
رواية غرام في العالم السفلي الفصل الخامس والعشرون25بقلم داليا السيد
فأر بالمصيدة
انغمست بالغضب حتى أخمص قدميها..
تركت كل الملابس التي اشتراها لها.. قميص وبنطلون فقط وأوراقها التي منحها لها مؤخرا ونزلت مع الريس
العملاق كان يقف أمام باب الشقة، حارس الريس الشخصي وبيوم ما فارس أحلامها وتبخر الحلم والواقع الآن انحصر بجامد الملامح و.. ناصر
السيارة اقتربت من الفيلا.. الريس أدرك توترها من حركة ساقاها التي لا تتوقف عن الحركة
"أخبرتك أني معك أحلام ولن يجرؤ على المساس بك"
لفت وجهها له، أيقنت من لمعان عيونه أنه ليس راض عن شكها بحمايته فاستدركت نفسها "آسفة يا ريس لم أقصد التقليل منك"
أبعد وجهه وصفوان يدخل من البوابة ويقف أمام باب الفيلا.. الظلام يطل فاردا ذراعيه على كل مكان وأنوار القصر خافتة تمنح جو هادئ وجميل
والفانيليا تمنحه الحياة.. تنتظره على عتبة الباب
نزل والراحة على وجهه لرؤيتها، أسرعت له غير عابئة بالرجال أو أحلام أو النجوم التي تحدق بهم من أعلى
الجميع يخفض رأسه لرؤيتهم معا.. احترام للريس وزوجته
تحيط عنقه بذراعيها ويلفها بذراعه وعطر الفانيليا يغرقه وهمسة فراشة بأذنه "اشتقت لك حبيبي"
كعودة الروح للجسد أيتها الملاك..
قبلة رقيقة على عنقها كانت رد بسيط لكن بغرفتهم سيمنحها ما تستحق..
ابتعدت وهي تعلم بعودة أحلام تلقتها بذراعين مفتوحين "مرحبا بعودتك أحلام"
بحثا عن الهدوء والسكينة سقطت بين ذراعي الصديقة الوحيدة لها، قلبها يؤلمها من عنفوان دقاته، يصرخ طالبا الراحة ولم تعد الراحة هنا
ما مشكلتك يا عسلية!؟
"أريد سعد صفوان"
ومنح زوجته نظرة فجذبت أحلام للداخل وهو تبعهم
الراحة لا تعرف سبيلها لتلك الفتاة، حتى والزعيم على يمينها وزوجته على يسارها لا تشعر بالراحة ما زال الخوف رفيق سخيف، مضجر لصاحبه ومؤرق
"أمرك يا ريس أنا.."
توقف سعد عن الحديث، التصقت بليال..
وقف الزعيم مراقبا ملامح الوجوه، خوف، غضب، استنكار، أي شيء إلا الرضا والراحة
أين الخطأ بين أخ وأخته؟
هو يعرف سعد جيدا يحبه كابن له، رباه منذ صغره و٦لمه كل شيء، حماه بضعفه وجعله من رجاله المقربين ويعلم أن سعد يحبه ويحترمه
أخبره بطلبات الزواج لأخته لكن لم يخبره بعودتها
فارت الدماء بعروقه واندفعت الذكريات لرأسه فاندفع تجاها يرغب بمنح نفسه الراحة بصفعها، جرها من شعرها وضربها حتى يظهر لها صاحب
أنت صاحبها أيها المغفل، الإخوة كنز لمن يعرف قيمته، معاني وتصرفات وليست مجرد كلمة.. يحبها، يخاف عليها لكنه ثائر لكرامته
اصطدم بجدار بشري صلب دفعه للخلف.. الريس
"يا ريس دعني أغسل عاري"
"أي عار!؟"
شهقات الفتاة علت من خلف ليال التي حمتها بذراعيها وكأن الريس لا يخفي الاثنان خلفه..
"لقد عصت أوامري وفرت هاربة والله وحده يعلم كيف كانت تعيش وحدها أم.."
كلمة من الريس، عواء يصم الآذان ويثير الفزع بالقلوب أسكته "كفى"
ارتبك سعد وتجمد بمكانه، أخفض عيونه، لا مجال لعصيان الريس وإثارة غضبه، هو لا يكن له سوى الاحترام والطاعة ورغبة بسداد الديون، هو الأخ الأكبر والأب رغم صغر عمره
"أحلام لم تخفى عن عيوني لحظة واحدة لكني كنت أنتظر حتى تهدأ أنت"
رفع وجهه لملامح الريس الغاضبة، الريس لا يكذب هو يعلم كل شيء عنها منذ عاد للحياة ورشدي كان يضعها بخزانته..
"يا ريس كان عليها أن تسمع لي وتتزوج سيد وانتهينا"
كلمات هارون كانت تخرج بتأني وهدوء غاضب "لا أرغب بسماع هذا الاسم مرة أخرى، رجلان طلبا أختك مني، رجلان وليسا امرأة، وهي من ستختار ولو لم تقبل بأي واحد منهم فلن يجبرها أحد على شيء"
أخفض وجهه والاستسلام لحكم الريس أمر واجب على الجميع "أمرك يا ريس"
التفت لهما "أحلام"
بصعوبة تركت ملابس الليال التي كانت متشبثة بها وتحركت لتواجه حاميها الوحيد
"ستعودين لبيت هندية ولن تخرجي لأي عمل حتى نرى أمر رشدي وناصر ولن تذهبي لأي مكان دون إذن أخيك"
رفع سعد وجهه له، يمنحه مكانته كأخ أكبر لها، وهي تهز وجهها الملطخ بالدموع فارتد لسعد وقال "غدا رشدي سيأتي ليطلبها رسمي ستكون موجود ولا أرغب بأي تهور سعد"
اعتدل سعد "أمرك يا ريس"
نظر لزوجته التي لفت أحلام بذراعها "هيا تبدين متعبة سأصحبك للبيت"
اختفوا والريس نظراته ثابتة على سعد الثابت هو الآخر أمامه "هل تدرك معنى أنك أخيها الكبير وكل من لها بالعالم؟"
تخضب وجهه بدموية تعلن عن الارتباك، تقدم الريس منه فاعتدل احتراما له "معناه أنك حصنها الوحيد ضد الدنيا بكل ما تضعه أمامها من مخاطر، تعني أنك الأب والأخ والصاحب"
ظل ثابتا يسمع، يعلم أنه أخل بمسؤولياته تجاها بلا عذر مقبول والآن يتدارك الأمر
"حاولت يا ريس، ظننت أن زواجها سيحميها"
هدأت نبرة هارون "الحماية برجل يمكنه حمايتها لكن سيد يحتاج من يحميه، أعد بناء علاقتك بها فهي بحاجة لك، كن خط حمايتها الأول وليس أنا"
وتحرك دون انتظار أي كلمات أخرى
تحت المياه ضمته لها، لفته بذراعيها ولكنه جذبها له ومنح نفسه جرعته اليومية من إدمان حياته
تذوقت الدم فهمست "هارون"
تناثرت قبلاته هنا وهناك "قلب هارون المجنون بملاكه"
ونست كل شيء وأي شيء ورحلت معه لعالمهم
لم تستيقظ مبكرا، وضع قبلة على وجنتها ففتحت عيونها بكسل "كم الساعة؟"
وضع هاتفه وهو يتابعها "التاسعة ملاكي تبدين متعبة"
على ظهرها تحدق به، وسيم كعادته وهي مجنونة به "نعم سأهاتف اسما لتتابع العمل بدلا مني، لم لا تبقى اليوم هارون؟"
جلس بجوارها على طرف الفراش يده تعبث بخصلاتها "بحاجة لطبيب صغيرتي؟"
جذبت راحته لفمها ومنحته قبلتها "لا، فقط أرغب بالنوم، متى ستعود!؟"
"قبل مجيء رشدي"
لم تعترض وهو جذب يدها لفمه ووضع عليها قبلة ثم انحنى وأخذ قبلتها ونهض خارجا وهي تتابعه بنفس الخوف الذي يملأها كلما فارقها..
