
رواية دعيني ابرئ اسقامك الجزء الثاني2 من لطيفها عاشق الفصل السادس6 بقلم سميه رشاد
ارتسمت ابتسامة ارتياح على وجه والدة أوَّاب عقب جلوسها في عقر دار أهل ريهام، شعرت بالراحة تغمرها عقب مقابلتها لوالدتها التي رحبت بها فور شعورها بأنها جاءت لابنتها في خطبة، بالحقيقة لم تستطع تكوين شيء عن شخصية المرأة بعدما فتحت لها باب البيت الذي دلها الجيران عليه، ولكن بعد جلوسها وسؤالها لها عن ابنتها خمنت أنها جاءت لأجل خطبة فاستقبلتها بترحاب حار.
ابتسمت والدة أواب في وجهها ورددت بحبور وخجل لرؤيتها كأس العصير الذي تحمله بين يديها:
- ليه كدا تعبتي نفسك يا حاجة.. ملوش لزوم والله.
لتستنكر والدة ريهام قولها وتحدثها وكأنها تعلمها منذ زمن، لا كما الواقع أنها تراها للمرة الأولى:
- إزاي بقا.. هو إحنا لينا بركة إلا أنتِ
ابتسمت إليها بصدق ثم استعجلت في حديثها بقولها:
- أنا عندي ابني اسمه أواب.. عنده تمانية وعشرين سنة.. عنده محل أدوات منزلية كبير أوي والحمد لله شغله كويس.. والله يا حاجة مش عشان ابني بس يا بختها اللي هياخدها.. أدب وتدين واحترام وجمال وحنية الدنيا كلها فيه.
وقعت كلماتها على الأخرى أجمل موقع، فكانت ابتسامتها تتسع مع كل كلمة تنطقها وكأنها وقعت على كنز ثمين.
لتتابع والدة أواب بحماس:
- إحنا سمعنا عن بنتكوا وأدبها وأخلاقها.. وحابين نناسبكوا.
أجابتها على الفور بقولها :
- دا شرف لينا يا أم أواب.. انتو تؤمروا.
استقر الارتياح بقلب أم أواب فور شعورها بميل أم العروس لها فصاحت وهي تتلفت حولها بحذر:
- أومال فين عروستنا القمر؟
توترت المرأة قليلًا دون أن تبدي لها ثم نهضت معلقة وهي تقف:
- هروح أناديها وآجي.. سايباها بتغسل الأطباق.
قالت جملتها الأخيرة كاذبة، فابنتها كانت مستلقية على فراشها في ذاك الوقت تقرأ بمصحفها، ووالدتها ارتأت أنها لو ادعت قيامها بأعمال المنزل كذبًا سيكون أكثر إغراءً لوالدة العريس من قراءتها للقرآن، فاختارت ببلادة ما قالت وما لبثت أن دلفت الغرفة على ابنتها تأمرها
- قومي البسي حاجة حلوة وتعالي اقعدي معانا برا بسرعة.
عقدت ريهام حاجبيها باستغراب لتسألها
- ليه مين برا؟
- أم عريس جاية تشوفك
أجابتها ببرود لتنصعق من حديث والدتها وتسألها باندهاش:
- أنتِ بتقولي إيه يا أمي؟ بتقولي إيه؟
زجرتها بعينيها وهي تردد بقوة قبل أن تخرج من الغرفة:
- مش بعيد كلامي مرتين.. خمس دقائق وتكوني برا ولابسة كويس وإلا مش تعرفي تنامي النهاردة.. أقسم بالله لو ما لبستي عدل وخرجتي باحترام هنيمك مكسرة النهاردة.
لم تعطِها الفرصة لتعترض، بل خرجت كي لا تتأخر على ضيفتها ولم تنسَ أن ترسم ابتسامة مصطنعة على ثغرها قبل خروجها، لتترك ابنتها تعاني من صدمتها من تبدل والدتها إلى هذه الدرجة القاتلة للأعصاب، لم تكن والدتها يومًا بهذا الشكل، يبدو أن ما اعترى ابنتها قد أثر على عقلها أكثر مما فعل بابنتها، فجعلها تفقد السيطرة على أفعالها وتتصرف دون حكمة إلى درجة جعلتها تتناسى ابنتها التي لم تتعافَ بعد وتفعل ما سيجعل الانهيار يحرق قلوب الجميع يومًا.
