفه يطرق على الباب بتوترٍ، يتأمل هذا الكوب المصنوع من عُشب الينسون، استمع لصوت خطواتها تفتح الباب بوجهٍ ناعس متعب، حجابها الموضوع بإهمالٍ دون أن يكشف عن خصلاتها، ولكن سرعان ما استعادت جزء من تركيزها وهي ترى سعدي يقف أمامها يرمقها بنظراتٍ قلقة، سألها ولا يزال قلقه يزداد:


_ أنتِ كويسة ولا تحبي ننزل نكشف؟؟


ازدردت لعابها بتوترٍ تجيبه بإرهاقٍ لم تستطع إخفاؤه:


_ لا كويسة دا إرهاق عادي عشان بقالي يومين مش بعرف أنام بعد ما غيرت المكان نومي متقلقش يا أستاذ سعدي.


أومأ بتفهمٍ لما تمر به، ثم رفع كفه يمد لها كوب الينسون قائلًا ببعض الحرج:


_ بصراحة معرفتش أعملك إيه تشربيه أو تكليه.. بس لقيت ينسون وعملته ليكِ.


نظرت للكوب بدهشةٍ واضحة، ثم عادت لتبتسم له تمسك بالكوب قائلة بإمتنان:


_ شكرًا يا أستاذ سعدي.


_ مفيش شكر بينا يا فُلة.. أنتِ مني.


أتسعت عينيها بحرجٍ تحاول إخفاء معالمها الخجولة، ثم رفعت الكوب ترتشف منه القليل قائلة بخجلٍ:


_ تسلم إيدك طعم الينسون جميل.


أومأ لها يتراجع للخلف قائلًا:


_ هسيبك ترتاحي.


كاد أن يغادر من أمامها ولكنه عاد يردد بمكرٍ:


_ نسيت أقولك قرصت نوح وهحصله في جمعته.


اتسعت عينيها ثم ابتسامتها وهي تستمع لحديثه، بينما تركها سعدي يشعر بالسعادة عند رؤيتها تلك المرة.. حمحم بصوتٍ عالي قبل أن يغادر الممر ليصل إلى الردهة، وما أن دلف حتى وجد ذكرى تجلس أمام الحاسوب تنظر لشاشته بعناية، بينما فتح نوح الكتاب ليكتب الرقم السري للجهاز، وقف سعدي يراقب كل شيء، ضغط نوح على زر الدخول ليفتح الجهاز على صفحة بها ملفان كلًا منهما باسم مختلف، الأول بـ " إعلانات" والأخر " ألعاب"..


حدق نوح بالملفان بتعجبٍ من الاسم بينما علق سعدي بدهشة:


_ ألعاب وإعلانات؟؟؟ هو دا لاب كيدز ولا إيه؟؟


عضت ذكرى على شفتيها تكبح تلك الضحكة، بينما لاحظها نوح وابتسم بمكرٍ ولكن ليس الآن ليمزح معها، حرك إصبعه باتجاه ملف الإعلانات يردف بهدوءٍ:


_ هنفتح ملف الإعلانات ونشوف فيه إيه؟ ركزي يا ذكريات.


أومأت تسلط بصرها على الشاشة، ليضغط نوح على الملف، دقائق وأنبثقت نافذة تحمل معلومات كثيرة ثم بعد ثواني أختفت فلم يلحق أي من نوح وسعدي قرأتها، ثم ظهر شعار غريب ممزوج بلونان الأسود والأحمر، يمثل علامة حوت وإلى جوارها شكل بشري وأسفلها كلمة " Whale".. اختفى هذا الملف تمامًا من الجهاز ولم يتبق سوى ملف الألعاب، نظر نوح نحو ذكرى يردف بهدوءٍ:


_ شوفتي إيه؟


قطبت جبينها بتعجبٍ تنظر نحو نوح بحيرة، بينما توقع سعدي عدم لاحقها ليهتف بقلقٍ:


_ ملحقتيش تشوفي؟؟


نفت برأسها سريعًا، تجيبه بحيرةٍ واضحة:


_ لالا شوفت بس المكتوب غريب حبتين.. كاتب تقرير الأخير لسنة 2024 عن نسبة البطالة في مصر.