جذبت الهاتف واختارت رقم أسما وهاتفتها وقد كان وقت حبسها والدها
أجابت وهي لا تعرف ماذا تخبرها "صباح الخير ليال"
"صباح الخير أسما، أنا أرسلت لك بعض الأشياء فلن يمكنني الحضور اليوم أشعر ببعض التعب"
ارتبكت.. أرادت إخبارها بما يحدث لكن ما ذنبها بهمومها
دقات عنيفة على باب غرفتها وصوت والدها "أسما افتحي، صبحي هنا ويرغب برؤيتك"
سقط الهاتف من يدها من الفزع واعتدلت ليال وهي تناديها بلا رد
دقات عنيفة حتى انكسر الباب فصرخت "لن أقابله ولن أتزوجه، اتركني بحالي أنا تعبت، تعبت"
تحرك مندفعا تجاها، جذبها من شعرها صافعا إياها وهي تصرخ محاولة الفرار بلا فائدة حتى شعرت بالرجل يتراجع عنها ومن وسط صراخها سمعت صوت صبحي
"أهدأ يا رجل الضرب لن يحل شيء"
صرخت به "اخرج من هنا، أنت السبب أنا أكرهك، أكرهك ولن أتزوجك"
اغتاظ صبحي لكنه لم يفلت والدها الذي صرخ بها "سيفعل والآن، اذهب واحضر المأذون يا صبحي والشهود، هي لا تستحق أي حفل، هيا"
لمحت ابتسامة نصر على وجه الرجل الجبان وكلمات واهنة تخرج منه "لتهدأ أولا وبعدها نتحدث، العروسة لها رأى آخر"
صرخت به "لن أتزوجك، اخرج منها وإلا أقسم أن أخبر زوجاتك الاثنان"
هب الأب المتعوس لضربها فانكمشت وصده صبحي "هم يعلمون، ولا واحدة يمكنها فتح فمها بكلمة"
صرخت "لن أتزوجك"
العناد ركب الرجلان وخرجا وصبحي يلتقط هاتفها من الأرض ويمنحه للأب وتم حبسها مرة أخرى وهي تسرع وتدق على الباب صارخة بهم ليفتحوا لها لكن بلا استجابة
****
انغلقت كل الأبواب، الأسود يسيطر وكل الألوان اختفت..
الشقة باردة.. صامتة صمت مخيف، لأول مرة يكره المكان ولا يرغب به..
رحلت.. المكان فقد الروح.. هل حقا كانت تمنح الشقة حياة؟ كل شيء بها كان ينبض بوجودها، التلفاز يعمل بصوت مرتفع أو موسيقى هادئة بالشقة كلها، الأنوار مضاءة حتى ولو كانت بغرفتها
المطبخ نظيف ومرتب لكن به طعام بكل مكان، ماكينة القهوة جاهزة دائما، ملابسه مرتبه ورائحة الورد طغت على رائحته بالغرفة، بالحمام، حتى بملابسه..
الآن كل شيء تبدل، لا حياة.. لا نبض، توقفت الأجهزة عن العمل رحلت الروح، رحل المريض.. وهو المريض
ألقى جسده المنهك على الأريكة، لم يبقى بالغرفة، ولا بالمطبخ وحتى هنا يشعر بالاختناق أيضا
انحنى، ضم وجهه بين راحتيه، صوتها يرن بأذنه يرتفع لعقله "أكرهك"
لماذا لم يعد يشعر بالمعنى القوى للكلمة منها بالأيام السابقة، كانت تستجيب له، توقفت عن المقاومة وليلة الأمس بالذات كانت مميزة ومع ذلك عندما تنطقها تؤلمه
منذ كانا بالفيلا وشيء ما تبدل بينهم.. شيء هو سبب جنونه لأن ناصر تجرأ ونظر لها
نهض والسيجارة بين أصابعه وصفع الباب خلفه تاركا الأنوار كلها مضاءة وبالبيت كان على علي مواجهته
الممرضة الجديدة أخبرته بأنه ينتظره فلم يرد وهو يدخل والرجل ترك الكتاب وحدق به وهو يشعل السيجارة "أحرقت كم علبة اليوم؟"
لم ينظر للرجل فقط النافذة تلقت الدخان، ثلاث علب والرابعة مفتوحة
"أردتني؟"
"ماذا فعلت مع أحلام؟"
نظرة للرجل الذي لم ينطق اسمها منذ عرف بأمرها ونطقه الآن
"انتهينا رشدي، كان على أحدنا التراجع وأنا فعلت فماذا ستفعل معها؟"
أبعد وجهه للظلمة الحالكة ليست فقط بالخارج بل بعتمة حياته، ظلامه الداخلي، برودته التي لا يدفئها شيء "ستأتي معي غدا ونطلبها من هارون وأخيها وبنهاية الاسبوع الزفاف"
فتح الرجل فمه بحركة ذهول.. اتسعت حدقتيه، تلونت بشرته بالأصفر الباهت.. ابنه سيتزوج كما تمنى ولكن المفاجأة حقا توقف كل شيء
التفت ليواجه صمت والده، بل تلك الدهشة المرتسمة على ملامحه "هي زوجتي ولن تكون لسواي"
وقذف السيجارة بالخارج وتحرك خارجا وعلي لا يوقفه، اكتفى بما سمعه وأعجبه والكلمات لن تبدل شيء..
****
ضوضاء بالخارج، أصوات رجال تغدو وتروح وهي تغلق الباب على نفسها ولا تكف عن البكاء
انتهت الحكاية وانغلق كتاب حياتها، صبحي النهاية
بكت كما لم تبكي بحياتها، هرعت للنافذة، فتحتها على آخرها أرادت الصراخ بالجيران لكن..
الفضائح كثيرة هل تتحمل واحدة أخرى؟
ولم لا؟ قبل أن تصل لقرار كان الباب يفتح فالتفتت ورأت الأب القاسي، أب من فولاذ، لا وجود للأبوة بقاموس حياته، محاها، سكب عليها الكحول وأذابها حتى انمحت تماما وربما تناولها مع زجاجته
"هاتي إثبات الشخصية"
زاغت عيونها بدون قصد على حقيبتها وهرعت لها ونالتها قبله وهو يهجم عليها ليأخذها لكنها تراجعت ليسقط على الفراش
أسرعت للباب لتفر من كل ذلك لكن يده قبضت على شعرها من الخلف ليجذبها للداخل "لن يمكنك الفرار لأي مكان"
دفعها للداخل لتسقط على الأرض وهي تصرخ بقوة لعل أحد ينقذها، دقات على الباب جعلته يندفع لها ويجذب الحقيبة منها لكنها صارعته، دفعته فصفعها
تمسكت بالحقيبة وهو يصرخ بها ويجذب الحقيبة ودقات الباب لا تتوقف وهي تقاومه رغم جسدها الملتصق بالأرض
"بابا أرجوك لا تفعل بي ذلك.. بابا لا تلقيني بالتهلكة"
الغضب أعماه، سكن عتمته.. غذى الرذيلة داخله ومنحها قوة الديناصور لتلتهم حياته وابنته وكل فضيلة بقت حوله
"الثروة والجاه تهلكة؟ المال والعز تهلكة؟ أنت لا تهوين سوى الفقر والذل والمهانة لكن أنا لا، أنا من يعرف صالحك وصالحي"
هتفت بدموعها التي لا تجف "أنت لا ترى سوى نفسك ومصلحتك وتدوس علي بطريقك، ألا تدرك كم عمره وكم عمري؟ كم زوجة لديه، من أنا ومن هو؟"
لانت قبضته على حزام الحقيبة وارتخت بيدها ولكن ملامحه ظلت قاسية بلا عاطفة، انمحت منها كل معالم الإنسانية وطغى الطمع بالمال من أجل المزاج
"لا يهم، كل ذلك لا يهم أمام أمواله والمكانة التي سنصبو إليها، زوجة المعلم صبحي وأنا حماه، كل ما نريده سنناله"
لم تصدق ما يقول، كيف ظنت أنه ما زال يحمل لها أي شيء كابنة منحته كل شيء وضحت من أجله بكل ما لديها لكن لن يمكنها التضحية بنفسها ومستقبلها وحياتها، لن تدخل بقدمها جهنم
تألقت عيونه ببريق الطمع والجشع وزاغت نظراته وكأنه يحلم بتلك الحياة من المال والجاه والعز ونسى أنه يدوس على ابنته بطريقه لكل ذلك
وكانت فرصتها لتجذب الحقيبة وتنهض مسرعة للخارج وتفتح الباب لتتراجع من الفزع وهي ترى صبحي ومن خلفه رجل الدين، المأذون ورجلان لا تعرفهم
لجنة تنفيذ الحكم.. الإعدام
هي المتهمة بقتل ماذا؟ نفسها.. حريتها.. أحلامها!؟
هي المجني عليها لكن هي تحاكم بدلا من الجاني
تراجعت بلا هدى ونظراتها ثابتة عليهم.. تحتضن الحقيبة، الدموع تغرق عيونها ووجهها، شعرها المشعث التف حول وجهها بتجاعيد تدل على تعقيد حالة صاحبته
مع كل خطوة منها للخلف كان صبحي يتقدم للأمام وبعيونه نظرات الزهو والانتصار، التملك، الرغبة، الطمع
"إلى أين يا عروسة!؟"
صوت والدها من الخلف زاد من الفزع.. انتفض جسدها التفتت لترى الفخ الذي سقطت به، الجميع يحاصرها، لا مجال للهروب ستتلو الشهادة وتتدلى رقبتها بالمشنقة
ظلت تواجههم وهم يتحركون تجاهها، تحتض الحقيبة كحبل نجاة.. تتراجع للخلف وكأن هناك باب خفي قد تفر منه حتى اصطدمت بزجاج البلكونة
الشيطان يلهو ويمرح، دعا كل قرائنه للاحتفال بالنصر.. تبقى خطوة وينال التاج
الانتحار.. النجاة من المصير المظلم
التفتت قبضت على مقبض الزجاج، فتحته، لفحها هواء الصباح.. صوت عم محمود ينادي على الطماطم الحمراء، الازدحام على عربة عم يونس لساندويتش الفول الصباحي، القهوة واصطكاك الأكواب ومرعي يجيب
"أنا جاي"
خطت للحاجز الخشبي ولم تعد ترى أي شيء ولا تسمع سوى صوت الشيطان، انقذي نفسك منهم.. الموت أفضل من ذلك المصير..