بالفعل لم تمر عدة دقائق وكانت ريهام تتقدم تجاه غرفة استقبال الضيوف، ترددت في خطواتها وودت لو تعود إلى غرفتها ولكن أجسدها بقادر على تحمل ثورة أخرى تثورها والدتها على بدنها؟!
حمحمت بهدوء قبل أن تلقي السلام، لتستوعبها نظرة المرأة بالكامل وهي ترد السلام، تقدمت لتصافحها فاحتضنتها المرأة بسعادة وهي تتمتم:
- بسم الله ما شاء الله.. اللهم بارك.
جلست ريهام على المقعد المقابل دون أن تهديها ابتسامة ولو على سبيل المجاملة، تأملتها المرأة بعد جلوسها بينما عيناها تلمعان بإعجاب، ربما اعتراها بعض الضيق بسبب تشنج ملامحها ولكن أرجعت ذلك إلى الخجل.
- أنتِ في سنة كام يا حبيبتي؟
أجابتها ريهام باقتضاب:
- في سنة أولى لسة
أومأت إليها بإيجاب وهى تسألها في محاولة منها لاختلاق حديث بينهما:
- في كلية إيه بقا
أجابتها وهي تلتفت إليها تخطف بعض النظرات:
- في كلية دراسات إنسانية قسم لغات وترجمة
عقدت والدة أواب رأسها بعدم فهم، فهي لا تفقه الكثير في هذه الأمور ولا تهمها حتى وإن كان تعليمها مقتصرًا على التعليم المتوسط.. لتتدخل والدة ريهام في الحوار تقول بملامح يعلوها الفخر:
- ريهام شاطرة.. اسم الله عليها كانت جايبة أربعة وتسعين في الثانوية الأزهرية والكلية بتاعتها دي بتعادل كلية الألسن اللي في العام.
أومأت إليها المرأة بإيجاب وأضافت:
- أواب كان في كلية تجارة إنجليري كويس انتو الاتنين ترطموا مع بعض.
ارتفعت ضحكات والدة ريهام(ابتسام) المجاملة لها بينما تشنجت ملامح ريهام أكثر من ذي قبل، وكأنها بحديثها عنه ذكرتها بالسبب الذي جاءت من أجله.
دارت عدة أحاديث تقليدية لم تشارك بها ريهام إلى أن انصرفت المرأة بعدما أخذت هاتف ابتسام متأملة في زيارة قادمة قريبة برفقة ولدها.
لم تمر ساعة وكانت المرأة تزيد وتعيد في ما حدث بمنزل العروس على مسامع ابنها الذي كان يلتقط من الحديث ما يدور حولها بفضول وتوقف عقله على عبارة والدته:
- هي قمر يا أواب إن كان عليها بس شكلها كشرة
انكمشت المسافة بين حاجبيه بتساؤل لتتابع بحيرة:
- مضحكتش ضحكة واحدة من ساعة ما روحت بس يمكن مكسوفة.
أومأ دون حديث مدركًا سبب ضيقها، يعلم أنها لم تكن متضايقة فحسب بل كانت مرتعبة ويود لو يخبرها أن سبب ارتعابها يدركه ويقدره جيدًا، يود لو يطمئن قلبها ويدفيء سقيع قلبها بعبارات دافئة يسكبها داخل صدرها ولكن ليت كل الأماني محققة الوقوع.
فاق من شروده على صوت أمه التي تحدثت بحماس:
- إن شاء الله بعد بكرة هكلمها ناخد منها ميعاد عشان تروح تشوفها.. أنا كلمت جدك في الموضوع وقالي الأصول نعمل كدا.
أومأ إليها دون حديث لتقترب منه بلهفه وتعانقه على غفلة منه فشدد على احتضانها بقوة قبل أن تتركه وتهرول إلى الهاتف تخبر من لم تخبره بعزم أواب على الخطبة من فتاة كشق القمر.
تنهد بقوة عقب انصرافها ثم همس مترجيًا بصوت يبدو وكأنه خرج من أعماق قلبه:
- يارب ساعدني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
- عبدالرحمن هتفضل كدا كتير؟!
صاحت بها دنيا ( صديقة ريهام) فور دخول زوجها الذي يجافيها منذ ذاك اليوم الذي أقرت له فيه بأنها كانت على علم بمضايقة فارس لريهام، ولكنها وعدتها ألا تخبر أحد، منذ يومها وهو يجافيها بل واشتد جفاؤه عقب معرفته بسفر ذاك المجرم المنتهك.