ضم سعدي شفتيه يكبح سُبته، بينما ضيق نوح عينيه قائلًا بشكٍ:


_ متأكدة لسنة 2024؟؟


أومأت بإيجاب تجيبه بتأكيد:


_ أيوة يا نوح.. كتب تقرير مفصل عن البطالة اللي بيعاني منها الشباب في مصر وإن نسبتها وصلت في نهاية 2024 لـ للبنك الدولي 7.22%.


صمت نوح يحاول التوصل لاستنتاج، ولكن لم يستطع ليهتف بهدوءٍ:


_ إزاي التقرير أتحدث لسنة دي والقضية المفروض بقالها سنين؟ في حد كان شغال على اللاب دا قبلنا وسبهولنا عشان نفتح الملفات دي وندور ورا حاجة!!


أومأ سعدي بموافقةٍ، بينما عبست ملامح ذكرى بضيقٍ من صعوبة كل شيء هكذا، ثم هتفت باقتراحٍ:


_ تفسير دا منطقي بس للأسف مش هيوصلنا لحاجة غير لطريق مسدود لإن الشخص دا اختفى لو كان عايز يظهر كان ظهر، والشعار الحوت دا أكيد ليه معني إيه رأيكم ندور ورا الشعار دا ونشوف هنوصل لإيه!


أومأ كلاهما بهدوءٍ، ليبدأ سعدي بالبحث خلف هذا الشعار ليجد له محرك بحث قوي، تأمل شعارهم ثم قال بهدوءٍ:


_ لقيتها.. دي شركة كبيرة بتوظف الشباب اللي لسه متخرجين ومعندهمش خبرة وفي منهم بتساعده يسافر برة مصر.


_ معاك العنوان بتاعهم؟؟


أومأ سعدي بهدوءٍ، حرك نوح رأسه يهتف بنبرة جادة:


_ خلاص يلا بينا هنروحلهم.


نهضت ذكرى تصفق بحماسٍ قائلة:


_ أشطا يلا بينا.


رفع نوح حاجبه باستنكارٍ مردفًا:


_ لبسين طُرح إحنا عشان تيجي معانا مكان مش متأمن والله أعلم فيه إيه؟؟


عبست ملامحها بضيقٍ تردف بتذمر:


_ كده ظُلم على فكرة أنا كنت عايزة أجي معاكم بما إني شريكتكم.


_ روحي أعملي رز بلبن يا ذكريات على ما أجيلك ليكِ روقة في البلكونة.


غمز لها في الخفاء، بينما تذكرت كيف أسقطها عليه، لتتراجع بتوترٍ قائلة:


_ خلاص روحوا أنتم.. أنا كده كده مقدرش أسيب فُلة لوحدها.


كبح ضحكته بصعوبةٍ ثم قال لسعدي يلقي له المفاتيح:


_ أسبقني يا سعدي.


ألتقطها سريعًا بكفيه قبل أن تنفلت، يردف بمكرٍ:


_ الله يسهله يا عم.


تحرك سعدي من أمامه للأسفل، بينما تراجعت ذكرى وهي تراه يتقدم نحوها وبلحظة قبل أن تفر منه كانت يده تمسك كفها، يسحبها بلطفٍ له وسط توترها، أنحنى قليلًا يهمس جوار أذنها بصوتٍ أجش:


_ أنا خايف عليكِ.. وبعد كده لما أخرج من البيت لزمًا تبقي موجودة قدامي يا ذكريات.. لزمًا تبقي أخر عينين أشوفها وأول عيون تستقبلني.. فاهمة.