ورفعت قدمها للسور ولكن يد قوية قبضت على ذراعها لتوقفها وتعيدها للواقع بلا رغبة منها للعودة فقاومت وصرخت وركلت لكن اليد لم تفلتها ولن تفلتها..
****
رجل الحراسة فتح له باب المكتب، القصر كبير جدا، فخم، الثراء يصرخ من كل مكان منه وهو لا يحب تواجده هنا لكن الرجل عندما يطلب التواجد هنا يكون هناك سبب قوي
"صباح الخير"
الرجل ظل جالسا وملامحه بدت متعبة وصوته كذلك "تعالى هارون، هل تواصلت مع ريان؟"
الجدية اختلطت بالتعب وهارون أدرك ذلك "نعم، أنت متعب، هل رآك الطبيب؟"
رفع نظراته له ثم جذب السيجار والتزم الصمت وهو يحرق مقدمة السيجار حتى نفخ دخان كثيف وبدا الغضب يصارع ليطفو على ملامح الكبير
"جسار يحاول العودة ولن يظل كثيرا هناك، خذ حذرك منه لأنه.."
قاطعه بهدوء "أعلم، هو لن يعود ويسير بجوار الحائط.. سيرغب بإعادة الحرب وأنا أنتظره، هو بالأساس لا يتوقف حتى وهو هناك"
الدخان حاجز جيد بينهم.. يفصل بين الكبير وخليفته.. هو حقا يعتبره خليفته وليس جسار.. لم يرد سواه وتمنى لو وافق ولكنه لا يقبل وهو ما يزيده حبا به يوما بعد يوم
نهض الرجل بتعب واضح وهارون ما زال بمقعده، يحترمه، يوقره لكن وهو الريس، الزعيم الذي حفر مكانته بين عالم لا يرحم
جلس أمامه وواجه البحر القاتم بعيونه "أنا لا أرغب بتلك الحرب هارون لم لا.."
نبرة حازمة وحاسمة قطعت الكلمات، مزقت الحروف وأغرقت أي طريق للصلح "لا"
تجهم الوجه المرهق، رحل الأمل الطفيف الذي كاد يعلو على الواجهة وانتصر الإصرار بعيون هارون "لا أنا أريده ولا هو أيضا، المواجهة آتية لا شك بها أنت فقط من قمت بتأجيلها"
الرجل يعلم، لا يبغي تلك المواجهة، واحد منهم سيضيع وهو لا يتحمل ضياع أي واحد منهم
"لم لا تقبل بأن تأخذ مكاني؟ أنا حقا متعب"
ضاقت العيون الغامضة.. يسكنها لا شيء لكن بالقلوب غرف كثيرة مغلقة تخفي داخلها ذكريات، آلام وأحزان مؤلمة
نهض هارون مبتعدا لا يرغب بمواجهة تلك العيون النابضة بمعاني كثيرة، الازرق بها يخبره بجهرة، أنت تشبهني، تنتمي لي
"تعلم رأيي بهذا الأمر، أنت أفضل شخص لمكانك ولا أحد يصلح له سواك"
تراجع مستسلما، الحرب لا فائدة منها بتلك الجهة لذا عليه أن يرتد "هل وافقت على طلبات ريان؟"
العودة للعمل منحته الراحة، لا يرغب بفتح ذلك الباب وليس جبان ليفر من مواجهته لكن يرفض التحدث به والكبير يستسلم..
****
صرخت، قاومت، ركلت وقد شعرت أنها فأر سقط بالمصيدة حتى رن الصوت بأذنها "أسما كفى، توقفي واهدئي إنه أنا، صفوان"
بلحظة انطلق الصوت من أذنها إلى عقلها وقلبها ووجهها الذي غرق بالدموع وشعرها يغطيه، سكون بعد العاصفة، هدوء بعد الضوضاء
عيون خضراء تعرفها تحدق بها، جسد عملاق يفصلها عن السور الذي كاد يتلقاها من لحظة، يد قوية قبضت على ذراعيها
صفوان.. هل ماتت ورحلت للعالم الآخر حيث الرجل الذي لم تجد وقت حتى لتتمناه وتفكر به..
نظرات الحنان بعيونه أوقفت انهيارها وفورة الخوف ولكن لم يمكنها استيعاب ما يحدث
سقطت مغشيا عليها..
دخول صفوان وليال باللحظة الحاسمة أنقذ أسما من الموت.. ليال انتزعت صفوان من الريس.. أخبرته بما سمعته بالهاتف فترك لها صفوان ورحل معه أنس
دفع كل الرجال دون تفرقة وجذبها وهي تتسلق لتلقي نفسها من البلكونة، وتلقي قلبه معها بالهاوية
ليال ظلت معها حتى أفاقت بانتظار زياد وصفوان يواجه الرجال بحسم وقوة
"أنا والدها ولا أرغب بوجودك هنا، من أنت بالأساس ومن منحك الحق بالتدخل؟"
صبحي ظل بالخلف، جبان تراجع أمام العملاق
الهدوء يلمس نبرة العملاق لكن القوة هي السيطرة "لا أنتظر الإذن من أحد وابتعد من وجهي الآن كي لا تندم"
صبحي ظل بالخلفية الباهتة لكن صوته ما زال ينبح "من أنت؟"
الخضراء رحلت له، واجهته بحدة، بغضب، بثورة الأشجار المتمايلة من قوة الريح "لا شأن لك"
اندفع الجبان "أنا خطيبها"
وتراجع بنفس اللحظة لأن العملاق أحنى فقط رأسه ونبرته القوية كأنها الريح التي دفعته للخلف "أنت لا شيء هل تسمعني؟"
تدخل الأب الفاسد، الغائب عن الواقع، واقع ضياع ابنته من أجل المال
"توقف أنت وإلا سأستدعي الشرطة"
انحنى صفوان مرة أخرى ونظراته تخيف الرجل، العملاق يمكنه تحطيم أي شيء ولكن العقل هنا من أجل المرأة التي يرغب بها هو ما يقوده..
"الشرطة هذه لأمثالك ممن يسرق ما ليس له، ستخرج من هذا الباب وتختفي من أمامي قبل أن أجعل أكبر قطعة منك أصغر من الفحم الذي تشعله بقهوتك"
تراجع صبحي والرجال التي كانت معه لا تتقدم خطوة، ظلوا بالخلفية مجرد أشباح تملأ الفراغ..
نبح الكلب مرة أخرى "ومن أنت لتظن أني أخشى تهديدك"
"هو المنفذ، الذراع الأيمن لهارون الديب، هو رجل يهابه كل الكبار والصغار"
التفت صبحي ورجاله لمصدر الصوت، زياد، دكتور الريس وصل ومعه نبذة عن المنفذ..