تنهد بقوة يسألها بحدة معاتبًا:
- دلوقتي عايزة تتكلمي.. كان فين الكلام وقت ما كان مفروض؟ ملوش لازمة الكلام دلوقتي.
ثارت من حديثه لتسأله باستنكار:
- ملوش لازمة الكلام مع مراتك؟ أومال إيه اللي ليه لازمة يا شيخ عبدالرحمن؟!
نعتته بذاك الوصف لتذكره بأنه يخالف الشرع بطريقته وهجره، فأجابها متألمًا بعدما توسعت عيناه واحمرتا غضبًا
- شيخ عبدالرحمن؟! الشيخ انكسر وهو مش قادر يعمل حاجة ولا عارف يجيب حق أخته.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل.
تركها مغادرًا بعدما فجر كلماته بوجهها، تعلم أنه حزينًا على ما حدث لريهام أكثر من حزنه منها، ولكن لم يجد طريقة للتعبير عن غضبه سوى بهجرها ويتوجب عليها التماس الأعذار له، تعلم كم جرحه ما حدث وخاصة مع سفر الآخر وعجزه عن الانتقام منه، لا تدري ماذا تفعل.. أيكفيها صدمات ومصائب؟ ألا يكفي خروج والدها من السجن قبل يومين وهي تجلس مرتعبة دون أن تجد حضنًا تختبىء خلفه من سند خلع عنه ثوب السند وارتدى بدلًا منه عباءة الدناءة؟! يا الله كم تريد أن تخبر عبدالرحمن بخروج والدها ولكن كيف؟ كيف ستفعل وتزيد من ألمه؟ وكيف ستخبره وهو يعاملها بهذه الطريقة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
- أنا رايحة عندنا شوية حد هييجي معايا؟
صاحت بها والدة شمس تخبر بناتها بحاجتها لزيارة والدها فصمتت الصغرى بينما نطقت شمس بهدوء:
- أنا جاية معاكي يا أمي
عقدت الأم حاجبيها باندهاش من مبادرتها هذه، فهي تأبى الذهاب ويتشاجر الجميع معها منذ طلاقها من مهدي لأجل ذلك، فتابعت بتوتر:
- جدي وحشني وأنا وعدته أروح له
أومأت والدتها دون جدال رغم عدم اقتناعها بحديثها، لتسرع وترتدي ثيابها، لا تعلم لماذا أرادت الذهاب مع والدتها، ولكن لم تقدر سوى أن تفعل وعقلها لا يكف عن تذكر نظراته المعاتبه ومظهره المتألم بآخر لقاء بينهما، عنفت نفسها على اندفاعها وودت لو تعتذر من والدتها عن الذهاب ولكن لا بأس ستذهب، فليس معنى ذهابها أنها سامحته، إنها فقط ترغب في رؤيته والاطمئنان عليه بإلقاء نظرة عابرة، لن تتجاوز حدودها وإن كان نظرها إليه الآن غير مباحًا ولكن رغبة القلب كانت أقوى من أي رغبة أخرى، فأطاعته وأقنعت نفسها أنه ذنب صغير ولن تكرره ثانية، فقط ستطمئن.
وبالفعل دقائق وكانت تدلف بيت العائلة الكبير برفقة والدتها التي أسرعت تجاور زوجة خالها بالمطبخ بينما هي جلست ببهو المنزل برفقة جدها الذي عانقته بحنان وحب صادقين.
- أخيرًا القمر هلّ علينا!
ابتسمت بحرج، فربت على ظهرها بحنان ونهض متجهًا إلى غرفته، فعلمت على الفور بأنه ذاهب ليأتي إليها بورقة نقدية كتلك التي يعطيها لكل أحفاده كلما زاره أحدهم بعد غياب.
تنهدت بقوة مندهشة من عدم وجوده، فهو غالبًا ما يتخذ إحدى غرف بيت الجد سكن له ويأبى المبيت بمنزل أبيه معللًا بأنه يشعر بالراحة بشقة الجد أكثر.
لم تكد تنهي تفكيرها به حتى وجدته خارجًا من المرحاض، يبدو وكأنه فاق لتوه من قيلولته الظهرية فخفضت رأسها على الفور، تسبّ بداخلها هذا الوقح الذي لم يفكر بأنه ببيت العائلة فخرج هكذا ببنطاله الأسود البيتي وذاك التيشيرت اللعين منعدم الأكمام المماثل للبنطال في اللون، الذي يظهر ذراعية وبعض من كتفه، عقد حاجبيه باندهاش وتغير وجهه راسمًا الضيق على ملامحه فور وقوع نظره عليها، فأخفضت عينيها التي كانت قد رفعتها ثانية، دق جرس الباب فذهب ليجيب وهو يضع المنشفة التي كان يجفف بها خصلات شعره جانبًا ثم فتح ليجد الطارقة تلك الفتاة الصغيرة ابنة جارهم التي دائمًا ما تأتي لتستعير لوالدتها شيء من أدوات المطبخ أو بعض المؤن.