لا تعلم كيف أومأت له ولكن تلك الرجفة التي تصيبها من قربه تستلذ بها، ابتسم نوح بحنوٍ ثم لثم وجنتها بقُبلة حنونة، ابتعد عنها يغمز لها عندما وجدها ترتجف بتوترٍ شديد، تنظر له من حين لأخر بخجلٍ:


_ إجمدي يا حبيبة نوح عايزك وحش قدامي. 


أخفت وجهها بين راحتي يدها، تنفي برأسها، ضحك نوح عليها يمدحها قبل أن يغادر بعدما تراجع نحو باب الشقة:


_ هو دا.. عاش يا وحش..


استمعت لصوت الباب يغلق لتزيح أحد أصابعها عن عينيها تتأكد من مغادرته، ثم أزاحة يدها تضعها على صدرها براحة ولكن عادت ترفعها على أثر قُبلته بخجلٍ لتهتف بتوترٍ:


_ وأنا اللي فكراك مؤدب طلعت منحرف بجدارة يا نوح.


ـــــــــــــــــــــــــــ


_ جواز ذكرى غيرك يا نوح؟ بقيت بتتكلم وتتضحك بدل التكشيرة!


قالها سعدي ببسمة مرسومة بصدقٍ على شفتيه، ليتنهد نوح بصوتٍ مسموع يتأمل الطريق بعناية أثناء القيادة مجيبًا:


_ يمكن عشان هي الوحيدة اللي خرجتني برة إطار المعقد اللي كلكم حطيتوني فيه!


صمت سعدي متأملًا جملته، بالفعل منذ أن أتى وهو يسمع همسات الجميع عليه بالمعقد ويرى نفورهم منه، أو الإشفاق عليه مما حدث، في نهاية ليس نوح من يتقبل الإشفاق أو النفور، أدرك عقله حقيقة جرح نوح من صديقه وجرحه من شفقة من زملائه وأحاديثهم السامة التي حددت إطار له، مد سعدي يده يربت على كتف نوح قائلًا:


_ معاك حق يا نوح.. بس أعتقد بعد القضية دي الإطار دا هيختفي وهترجع نوح نصار مش نوح المعقد.


حالة من الهدوء تسيطر على حالته هاتفًا:


_ مش هتفرق يا سعدي... كلها بنسبة ليا محصله بعضها.. يمكن قبل الحادثة دي كان بيفرق معايا كل حاجة بس الحياة والواقع بيديك قلم واحد من أعز وأقرب حد ليك.. بيفوق حاجات كان لزم أعرفها عشان أكمل.


أومأ سعدي باقتناع ثم وجد نوح أوقف السيارة بعيدًا عن موقع الشركة، ترجلا منها يسيران نحوها بتأني يتأملون الشارع بتدقيق، فهو مليئ بالأشجار والبيوت العتيق من التسعينات، لاحظ نوح شابين يحملان بسمة سعادة غريبة، حاملين ملف به شعار شركة الحوت، تأملها قليلًا ثم قال بهمسٍ لسعدي:


_ شكلهم رايح يقدم على شغل.. إتعامل.


لاحظهما سعدي وأومأ لنوح عندما فهم رغبته، تقدم نحوهما سريعًا، يردد بصوتٍ عالي:


_ أستنى يا نجم لحظة.


أستدار أحد هذان الشابان ينظر لسعدي بتعجب، ليقترب منهما سعدي قائلًا بإدعاء عدم معرفة:


_ أنتم بتقدموا على شغل صح؟؟


أومأ أحدهما بسعادة بالغة، يهتف بحماسٍ:


_ أيوة أخيرًا بعد تلت سنين عايش عالة على أهلي وبشتغل بيومية صبي عند الصنايعية هشتغل بشهادتي في الشركة الحوت.


أومأ سعدي بتفهمٍ، يبتسم له بلطفٍ، ثم سأله بفضولٍ عندما لاحظ تحاليل طبية:


_ أنت تعبان ولا إيه؟


ضحك الشاب هاتفًا وهو يمد يده:


_ أنا أحمد ودا صاحبي حسن.