"ادخل زياد، الباش مهندسة ليال معها بالداخل"
تحرك زياد وما أن دخل حتى تحرك الأب كي يتبعه، يد صفوان التصقت بصدره، أوقفه، منعه من التحرك خطوة واحدة "لا أحد سيدخل"
هجوم صبحي تأخر عما توقع صفوان ومع ذلك تلقاه بقبضة بأنفه جعلته يترنح مرتدا للخلف يده تحتضن أنفه وما زالت يد صفوان تقبض على صدر والد أسما فجذبه له وقربه جدا منه والتقى بالفزع بنظراته
"أخرج هذه القمامة من هنا قبل أن يندمون وتندم معهم"
صبحي لم ينتظر، تعثرت خطواته بطريقه للباب وتبعه الرجلين بلا تفكير وكأنهم كانوا ينتظرون الخلاص..
لم يحل والد أسما بل أكمل "ابنتك تخصني ولن تكون لأحد ولو تجرأ رجل على النظر لها سأقتله"
وأفلته دافعا إياه للخلف والرجل لا يفهم أي شيء ولكن الخوف أسكته..
*****
لم تنم لحظة واحدة، كلما أغمضت عيونها رأت الرمادية تطاردها، صوت المرأة التي أجابت من هاتفه ظل يرن بأذنها مبعثرا ساعات الليل بلا راحة
من هي؟ عشيقة جديدة وستنال العرفي بدلا منها؟
هل مزق الورقة وبرحيلها انتهى كل شيء؟ لماذا تتألم؟
ظلت تتحرك هنا وهناك ورأسها يعج بملايين الأسئلة، هل سيأتي حقا؟ وهي، ماذا سيكون قرارها لو فعل وطلبها رسمي!؟
هل تقبل به وبالأمس كان مع امرأة أخرى؟
رنين هاتفها أفزعها، ما زالت التاسعة صباحا.. الجميع رحل فقد سمعت أصوات السيارات والرجال
نظرة للهاتف ورقم غريب فشعرت بقلق ولكن أجابت "أحلام أليس كذلك؟"
ظلت مياه حوض غسيل الأطباق مفتوحة وهي جامدة لا تعرف صاحب الصوت الذي يعرف اسمها "أنا ناصر"
تنفست، صدر الشهيق والزفير متلاحقين بمباراة من الأسرع لنجاتها "أحلام أرغب برؤيتك"
انتبهت، أفاقت، رشدي فعلها بها مرة وهي ليست غبية "لا"
كان يتحرك لسيارته خارجا من الفندق الذي يقيم به، توقف عندما منحته الإجابة، هل ترفض حقا؟ تلك الحشرة ترفضه؟
"لابد أن نلتقي ونتعارف قبل أن نتزوج"
أغلقت المياه واستعادت قواها العقلية "ومن أخبرك أننا سنتزوج؟"
رفع رأسه، لم يظن أنها قد تصارعه، ما عرفه عنها أنها ضعيفة لا شخصية لها ورشدي يحتفظ بها بدولاب الأنتيكة خاصته وهو يعشق سرقة كل ما هو ثمين لديه
"وماذا يعني ذلك؟ أنا طلبتك من الريس؟"
ظلت واقفة بمكانها وهي تجيب بحزم غريب لا تعلم من أين أتت به "والريس منحني الحرية بالرد وأنا لا رغبة لي بالزواج"
لمعت عيونه بشرر يكاد يطير لها عبر الهاتف فيحرقها عن آخرها، من تظن نفسها لترفضه؟
"هل تعرفين من أنا؟"
لفت حول نفسها وبلا تفكير أجابت "هذا شيء لا يهمني"
"ترفضين زواج شرعي وأنت قبلت العرفي من قبل؟ سيمزق الورقة ويلقيك بلا ثمن"
غضبت، ثارت الأنثى داخلها ولم تقبل إهانته فقد اكتفت من الإهانات والآن وهي هنا تحتمي بالزعيم يمكنها خوض أي معركة بشجاعة "أمر لا يخصك، ما بيني وبين رشدي يخصنا نحن الاثنان"
وأغلقت ولم تمنح الدموع فرصة لهزيمتها..
هاتفها عاد مرة أخرى للرنين ورقم مختلف، ظنت أنه هو وكادت لا ترد لكنها شجاعة وفتحت "أنا هارون أحلام، رشدي يرغب برؤيتك قبل أن يأتي بالمساء وأنا منحته الإذن، سيأتي ليراك بعد ساعة"
ارتبكت، قلبها كاد ينفجر ناثرا كل مخاوفه بكل مكان حولها، بح صوتها، ارتجف، ضاع، لم تجد كلمات
"أحلام!؟"
جذبت الكلمات من جوفها وكأنها تجذبه من عمق المحيط "لكن يا ريس أنا.."
كان بطريقه للمكتب ولف رأسه للطريق بالخارج مدركا مشاعرها "ما زلت أمنحك حرية الاختيار ولو لا ترغبين برؤيته سأمنعه"
ستراه وتخبره أنها لا تريده ولا ترغب بأن تتزوجه، ستخبره كم أهانها وذلها وكم تكرهه
"بلى، سأراه يا ريس"
وأغلقت ونالت مقعد بلا وعي جلست، الرجلان يضيقان الخناق عليها وهي تشعر كأنها فأر سقط بالمصيدة ولا تعرف كيف تفر؟
ارتدت ملابسها القديمة، ليست بجودة ما كانت ترتديه ببيت رشدي ولكنها لا تريد منه شيء، ابتعدت عن الوردي، لن تمنحه أي شيء
ارتدت البني والقاتم، جينز أسود ضيق لم يعد يناسبها، تبدل جسدها جدا خصوصا تلك الأيام، الزواج ناسبها..
ضفيرة طويلة لمت شعرها البني على كتفها وخصلات طويلة انسابت على وجنتها، لمن تتجملين يا عسلية؟
صوت السيارة رفع نبضها لآخره، النافذة منحتها رؤية لسيارته الحديثة التي تعرفها ورؤيته ينزل منها بنفس أناقته وغروره زاد الفزع داخلها
حانت المواجهة..
أسرعت مبتعدة عندما أشار له رجال الحراسة لمكان البيت وتحرك بكل ثقة ولكنها لم تكن تعلم مقدار القلق والغضب الذي كان يتحرك داخله مع كل خطوة يخطوها لها
بالصباح جن جنونه من ناصر الذي أخبره أنها وافقت على الزواج منه، كيف تفعل ذلك وهي ما زالت زوجته؟ لم يكن أمامه سوى رؤيتها وهارون لا يمكن تخطيه مرة أخرى
أسرعت للباب بلا وعي وتجمدت أمامه وعيونها على المقبض ولا تعلم أين ذهب قلبها؟ تخلى عنها واختبأ بأقرب خندق، صوت النيران قادمة يهزها
رنين الباب
ورنين نبضها معه ولم تفكر وهي تفتح وترفع وجهها لمواجهته..
رحل الواقع.. رحل العالم والتقت العيون، امتزجت النظرات، العتمة بالنور، العبث بالبراءة، الرمادي بالعسلية..
لفتها نظراته، افتقدها، بات عشر ليال بعيدا بالعمل، اشتاق لها، أرادها لكن العمل سيطر وكان يعلم أنها ببيته تنتظره لكن بالأمس..
لم ينم، لم تغفل عيونه، أحرق كل ما معه من تبغ وأرسل الخدم لشراء غيره بلا توقف، هل حقا لم تعد له؟ سلبها هارون منه؟
واجه نفسه، ليس هارون.. هارون منحه الفرصة ولكنه لم يفهم حتى أتى ناصر وهو من يرغب بأن يسرقها منه وهي وافقت..
وسامته تأخذها لمكان آخر، هذا الرجل تملكها بالقوة، بالغصب، عايرها، قلل منها بكل طريقة والآن..
"سأظل على الباب كثيرا؟"
انتزعها من أفكارها، تراجعت تمنحه ظهرها للداخل بخطوات غاضبة، امرأة أيها العابث؟ لماذا تأتي الآن إذن؟
عقدت ذراعيها أمام صدرها دون النظر له، الآن قوية، كرامتها عادت لها حتى ولو فقدت عذريتها، لم يعد يمكنه إهانتها والريس بظهرها
"متى عرفت ناصر؟"
الجنون حل محل العقل والغضب خير غذاء، التفتت والعسلية رحلت من عيونها، احترقت، ذابت، السكر بها تحول لأسود "عرفته وأنا بين أحضانك، ببيتك، أو ربما بالشركة التي وضعت هدى حارس شخصي علي بها"
الظلام حل عليه هو الآخر، ناصر شوكة علقت بحلقه ولا يعرف كيف ينزعها؟
اقترب منها وهو يرى الحريق المشتعل بعيونها، كانت متوردة، جميلة، فاتنة كما عرفها وسقط ذائبا بين سكرها المعقود..