رمقها بتساؤل لتجيبه الفتاة بتوتر من هيئته:
- ماما.. عايزة إزازة زيت على ما نجيب التموين بتاعنا.
أومأ إليها بإيجاب والتفت ليخبر والدته أو إحدى النساء بما أرادت وليته ما التفت، ففور التفاته وجد جحيم مشتعل بعينيها ورصاصات قاتلة كادت أن تميته هو والواقفة خلفه.
تجاهلها وكأن لم يرها ودلف إلى المطبخ ليأتي للفتاة بما تريد فاقتربت شمس منها ونطقت ببرود:
- معندناش زيت.
رمقتها الفتاة بضيق، تعلم جيدًا من هي بالنسبة إلى مهدي ثم سألتها متصنعة عدم الفهم:
- نعم؟!
- بقولك معندناش زيت.. روَّحي.
شهقت الفتاة من وقاحتها معها والتفتت مغادرة عازمة على إبلاغ والدتها وإشعال الأمر، فزفرت شمس بضيق تحاول التخلص من تلك النيران التي تشتعل بصدرها، لا تطيق هذه الفتاة وتعلم أن هذه المراهقة ذات السابعة عشر عامًا لا تريد شيء وتأتي فقط من أجل ذاك الديكتاتوري الذي يسعده تهافت الفتيات عليه. اتسعت عينيها بغضب فور رؤيتها له خارجًا من الداخل يحمل بين يديه زجاجة الزيت التي تريد، ذاك المنحل! أهذا من كان يتجاهل من يطلب منه المساعدة في جلب شيء؟!
تقدم يبحث عن الفتاة فلم يجدها مما جعله ينظر إليها بتساؤل فأجابته بحدة:
- روحت.
رمقها بعدم فهم لموقف الفتاة فتابعت بحرص بعيد عن شخصيتها المبذرة:
- أصل الزيت غالي فقلت لها مفيش!
انتظرت منه رد لفعلها فلم يفعل سوى أن وضع الزجاجة على الطاولة المجاورة ودلف إلى غرفته دون أن ينطق بشيء، ذاك الذي تكاسل عن إرجاعها لمكانها بينما أسرع لخدمة الفتاة فنظرت إلى أثره بضيق وكل شفقتها وضيقها منه تحولا إلى نيران تشتعل يصدرها كلما فكرت بعدد المرات التي جاءت بها تلك الفتاة وهي لا تدري عنها شيء.
بذات الملامح التي قابلها بها ارتمى جالسًا على سريره، ربما بموقف آخر كاد ليطير فرحًا بسبب الغيرة التي باتت واضحة للعيان أما الآن، أيحق لقلبه الجريح منها أن يسعد بفتات تلقيه إليه ويتناسى كرامته التي حطمتها بيديها وأذهبت ضوءها ؟!
ــــــــــــــــــــــ
أسبوع مرَّ على اليوم الذي قدمت فيه والدة أواب إلى منزلهم، لم يكن الأمر سهلًا عليها، بل تشاجرت مع والدتها فور مغادرة المرأة لتخبرها والدتها بكل برود أنهما ستوافقان على ذاك العريس مهما كلفهم الأمر، اعترضت وانصدمت من موقف والدتها التي تريد خداع أهل الرجل الذي تقدم لخطبتها، إلا أنها أخبرتها ألا خداع في الأمر، حتى الآن عقلها مشتت ولا تعلم الطريقة التي تقنع بها والدتها بالأمر، ولكن لا بأس، فعلى كل الأحوال سيأتي ذلك الرجل أواب بعد دقائق كما أخبرتهم والدته التي اتصلت عقب مجيئها بيومين واتفقوا على أن يأتي الجمعة، وها هو اليوم قد قدم وستعمل على الانفراد به وإخباره بعلتها وستطلب منه ألا يبوح بسبب رفضه لأحد.