صافحه سعدي بحرارة يبادله الابتسام، يردف بتعريف:


_ اسمي سعدي. 

ردد أحمد ببسمةٍ:

_عاشت الأسامي.. لا دي تحاليل عن وظائف الجسم وحالتي الصحية عشان يوظفوا كل واحد حسب قدرته.. اللي عنده مثلًا السكر يشتغل في الحسابات بعيد عن التعاملات مع الناس عشان محدش يضايقه وهكذا بقى.

أومأ سعدي بإيجابٍ يشعر بإعجاب للفكرة قائلًا:

_ فكرة ممتازة فعلًا.

حرك رأسه بموافقة، بينما أرتفع صوت حسن يردف بتوترٍ بعدما نظر للساعة:

_ هنتأخر يا أحمد... دي فرصتي الأخيرة قدام بابا وإلا مش هيرضى يخليني أتقدملها.

تعجب سعدي مما يتفوه به، ليسمع أحمد يهتف بلطفٍ:

_ قولتلك متخفيش مش هتروح النهاردة إلا وأنت متعين يا حسن وتثبت إنك شاب ناجح وتتجوز كمان حنين.

شعر بتأزم حال هذان الشابان، ليتراجع سعدي للخلف يهتف بإعتذار:

_ أوبس.. آسف يا شباب عطلتكم.

_ ولا يهمك يا سعدي أتشرفت بيك..

كاد أحمد أن يغادر ولكن ردد سعدي سريعًا:

_ ممكن رقمك يا أحمد عشان أعرف إيه الأوراق المطلوبة عايز أقدم ليا ولأختي.

أومأ أحمد بصدرٍ رحب، يمليه رقمه ليتصل عليه سعدي يعطيه رقمه هو الأخر، غادر هذان الشابان سريعًا، ليعود سعدي نحو نوح قائلًا:

_ خدت رقمه لما نعرف هيعمل إيه جوا الشركة.. بس حالتهم صعبة يا نوح.. الإتنين بيعافروا عشان تجلهم الشغلانة.

_ ربنا يوفقهم يا سعدي وتطلع شركة محترمة.. المهم كويس إنك عملت كده.. بس أنا لاحظت حاجة غريبة.

قطب جبينه سعدي جبينه بتعجبٍ، تلتمع عينيه بسؤالٍ واضح " ما هو؟ " أجاب نوح وهو يشير نحو هذا المكان الذي يرسم شعار الحوت المماثل للشركة التي توظف عاطلين عن العمل ولكن بشكلٍ أكثر شراسة، عينان هذا الحوت باللون الأحمر كأنها رعد منبثق منها، ويوجد نقاط متفرقة على جسد هذا البشري بجواره باللون الأحمر أيضًا.. تأمل سعدي المكان بتعجبٍ، ثم اقترب منه قليلًا ليجده مكان لألعاب الفيديو والبلاستيشن، ضيق سعدي عينيه قائلًا بشكٍ:

_ سيبر هنا؟؟؟

عاد بنظره نحو نوح يسأل بتعجبٍ:

_ إزاي في سيبر في منطقة راقية زي دي؟ 

حرك نوح رأسه بعدم معرفته، يجيبه بهدوءٍ بعدما ربط بين الملف الموجود وهذا المكان:

_ لزمًا نرجع ونشوف ملف الألعاب دا في إيه بظبط.

أومأ بموافقة، وقبل أن يتحركا علا صوت رنين هاتف نوح، نظر للمتصل ثم أجاب بتعجبٍ قائلًا:

_ ألو يا وليد في جديد في الجثث؟؟

_ أيوة يا نوح بعد تشريح التلت جثث لقينا إن ليلى متاخد منها كلية وجزء من الكبد ومحمد نفس الوضع و جمال القرانية بتاعت عينه متاخده!!!.

           الفصل الثاني عشر من هنا

لقراءة باقي الفصول اضغط هنا


تعليقات



<>