"مرة لا تتعدى الدقائق تدفعه لمعرفة كل شيء عنك وطلبك من الريس شخصيا"
رفعت وجهها وهي تقاوم صفعه على وجهه لإسقاط ذلك الغرور الملتصق به "كانت مرة أيضا تلك التي جعلتك ترغب بي" وصفعته بالفعل بالكلمات
التفتت مبتعدة "على الأقل هو طلب الشرعية ولم يساوم على شرفي"
قبضته أعادتها له تلتصق بصدره ترفع وجهها ليواجه جمرات محترقة داخل عيونه "شرفك كان بزواج أيضا ولم أغتصبك"
نفضت قبضته ودفعت يداها بصدره لتبعده عنها بقوة وهتاف صادر من ألم تراكم داخل صدرها بسبب ما عانته "بل فعلت، فعلت عندما أجبرتني على العرفي، فعلت عندما أخذتني وأنا لم أكن أرغب بك، أنت سرقت شرفي وعايرتني كل يوم بما كان"
تجهم، رحلت الدماء من وجهه، تظل الحقيقة حقيقة مهما تم تزيينها وتظل مؤلمة مهما التصقت بمخدر
"والآن تتخلصين مني وتلقين نفسك بأحضانه لتنتقمي مني؟"
تراجعت من كلماته، أي انتقام الذي يتحدث عنه؟
أشعل سيجارته المائتين وخمسين وربما أكثر وسعل من كثرة ما أحرق صدره ثم عاد لها "ناصر لا يرغب بك، كل ما يهتم به هو سرقة ما يخصني، لعبة قديمة اعتدنا عليها ونحن صغار"
رددت بلا وعي "لعبة"
ظلا متواجهين رغم الدخان، كلاهم مجهد، متعب من ليلة طويلة الصباح فيها لم يكن مشرق بل ملبد بالغيوم، مخيف بعواصف هائلة، مدمر بأعاصير مهلكة
"ناصر كان يسرق كل شيء مني بالصغر وأنا لم أكن أهتم، والدي كان يمنحني غيره لكن هو كان يعتبر الأمر متعة حتى كبرنا ولم أسمح له بالانتصار"
ظلت تحدق به ولا تصدق كلماته "وأنت تفعل المثل الآن؟"
لم يفهم معنى تلميحاتها "أفعل ماذا؟"
واجهته والدموع رفيق جيد وقت الألم "تحاول استعادت لعبتك منه كي لا ينتصر"
فتح فمه ليخبرها أن ذلك ليس صواب، هو يريدها هي، أراد كل ما تشاركه معها من دفء وهدوء وسكينة، أراد البيت الذي شعت فيه الحياة بوجودها، رائحة الطعام، صوت الموسيقى أو التلفاز
أراد بيت..
أو وطن يا عابث.. المرأة وطن
"لا، أنا لم أفقدك بعد، ما زلت زوجتي"
أخرج الورقة ورفعها أمامها يذكرها بالسواد الذي حاولت محوه من حياتها بلا فائدة فأعادها للجنون
"لا أظن أنك بحاجة لزوجة لديك نساء أخرى تعوضك غيابي"
ضاقت الرمادية ولم يفهم كلماتها فمال تجاهها والدخان فر من بينهم "أي نساء؟"
بالطبع سينكر "أنت تعرف أي نساء، كالتي تجيب هاتفك مثلا لأنك مشغول، ستظل العابث الأزلي لنهاية عمرك ولن تكفيك امرأة واحدة وأنا لا أقبل بتلك الحياة"
قبض مرة أخرى على ذراعها والجنون وصل لأعلى مؤشراته "أي امرأة التي تجيب هاتفي؟ حتى زينب لا تفعل وأنت تعلمين ذلك، هل تخترعين قصة تبرري بها موافقتك على ناصر؟"
حاولت التخلص منه مرة أخرى وهو يكور الورقة التي تربطهم بين أصابعه من الغضب ولم يفلتها وهي تبادله نفس الغضب والجنون "أنا لا أبرر شيء، هاتفك معك وامرأتك عندك وناصر اتبع الطريق الصواب ولم يسرقني بورقة ويقوم بإذلالي بها كل لحظة"
الجنون زاد وزاد لمرحلة لا يمكن التوقف عندها وهو يرفع الورقة "أنت مشكلتك تلك الورقة؟ ها هي"
ومزق الورقة وتناثرت الوريقات بينهم وهي لا تصدق ما فعله ولكنها لم تهتم، ما زال ذلك الشيء الغامض داخلها بسبب امرأة أجابت هاتفه
"جيد والآن اخرج لا أريد رؤيتك مرة أخرى، أنا أكرهك"
وقبل أن تغرقها الدموع كانت تتركه وتتحرك لغرفتها وصفعت الباب خلفها وظلت تستند على الباب والبكاء هو كل ما أمكنها فعله
"لا تظنين أني سأتركك له، ناصر لم ولن ينتصر علي، لن تتزوجي سواي"
ورحل هو الآخر صافعا باب البيت خلفه وهي تهتز من الصوت ومن كلماته.. لقد أصبحت لعبة يتصارعان عليها، ليست بشر تتألم وتحزن، لها رأي بكل ما يحدث لها
هي لا تعرف كيف تهزمه، بكل مرة يدمرها، ينسفها، يحطم داخلها شيء والآن لم يعد لديها أي شيء
****
المحلول أعادها للواقع، الواقع الذي تكرهه.. لم تعد ترغب به، لماذا لم يتركوها لتموت؟
"أسما!؟"
صوت ليال جعلها تلف رأسها، تستوعب ما حدث.. صفوان، صفوان هو من أنقذها
ليال تلقتها بنظرات ممتلئة بالحنان، تجلس بجوارها على الفراش تلمس يدها الرابضة بجوارها، دموع هربت من بين رموشها وشعرت أنها متعبة، متعبة جدا
رحلتها بالحياة امتلأت بالأسى والمرارة، لم تعرف يوما جيدا حتى قبل موت والدتها كانت تعاني من تصرفات والدها الأناني
"هل أنت بخير؟"
هل حقا ليال هنا؟ لم تتخلى عنها رغم أنها لم تطلب مساعدتها "لماذا لم تتركوني أموت؟ لا أريد أن أعيش"
ضغطت ليال على يدها الباردة وسمعت صوت رجولي "هي بحاجة للراحة يا باش مهندسة، راحة نفسية"
نظرات ليال عنت الكثير، تعاطف، شفقة، غضب على أب لا يملك أي رحمة تجاه ابنته
"شكرا زياد أنا لن أتركها"
خرج زياد وعادت ليال لها "أسما أنت مؤمنة وعليك إدراك أن ما فعلتيه ليس صواب"
الضعف كان بصوتها، جسدها حتى نظرة عيونها، اليأس دافع للانهيار والانهيار أولى درجات الرغبة بالموت..
"تعبت ليال، أنا لا يمكنني الزواج من ذلك الرجل.. الموت أهون"
ربتت على يدها، حاولت أن تمنحها طمأنينة، راحة، ثقة بأن ذلك لن يحدث، صفوان سيدمر كل شيء قبل أن يلمسها أحد، كان كالمجنون وهو يقود بها بعد أن أخبرته ما سمعته
"لن يحدث ذلك أبدا، صفوان سيقتله قبل أن يقترب منك"
قلبها عاد للحياة بتلك الكلمات، هل حقا هناك رجل بظهرها؟ يدفع عنها ويحمل بدلا منها ما تعبت من حمله؟
دقات على الباب وليال تأذن رأته يفتح ويطل رأسه "هل يمكنني رؤيتها؟"
نهضت ليال لتسمح له "نعم"
التصقت عيونه النابضة بالقلق بعيونها الباكية وقد أرخت رموشها عليها تخفي شعورها بالخزي من تلك الحياة التي تعيشها..