- لسة مجهزتيش؟
سألتها والدتها بوجه واجم فأجابتها برجاء أخير:
- يا أمي أرجوكِ.. أرجوكِ ارحميني من الموقف دا.. إزاي هتخطب؟ طب ازاي هتجوز؟.. قلت مش عايزة أتجوز والله ما عايزة.
تجاهلتها والدتها وهي تعبث في خزينة الملابس إلى أن استقرت على فستان سماوي اللون تناثرت على أرضه وردات صغيرة باللون الكحلي ومن فوقه خمار كحلي اللون كوردات الفستان ثم نهرتها بقولها:
- أنا عارفة هتصرف ازاي في الموضوع دا.. متتدخليش أنتِ اسمعي الكلام وبس فاهمة؟
- يا أمي..
ولكن لم تعطِها والدتها الفرصة للإجابة بل خرجت من الغرفة قائلة قبل أن تأخذ الباب تغلقه بعنف:
- عشر دقائق وتكوني جاهزة..
تركت ابنتها وخرجت إلى بهو المنزل تجالس شقيقها رفيق، الوحيد الذي دعته لاستقبال أهل العريس إلا أن يتم الأمر وتخبر باقي العائلة، في الحقيقة استنكر شقيقها الأمر وتعجب من موافقة شقيقته، إلا أنها أخبرته كذبًا أنها أخبرت والدته بكل شيء ولا داعٍ لذكر ما حدث مرة ثانية.
عشرون دقيقة قد مررن قبل أن يطرق أواب الباب برفقة والدته وجده الذي أصر على القدم برفقتهما.
استقبلتهم ابتسام وشقيقها بترحاب مبالغ فيه، تعرف العائلتان على بعضهما وتحدثا في بعض المواضيع العامة إلى أن تحدث جده بوقار:
- إحنا يشرفنا نطلب إيد بنتكم ريهام لأواب .. واللي تأمروا بيه إحنا سدادين.
ليجيبه رفيق المتحرج بقوله:
- إحنا بنشتري راجل يا حاج.. وأهم حاجة عندنا راحة بنتنا.. أما الماديات دي فآخر حاجة نختلف عليها.
كلامه قد راق العجوز إلى درجة كبيرة فأجابه باعتزاز:
- هتكون في عيونا إن شاء الله..
ثم قال مشاكسًا لأواب:
- أواب دا ولو إنه مغلبني وكل حاجة يقولك حرام بس أحن واحد في أحفادي وأضمنه ليك برقبتي.
ابتسم أواب بحياء فور سماعه لحديث جده عنه، ليتابع جده وهو يناظره بمزاح:
- هو طويل شويه ويخوف بس شكل على الفاضي اسألني أنا
نظر إلى جده معاتبًا على سخريته من طوله الذي يستفزه لقصر الأخير، فارتفعت ضحكات الجد قبل أن يصمت الجميع عندما دلفت ريهام التي بدا ارتجافها للجميع بسبب أكواب العصير التي تتراقص بين يديها.
أشفق الجد عليها بينما خجل أواب فور دخولها وسيطرت الحمرة على وجهه بعدما ذكرته هيئتها هذه بتلك الهيئة التي رآها عليها في المرة الأولى بفرح عبدالرحمن صديق مهدي.
تقدم خالها منها وحمل الأكواب ليقدمها للجميع بدلًا منها بينما جلست على المقعد الفارغ المقابل لذاك الذي اختلس النظرات عقب انشغال الجميع بتناول العصير.
كان الجد أول من ارتشف من العصير فتعالت أصوات سعاله بينما بدأ خالها ووالدة أواب في السعال هما الآخران قبل أن يسألها خالها باندهاش وكان سؤاله جوابًا على نظرات الباقين المنصدمة:
- ايه يا ريهام اللي على العصير دا؟
عقدت حاجبيها تخشى أن يكون ما ظنته صحيحًا فتابع خالها:
- أنتِ حاطة يا بنتي ملح بدل السكر ولا إيه؟!
لترتفع شهقة والدتها التي تناولت كوبها ترتشف منه لتتأكد مما استمعت إليه؛ فتلون وجهها بالغضب الشديد، وكادت أن تنهرها أمام الجميع، إلا أن والدة أواب أنقذت الموقف بقولها:
- خير يا أم ريهام.. أنا لسة الموقف دا حاصل معايا إمبارح بس عملت العكس.. حطيت سكر بدل الملح.. فاكر يا أواب.
