أنا اسمي سامح عبد الرازق.
طبيب امتياز… اتعيّنت في تكليف مدته سنة كاملة في وحدة صحية في منطقة اسمها أم الغُزلان… بلد صغيرة متطرفة، طرقها ضلمة، وليلها أطول من الطبيعي.
أول ما روّحت أدور على سكن…
ملقتش غير شقة صغيرة في بيت قديم… صاحب البيت راجل طيب اسمه عم عبد الجواد ..
هو الشخص الوحيد اللي اعترفت عليه في الحي اللي سكنت فيه ...
لما بصيت من بلكونة شقتي لاحظت قصاد البيت اللي انا ساكن فيه ... عمارة قديمة
شكلها آيلة للسقوط ..أجزاء منها متهدمة فعلا ..
ولما سالت عم عبد الجواد عنها قالي :
ـ " يا دكتور دي مقفولة من 10 سنين.
بابها متربس بالجنازير.
والمفروض إنها هتتهد."
الايام الاولى كانت ماشية عادي جدًا…
روتين ممل…
شغل في الوحدة … وأروح… وأنام…
ومفيش أي حاجة ملفتة.
لحد الليلة اللي وقفت قدامي فيها…
الست اللي غيرت حياتي 180 درجة…
واللي لحد النهاردة…
أنا مش قادر أفهم كانت حية… ولا كانت حاجة ..
كنت راجع من الشغل متأخر…
تقريبًا الساعة كانت 1:30 بالليل…
الشوارع فاضية، والدنيا برد…
والنور الأصفر بتاع الأعمدة عامل ضباب كده في الهوا.
وأنا ماشي قريب من البيت اللي انا ساكن فيه…
سمعت صوت…
كأنه صدى بكاء طفل…
ضعيف… وبعيد…
زي صوت بيجي من تحت الأرض.
وقفت…
وبصيت حواليّا…
مفيش أي حد.
أول خطوة مشيتها…
سمعت حاجة تانية:
"ابني…
حد شاف ابني…؟"
الصوت ده خلاني جسمي يقشعر.
مش خوف…
لا…
ده صوت أم… محروقة…
بيطلع من حلقها وجع حقيقي.
لفّيت ناحية الصوت…
ولقيتها.
وصفها… اللي مستحيل أنساه:
ست كبيرة…
بس مش عجوزة …
ملامحها باينة إنها كانت حلوة زمان…
بس دلوقتي وشها باهت…
لون جلدها رمادي كده…
وعنيها لونها رمادي زي جلدها …
لكن واسعة جدًا
وسع يخوّف…
ولابسة هدوم سودا كلها تراب…
كانت واقفة تحت عمود نور…
بتبص يمين وشمال…
وتتنفّس بسرعة…
زي اللي لسه خارجة من مصيبة.
ساعتها قالتلي وهي بتبصلي فجأة:
"يا ابني…
ماشفتش طفل…
عنده 5 سنين…
لابس قميص أزرق بزراير فضي "
وقفت…
اتجمدت…
حسيت إني مش قادر أرد…
لأن فيه حاجة غلط…
غلط أوي.
مش غلط في كلامها…
لا.
الغلط… في صوتها .
كأن الصوت جاي من مكان تحت…
أعمق…
كأن صدرها فاضي.
ردّيت عليها بالعافية:
"لأ يا حاجة… ماشفتش أي أطفال هنا…"
كررت نفس السؤال ..بنفس الصوت اللي كأنه
طالع من اعماق بير عميق :
" ماشفتش طفل…
عنده 5 سنين…
لابس قميص أزرق بزراير فضي "
قاومت خوفي ورديت عليها تاني بصوت اقرب للبكاء :
ـ " لا والله يا حاجة ..ما شفتش "
بصتلي…
والدنيا كلها تسكت…
ولقيت دمعة بتنزل من عينها…
بس الدمعة لونها "أسود".
فعليًا… سائل أسود نازل من عينها.
ساعتها…
قلبي وقع من الخوف
اتمنيت إني أجري لكن رجليه اتسمرت في الأرض
الست قربت مني خطوتين…
وقالت بنفس صوتها اللي بيسحب روحي :
"هو هنا…
أنا شامّة ريحته…
ابني هنا…"
وشاورت بإيدها على حاجة ورايا
اتلفت ببطء وبصيت ورايا
لقيت ضلمة…ضلمة بس
مفيش مخلوق.
سألتها بصوت طالع مرتعش غصب عني :
" حضـ ...حضرتك ساكنة فين؟"
قالت كلمة واحدة بس:
"تحت."
قلت بصوت واطي أنا نفسي سمعته بالعافية :
"تحت… يعني تحت فين؟"
قربت وشها لما بقى عند وشي…
وقالت بصوت منخفض غريب:
"تحت…
البيت اللي انت ساكن فيه."
اتصدمت.
مين قالها أنا ساكن فين أصلاً؟
ومين قالها إن بيتي قريب من هنا؟
قبل ما أسألها…
الست مشيت بسرعة…
راحت نحية المبنى اللي جنبي…
ودخلت من باب العمارة القديمة اللي المقفولة من سنين.
أنا اتسمرت مكاني.
العمارة دي…
أنا متأكد إنها مقفولة
بابها متربس بالجنازير.
فضولي غلب خوفي ..
جريت ورَاها أشوف…
ولقيت الباب…
مقفول بالجنازير زي ما هو.
لكن أنا متأكد أنها دخلت
أنا شوفتها بعيني..
الست دخلت منين؟
إزاي؟
امتى؟
ولا إيه اللي بيحصل ده؟
إحساس الرعب اتملكني
جريت ناحية بيتي
طلعت شقتي وانا باكلم نفسي ..
عملت كوباية شاي ..
لكن نمت من قبل ما أكملها ..
نمت من شدة التعب ..
أو من شدة الخوف والحيرة ..
أيهما أقرب ..
قمت الصبح…
وأنا بحاول أقنع نفسي إن الليلة اللي فاتت كانت هلوسة…
وإن مفيش حاجة حصلت ..
بس وأنا نازل…
لقيت حاجة على الأرض تحت باب شقتي.
ورقة…
متقطعة…
ومتوسّخة تراب.
فتحتها…
ولقيت مكتوب:
"ابني عندك."
خطّ مش مفهوم…
ولا هو خط حد كبير …
ولا هو خط طفل…
خط حد مش مننا.
معدتي اتلوت.
نزلت جري…
ورحت على الشغل…
ورأسي فيها مليون سؤال.
الليلة دي رجعت من الوحدة متأخر…
وأنا طالع السلم…
لقيت باب شقتي مفتوح فتحة صغيرة.
قلبي وقع في رجلي
هل ممكن اكون نسيت اقفل الباب وانا نازل ...!!
إزاي...؟؟ انا قافله بنفسي !!
قلت ممكن حرامي ؟؟
لكن حرامي هيسرق مني ايه ...
دخلت ببطء و أنا رجلي بتتهز و عمال اتلفت حواليه …
لقيت نور أوضتي منوّر لوحده.
والأوضة…
ريحتها مش طبيعية…
ريحة زي ورق محروق…
مختلطة بريحة تراب قديمة.
وبصيت على سريري…
ولقيت حد كان قاعد عليه.
مش قاعد…
لا…
كان في "حفنة تراب" على شكل قعدة بني آدم.
وحاجة تانية كانت على المخدة:
كان في قميص
قميص ازرق صغير ....
بزراير فضي ..