وقف أمام فراشها وليال تسربت للخارج تاركة الباب مفتوح، لم ترفع عيونها له، مجروحة القلب، تائهة، ملتفة بعار أب نثر الرذيلة بكل خطوة من خطواتها ولم يعبأ بها
"أسما"
الدموع زادت وصوته تبدل، صوت العملاق لا يناسب العملاق، حنان كان يعرفه بالصغر ونساه مع الضياع الذي سقط به، مشاعر ظن أنه لن يلمسها داخله وبلحظة شباكها أسقطته، جنون الغرام أخذه ولا يعلم كيف
أليس هو نفس الجنون الذي أصاب زعيمه من قبل وأسقطه في الصغيرة؟
لا يعرف كيف ركع على الأرض بجوار فراشها ولا كيف تجرأ ولمس يدها الفاقدة للحياة فرفعت رموشها المبللة لوجهه القريب
التقت بالحدائق الخضراء بعيونه، الأمل، الحياة، الراحة
البنية بعيونها ذابت كذوبان حبات القهوة باللبن، ارتجف الجسد الذي رغب بالخلاص، نبض القلب المنفطر من الألم، سكن الخوف وحلت الطمأنينة
"لن يمسك أحد طالما أنا على قيد الحياة"
بكت بصوت مرتفع، كأنها تتخلص من همومها بالدموع، تغسل قسوة القدر "شوش، شوش.."
لمس وجنتها ليمسح دموعها وصوت يحاول تهدئتها حتى توقفت "ألا ترغبين بوجودي معك؟"
ظلت راحته العملاقة على وجنتها ونظراتها له تلمع بمعاني كثيرة "كل من كان معي يتركني"
ضم يدها التي بين يده لصدره ودموعها تغرق راحته المستقرة بدفء على وجنتها ولم تتبدل ملامحه بل ارتاحت نظراته على عيونها
"فقط أخبريني أنك ترغبين بوجودي وأنا سأمنحك وعد بأني لن أتركك أبدا إلا بموتي"
لم تفكر كثيرا، هي كل ما أرادته رجل يحبها، يمنحها الحنان، رجل لا تخشى بجواره من شيء وتدرك أنه سيحميها بحياته، ربما لم تجد وقت لتمنح ذلك الرجل أي شيء لكن قلبها رحل له دون إذن منها
منذ ذلك اليوم بمكتب ليال وهي رأت بعيونه شيء خطفها، شيء اندفع لقلبها بلا استئذان، شيء الآن يرتفع ويتحكم بها ويتحدث بدلا منها "أنا لم أرغب بأحد بأي يوم لكن وجودك هو كل ما أرغب به الآن، أنت أنقذت حياتي وأنا لا أستحق رجل مثلك"
رفع يدها لفمه ووضع قبلة.. متى تعلمت ذلك يا عملاق؟
"لو علمت من أنا فقد يتبدل رأيك"
تنهدت ويدها تقبض على يده "أعلم من أنت، لا أحد لا يعرفك"
ظلت نظراته ثابتة عليها، أراد أن يمنحها الحقيقة مجردة من كل شيء، الواقع، واقعه، الدماء التي تلون يداه.. الماضي المعلق بعنقه.. العالم الذي ينتمي له
"أنا ملوث بالدماء"
"دماء أشخاص بالأساس ملوثة تستحق العقاب"
تمنحه مبررات، هل تريح قلبه!؟ لا مبرر للخطأ
"حياتي مرتبطة بهارون، هو بالمقدمة وكل شيء خلفه، قد أموت وأنا أدافع عنه هو وليال"
احترمت صراحته ولم تعترض، لم يعبث بعقلها بكلمات مزينة بالورود ومعطرة بعطر الخديعة "وبالتأكيد هارون سيفعل المثل، لن يفقدك لأجل نفسه"
تجولت نظراته على ملامحها المتعبة "ما أن يشفى والدك من الإدمان حتى نتزوج"
لم ينتظر الرد، هو أصدر الحكم وهي لا تقدم أي دفوع أو استئنافات، أصبح الحكم نهائي
"صفوان"
انتبه لصوت ليال فنهض تاركا يدها والتفت لزوجة الريس التي اقتربت منه "هارون أرسل رجلان لحراستها وأنا لابد أن أعود البيت تعلم ما لدينا الليلة"
رشدي وأحلام، نعم يذكر..
"أسما لابد أن أعود، المشفى سترسل سيارة لتصحب والدك وأنا سأتولى أمره ورجلان سيبقيان لحراستك"
لم تعترض وهو يلف رأسه لليال "ألا تحتاج لمن يبيت معها؟"
كانت قد فكرت بذلك "ثمية سترسل فتاة تعرفها لتبقى معها الليلة لا تقلق"
التفت لها ونظراته تحمل القلق عليها وهي تجيبه بنظرات أخرى، أنا بخير لأنك دخلت حياتي
انحنى جدا من مكانته العالية ووضع قبلة على جبينها وصوته بجوار أذنها "حافظي على نفسك من أجلي"
ابتسمت أخيرا.. أشرق النهار ورحل الظلام.. حل الأمل وهزم اليأس
أخيرا سلام وسكينة، أغمضت عيونها.. نامت
****
لا مكان للعقل هنا، لقد سقط الجنون وتحولت الحكاية لمهزلة
معركة قديمة الأذل تتجدد اليوم وبسبب امرأة.. العقل يسقط وتحل مشفى الأمراض العقلية
الزعيم يدرك ما سيحدث الليلة على أرضه، بيته، رجلان كانا بيوم ما أقرب الأصدقاء حتى تلونت صداقتهم بألوان الكره، الرذيلة تمحو كل جميل، تفسده وترتفع رائحته المقززة حتى ينفر منها الجميع..
لفت ذراعيها حوله من الخلف كما تحب أن تفعل ورأسها ترتاح على ظهره "فخورة أني زوجتك؟"
ترك الهاتف على مائدة الزينة وجذبها أمامه ووجهها يرتفع له، حبائل الأسود تغمر يده، نقاء بشرتها البيضاء تلمع بضي ينير حياته.. شفاها تناديه ليلتقط تفاحتها الحمراء
"وأنا محظوظ لأني لدي هذا الجمال ملاكي"
ووضع قبلة رقيقة على شفاها وهي ترفع يداها على صدر قميصه بلا جاكيت "أنا لا أفهم لماذا وافقت على مجيء ناصر لطلب أحلام حبيبي، أليست زوجة رشدي؟"
مرر أصابعه على وجنتها بمتعة لملمس وجنتها الناعمة "ما زال رشدي يظن أنه يسيطر على كل شيء لذا يحتاج لقرصة أذن أخرى"
ظلت ثابتة الملامح، تتعلم، ترى الحكمة بعيون الزعيم، عمق الأزرق بعيونه يأتي من أعماق المحيط يحمل داخله الكثير من أسرار، حكمة، خبرة، معرفة ومع ذلك لا يتحدث أبدا عن نفسه بل تصرفاته تنوب عنه
"أحلام غاضبة جدا منه وعرفت أنهم تشاجرا اليوم ومزق الورقة"
نبض هاتفه برسالة، أفلتها ليراها وهو يجيب "لا يوجد زوجين لا يتشاجرا ملاكي خاصة لو كانوا أغبياء مثل أحلام ورشدي"
ضاقت عيونه للرسالة ثم عاد لها وهي تمنحه كلماتها "أنت ستوافق على رشدي أم ناصر؟"
رفع عيونه لها يمنحها نظرة عتاب "أنا!؟"
ظلت جامدة لا تعرف ماذا عليها أن تقول ونظرة العتاب بعيونه واضحة حتى استوعبت ما بعيونه "أحلام"
عاد للهاتف وعبث به ثم وضعه بجيبه ورفع وجهها له بإصبعه "أحلام لم تعد ضحية ملاكي كما وأنها ما زالت زوجة رشدي، تمزيق الورقة لا يعني نهاية الزواج، فقط لو سترغب بتركه عليه بتحويل الزواج لشرعي ثم منحها الطلاق هذا كان قراري صغيرتي"
رفعت يدها للحيته وقلبها يعشق ذلك الرجل "تحبك صغيرتك هارون"
ابتسم وملأ روحه بمذاق قبلتها وهمس "وأنت قلب هارون"
هو لا يعرف كلمة الحب فهي لا تمنحها حقيقة مكانتها لديه، الإنسان يحيا طالما قلبه ينبض وهو يحيا بوجودها ولو رحلت سيموت لذا هي قلبه، روحه التي تسري بكيانه، نصفه الأبيض
خطواته الثابتة كانت تمنح من أمامه نبذة عن الزعيم، زوجته تتألق بذراعه، ترى بعيون زوجها، تدرك من كلماته ما لم يدركه الآخرين
نهض رشدي لرؤيته، علي هو الآخر نهض، هو يعرف هارون الديب، رآه مرات عديدة بحفلات الكبير لكن لم يعرفه شخصيا واليوم يراه وجها لوجه..