ابتسم إليها مشفقًا على تلك التي خذلتها إحدى دموعها وتساقطت رغمًا عنها من شدة الموقف على قلبها، ليحاول رفيق التخفيف من الموقف بقوله هو الآخر:
- ياااه دا أنا الحاجة أم عبدالرحمن كل يوم تعملها معايا.
لترتفع ضحكات الجميع ويقول مؤيدًا لريهام التي لاحظ خزيها الشديد مما حدث:
- وارد يحصل أي حاجة.. وبعدين حفيدتي تعمل اللي هي عايزاه.. عسل من إيديها أي حاجة.
لترفع ريهام نظرها إليه للمرة الأولى ترمقه بامتنان جعل أواب يفعل المثل هو الآخر. انخرط الجميع في أحاديث عامة شاركهم أواب في بعضها بتحفظ إلى أن قال الجد مقترحًا:
- إيه رأيكوا نخرج إحنا نقعد في البراندا دي ونسيب عرسانا مع بعض؟
استحسن الجميع اقتراحه بما فيهم ريهام التي أرادت ذلك لتخبره بما يؤرق قلبها، نهص الجميع خارجين وفور تيقن أواب من خروجهم رفع كوب العصير مرتشفًا منه قبل أن يقول مندهشًا:
- أومال فين الملح اللي بيقولوا عليه دا؟ ما العصير أجمل عصير شربت منه في حياتي أهو.. ولا عشان أنا العريس بترشيني ومش حاطة لي ملح؟!
صدمت من قوله لترفع رأسها إليه للمرة الأولى، وسرعان ما بهتت عند رؤيتها له بوجهه المليح الذي جعل دقات قلبها تتسارع من فرط التوتر، فأخفضت رأسها سريعًا دون أن تلحظ ابتسامته التي لو رأتها؛ لارتد قلبها عاشقًا مخالفًا لجميع التعقيدات التي فرضتها عليه، عقدت حاجبيها باستغراب تشعر بأن وجهه مألوف وكأنها رأته من قبل إلا أن تلك الفكرة انصرفت عن عقلها بلحظتها.
شرب من العصير إلى أن وصل لنهاية الكأس فوضعه أمامه بينما هي تفكر بالطريقة التي ستخبره من خلالها بأنها لا يمكنها الزواج منه.
كاد أن يتحدث إلا أنها فاجأته بقولها:
- عايزة أقولك على حاجة مهمة
عقد حاجبيه متسائلًا وقد خمن قلبه ما تود قوله ولكنه انتظر ليرى وقع ما حدث على وجهها فنطق بخفوت:
- اتفضلي..
تعاركت أناملها بتوتر قبل أن تنطق بصوت يكسوه الخزي:
- أنا مش عايزة أتجوز.. وأمي اللي مصرة على زواجي.. فلو ممكن حضرتك ترفض وترفع عنى الحرج.
تألم من ذاك الثقل الذي تنطق به كلماتها فاعتقدت أنه صدم من رفضها له لتبرر قولها:
- وعلى فكرة رفضي مش لحضرتك مخصوص.. دا قراري من قبل ما أشوفك أصلًا.. الموضوع لأسباب تخصني أنا
ليسألها يحاول صرفها عن التفكير بالأمر :
- عشان كدا حطيتي الملح؟ عشان تطفشيني؟
هزت رأسها عدة مرات بالنفي لتجيبه:
- لأ والله ما قصدت خالص.. عمري ما أعمل كدا دي قلة ذوق مش طريقة.. وبعدين أول حد هينضر كانت أمي لإنها مريضة ضغط.
سلبت لبّه براءتها في الدفاع عن نفسها ليسألها متطفلًا لعلها تقول ما يقدر به على قول ما يريد:
- وإيه سبب رفضك للزواج؟ المفروض كنتِ ترفضي من البداية أدام رفضك للزواج نفسه.. مش تسمحي لواحد يجيب أهله وبعدين تقولي رافضة الزواج.
قوست شفتيها حزنًا من حديثه الذي اعتبرته يوبخها به فسألته بهدوء:
- عندك استعداد تعرف سبب رفضي؟
أومأ إليها مترقبًا أي كذبة ستكذب لتجبه بصراحة شديدة
- مش هخجل من إني أقول إني اتعرضت للانتهاك البدني لإني ضحية والضحية مبتخافش.. الضحية بترفع رأسها للناس كلها عشان عارفة إن ربنا بقوته وعظمته هيجيب لها حقها.. واللي خلاني مخافش أفضحه أدام العيلة كلها مش هيخوفني منك ولا من غيرك