محادثته بالهاتف منحته نبذة عن الرجل، للحظة تمنى لو كان ابنه مثل هذا الرجل الذي يزرع الاحترام لنفسه من كل من يقابله ويعرفه
"مرحبا سيد علي، رشدي"
حياه الرجلان وبدت ملامح رشدي قاتمة، لم يتحدث منذ رحل وتركها، علي حاول جذب أي نقاش منه لكن بلا فائدة
عرف تلك المرأة ورأى مكالمة أحلام وأدرك ماذا عنت بكلماتها
"زوجتي"
تحية من رأسها لهما تبادلوها معها وهي تجلس بجواره، هي تعرف رشدي وهو أيضا منذ حفل الفندق لكن والده لا
أنس وصفوان يقفان بالقرب وباللحظة التالية كان سعد ينضم لهم بأمر الريس
تم التعارف، الغضب، الكره، رغبة بالانتقام كل ذلك ارتفع جملة واحدة بوجه سعد ونظراته لرشدي الذي ظل كما هو، جامد الملامح
تلامس الأيادي طفح بكل ما يتبادله الاثنان تجاه الآخر..
والريس يجلس بمكانه يتابع بصمت ما يقال بالنظرات حتى تراجع سعد واقفا ولكن هارون كان هادئا وهو يمنحه الأمر "اجلس"
نظرة توقير واحترام منحها سعد للريس الذي ثبت نظراته عليه كي يبعد التردد فتحرك وجلس وعاد الريس لضيوفه
"سعيد بأنك أصبحت بخير سيد علي"
الريس الآن يضع القواعد ويرسخ الاحترام بمجلسه "وأنا أيضا يا ريس"
الاحترام لا يرتبط بالأعمار "رشدي"
رشدي كان يشعل سيجارة ونفخ دخانها وهو يلتفت لهارون وكأنه ينتزع نفسه من دوامة الأفكار والغضب والرغبة بلكم أحدهم
"هارون"
لمعت عيون هارون وهو يرى الصراع الخفي بالرمادية "عرفت أنك تعتني بوالدك الآن"
عبث بالسيجارة وثمية تضع المشروبات وتنصرف "مر بأكثر من أزمة والجراحة تحتاج راحة"
هدوء مر وليال تمرر نظراتها على الرجال حتى قطع علي الصمت "نحن هنا لطلب يد أحلام لرشدي يا ريس"
انغلقت نظرات هارون، لم يعرف أحد أبدا ما بهم حتى امرأته كثيرا ما كانت تتيه بأعماقها وهو فقط من يرشدها ويدلها، نظراته رحلت لسعد الذي كان كل تركيزه على رشدي
"نحتاج لرأي أحلام"
احتدت نظرات رشدي وهو ما زال يغلي من لقاء الصباح ومن ناصر ومن خروجها من بيته..
"حبيبتي هل تخبري أحلام بأن تأتي؟"
ابتسمت له..
ذاب كعب الحذاء العالي الذي أحضرته لها ليال مع الفستان الفيروزي وطلبت منها أن ترتديه وفعلت ولم تجلس لحظة واحدة
أخبرتها بالشجار الذي وقع بينهم، بتمزيق الورقة، لكن لا شيء منحها راحة، خاصة أن تمزيق الورقة لا يعني طلاق، ظلت غاضبة ولم تصل لقرار
"هارون ينتظرك أحلام"
التفتت لها، منحتها غرفة بالأسفل لتنتظر بها وتأملتها، العسلية ملفوفة بالفيروزي بدت كعروسة من عرائس الأطفال، جميلة، رقيقة، خصلاتها داعبت رموشها، شعرها توسط رأسها بكومة همجية مقصودة بلا مساحيق زينة
ارتبكت، تفجرت داخلها مشاعر الخوف والحيرة والتمرد، التمرد على عقلها الرافض لذلك الرجل، وليس قلبها، وبذات الوقت رغبت بقذف وجهه بكل ما داخلها من غضب
واجهتها ليال، رأت كل شيء بعيونها، براءة أحلام واضحة، ضعفها يجعلها مطمع لكل ندل وجبان لذا هارون وضع حمايته عليها "خائفة!؟"
هزت رأسها، ليال هي كل من لها الآن، تمنحها الراحة والحنان كأنها الأم رغم أنها تكبرها بعامين فقط لكن عقل ليال تمرس واكتسب الكثير على مر السنوات..
"تعلمين أن هارون معك، لذا لا تخشين شيء"
"كيف سأتزوج رجلا آخر لو رفضته؟"
هذا حقا سؤال معقد، جعلها تدرك كيف يعالج هارون الأمر بحكمة
"هارون يعرف ماذا يفعل أحلام لكن قبل كل ذلك هل حقا ترفضين رشدي؟"
فرت منها، ابتعدت ولم تعرف ما الذي تريده؟ واكتفت ليال وهي تتعجلها بالعودة
نظرات رشدي رحلت لها بالحال، العسلية تنبض بالحياة، تتألق برونق خاص زادها جمالا وبراءة وهو لن يتركها..
"مساء الخير"
لم ينهض أحد لوجودها وجلست بجوار ليال وعيونها بأصابعها المضمومة مع بعضها البعض بلا سكينة فوق ساقيها الواضحة من الفستان القصير
ثار غضبه لرؤيتها بذلك الفستان، مفتوح الصدر، قصير، محكم على جسدها بعناد مظهرا جمال قوامها بعد أن صارت امرأة
"أحلام، رشدي طلب يدك للزواج من أخيك وينتظر رأيك؟"
تورد وجهها وبصعوبة رفعت وجهها للريس ورأى العابث وجهها المضيء، بلا مساحيق تجميل كما عرفها.. عيونها تبهره دائما حتى وقت الغضب تثيره أكثر ويرغب بها بلا رادع
تحولت عيونها لسعد الذي جمدت ملامحه عليها وقبل أن تفتح فمها لتجيب كانت ثمية تخرج لتفتح الباب وناصر يقف منتظرا الإذن بالدخول..
*****
وأخيرا استعادت نفسها ونهضت، المياه غسلت تعب الأمس واليوم وعيون صفوان غسلت كل همومها وتلك الفتاة التي ارسلتها ليال تركت لها إفطار ورحلت
ما زال البيت كما كان، أشياء هنا وأخرى هناك، ليال عرضت عليها أن تأخذها معها ولكنها رفضت، بيتها هنا حتى ولو عانت به كل ما عانت
صفوان سدد الإيجار والرجال تحرسها والأمان عاد.. والدها رحل مع رجال المشفى تحت صراخه ورفضه ولكن إبرة مخدرة أسكتته عن المقاومة
من البلكونة رأت نظرات صبحي لها، أنفه مكدوم فرمقته بنظرة كره واضحة وهو ظل يواجها وكأنه يتحداها حتى رأت امرأتين ضخمتين بملابس بسيطة يتحركن له فهب واقفا عندما رآهم
وقامت المعركة، زوجاته الاثنان عرفا بما كان ينوي فعله وفضيحة كان يستحقها كانت مصيره بالشارع وهي تنفست براحة، عادت لها كرامتها..
الآن يمكنها مواجهة الحياة كلها بوجود ذلك الرجل بحياتها، يمكنها التفكير به بلا شوائب تشوه علاقتها به، لا يهمها عالمه فهي لا تختلف عنه كثيرا، هي الأخرى تنتمي لعالم سفلي كاد يسحقها ويفنيها..
عندما فتحت جهازها لتعمل، أغمضت عيونها على اسم ليال، هي من فتحت لها مفتاح النجاة، لولا ليال ما عرفت صفوان ولا نجت من صبحي ولا وجدت ذلك العمل، ستظل مدينة لها لنهاية عمرها..
****
تجهمت الوجوه.. نبض الصمت من كل مكان بقاعة الاستقبال وناصر يتقدم للداخل ببرود منقطع النظير والريس يسند رأسه على أصابعه، كان واثق من أن ناصر سيكمل التحدي مع رشدي وتعجب لإصراره الشديد على فتاة لم يراها سوى بضعة دقائق
"مساء الخير"
لم ينهض أحد لتحيته، ليس ممن يحمل الاحترام بين يديه فيمنحه الآخرين بعض منه
"أهلا ناصر، لست بحاجة للتعارف فالعائلة تخصك، فقط هذا سعد أخو أحلام"
حياه الرجل وجلس بمواجهة رشدي الذي ثبت عيونه عليه، نظرات التحدي كانت واضحة ونظرة الخوف لمعت بعيون أحلام، أي جنون الذي يحدث هنا؟ لماذا فعل الريس ذلك؟
"بالطبع الريس يعرف سبب وجودي"
رفع هارون رأسه وواجه ناصر "لكن أخيها لا يعرف"
لف وجهه لسعد الغاضب والمقيد بحضرة الريس "تمام، سعد أنا أرغب بطلب أختك للزواج، أنا رجل أعمال لي شركة مستقلة بالقاهرة، بيت بالتجمع الخامس، ومتعجل بالزواج"
إلى هنا وكفى، هب واقفا نافضا الجمود لبالوعة الجنون الذي سقط به "أنت لن تتزوج أحد هنا هل تسمعني؟"
لمعت عيون هارون، رفعت أحلام وجهها المغطى بالفزع للرجل الذي كان زوجها، ليال ظلت بلا تعابير كزوجها تنتظر النتيجة وناصر بارد انتصر على رشدي بالجمود تلك المرة
الأب كان عليه التدخل "رشدي اهدأ، الأمر الآن بيدهم وليس بيدك"
نظرة انتصار لمعت بعيون ناصر، رشدي يدرك ذلك لذا لم يسمع لوالده "الأمر بيدي أنا وهي لن تكون لسواي"
نهض سعد واقفا وقد فاض به الكيل، لا يحب رشدي ولن يناسب أخته رجل كل يومان مع امرأة جديدة
"أنت لا تملك أي حق بتحديد مصيرها، الريس وأنا من لهم الحق بذلك"
التفت له بعناد وقوة "وهي لن تقبل إلا بي"
غضبت، لن يتبدل، غروره يلفه، يرفعه فوق بساط وهمي يظن أنه الرجل الخارق
"ولم لا ندعها هي تقرر؟"
كلمات تزيد النيران اشتعالا بلا مبالاة بالتبعيات، وبلحظة وجدت نفسها محط الأنظار، كتمثال امرأة وسط معبد خالي إلا منها والأضواء سقطت عليها فجأة، عرتها من كل شيء يخفيها عن الأنظار
"هي ليس لها رأي، أنا أخيها وأعرف صالحها جيدا"
تنفست وقد منحها أخيها الخلاص دون أن يدرك
عادت الدائرة تدور والسهم يقف عند سعد، هل سيعيد ما كان!؟ يضع سيد بلائحة الاختيار ويختاره هو؟
رشدي لا يتراجع، شيء يلغي الحكمة من تصرفاته، شيء ما يوقف عقله، شيء ما ..
أخبرتك أنك تفقد، بل فقدت السيطرة وسقط به
الغرام...
"أنت لا تعرف أي شيء، أنت فقط ترغب بالتخلص منها وإزالتها من طريقك ولا تفكر بصالحها"
"وأنت تفعل!؟"
اقتربت الوجوه ورحلا عن الموجودين كأن لا أحد سواهم موجود، مواجهة كانت متوقعة لكن بلا نتيجة متوقعة
"وماذا عن أني أطلبها للزواج!؟ ألا يعني هذا لك شيء؟"
تجهم الوجه، للحظة ضاعت الإجابة
"وأنا أيضا أطلبها للزواج"
الرد كان حازم من رشدي تجاه ناصر "أنت تخرس تماما وتنصرف من هنا قبل أن ألقيك بنفسي بالخارج"
نهض ناصر فاقدا أعصابه، رحل الجمود المتصنع وحلت الطبيعة محله "ليس بيتك لتطردني رشدي، أحلام فقط.."
بلحظة كان يترك سعد ويتحرك له لكن الجدار البشري الصلب كالعادة كان كل ما واجهه ليوقفه
الريس.. هارون الديب
يعلم متى يتدخل ورشدي لا يتوقف "لا تنطق اسمها على لسانك، اتركني هارون، لابد أن يقف عند حده"
يد هارون ظلت على صدر رشدي والقاتمة تواجه الرمادية التي أظلمت بسواد حالك يرغب بإنزال العذاب على المنافس المغتصب لم ليس له
"أنتم ببيتي"
كلمتين أوقفا كل شيء لكن النبرة كانت تحمل تحذير ضمني وصل لكلا الرجلان فتراجع رشدي وارتد للمقعد مشعلا سيجارة نافخا دخانها دون النظر لها بل سبحت نظراته بين نفحات دخانه المتطاير والريس يلتفت لناصر ثم أحلام التي ارتجفت أكثر مما كانت ترتجف من الصراع الماثل أمامها
"أحلام، هذا قرارك"
ظلت تنظر له، لم يخبر أحد بزواجهم العرفي، رشدي لم يفضحها الآن كما هددها مرة بإخبار أخيها عن الدعارة ومساومتها له بالزواج، ما زال يتمسك بها ولكن..
لا يرغب بانتصار ناصر، ذلك الغضب والقوة بمواجهة سعد وناصر ليست من أجل لعبة
ماذا لو رفضت؟ كيف ستواجه حياتها مع أي رجل سواه
"الرأي رأيك يا ريس"
تحرك لها فرفعت وجهها ونهضت لتواجه نظراته وبلا أي مقدمات قال "تعرفين ما أعرفه لذا قرارك هو نفس قراري"
نظراته كانت حادة، حاسمة، فهمت ما أراد قوله، العرفي هو ما يعرفه كلاهم وكأنه يخبرها ما فكرت به
هزت رأسها وعيونها بعيونه، لم تخفض وجهها ولم تعود لأخيها "أنا لست لعبة يتبارزان عليها من منهم سينتصر على الآخر وينالها لمجرد الفوز وبعدها يلقيها بلا اهتمام"
نفخ رشدي الدخان بقوة خط طويل أمامه ولف وجهه لها أما ناصر فتراجع بالمقعد وابتسامة ساخرة تعبر فوق شفتيه..
"الزواج ليس لعبة ولا رهان أحلام، ليس وأنا من سيكون شاهد أول على زواجك ومن سيتلاعب بك سيكون عليه مواجهتي أولا"
امتلأت عيونها بالدموع على نفسها الضعيفة وهمس ضعيف خرج منها "وأنا مدينة لك بالكثير يا ريس"
عودة للجمهور والريس يستولي على المسرح وحده "كلاكم هنا للزواج منها وواحد فقط من سيحظى بها، مهر أحلام مليون جنيه ومؤخر الصداق ثلاثة مليون وشبكة هي من تختارها وإقرار بأنها ستنال كامل حقوقها لو فكر زوجها بمنحها الطلاق أو فكرت بأن تخلعه"
تجهم وجه ناصر أما رشدي فالجنون كان قائده بتلك المعركة والتحدي يرتفع به لمكانة قد تقضي عليه لو سقط منها بلا وصول لغرضه
"أوافق"
رفعت وجهها له بلا تصديق.. ليال ابتسمت، علي حدق بابنه بذهول، هارون وجه عيونه لناصر الذي ارتبكت نظراته، شحب وجهه ونهض يغلق جاكته "تعلم أني لا أملك كل ذلك يا ريس"
ظل هارون بمكانه وعقد ذراعيه أمام صدره بحزم "وأنا سعدت برؤيتك"
رحلت الدماء تماما من وجهه ولم يعد يجد ما يمكن أن يقول أو يفعل فتحرك للخارج وسعد يواجه الريس "يا ريس.."
قاطعه هارون بلا تراجع بقراره، رشدي لم يفكر، اتخذ قراره بثانية إلا ثانية معلنا عن أشياء هو نفسه لا يدرك أنها داخله
"أحلام وافقت على رشدي سعد، لنقرأ الفاتحة وبنهاية الاسبوع عقد القران والزفاف، هنا ببيتي"
ليال نهضت وقبضت على يد أحلام التي أفاقت من الذهول الذي أصابها لتعود لمقعدها مع ليال وهارون عاد لمقعده هو الآخر وبدأ الجميع يتلون الفاتحة
بلا أي مقدمات أخرج علبة من جيبه ونظر لهارون "هذا ليعرف الجميع أنها أصبحت تخصني يا ريس"
منحه هارون إيماءة برأسه فنهض لها ودون أن تنظر له وضع خاتما ماسيا بإصبعها ولمسة يده لها كانت تعني شيء واحد
أنت ملك لي ولن تكوني لسواي