
رواية حرب سقطت راءها الفصل السادس والعشرون26 بقلم نور زيزو
بعنـــوان " ما بين الحُب والخذلان"
كانت الليلة ساكنة، والبرد يزحف تحت الأبواب والهدوء يعم الليل بسكونه، فتح "الجارحي" الباب بقوة خفيفة لا تشبهه، ولا يشبه صوت الطلقات التي تركها خلفه ولا صرخات “عمران” التي لم ينجُ منها أحد، وجد الضوء الخافت من المصباح الصغير سقط على ملامحها قبل أن يسقط عليه، فشعر لأول مرة منذ بداية هذا اليوم العصيب أنه يعود إلى شيء يخصه، تقدم بخطوات بطيئة، ثقيلة ليس من التعب، بل من كل ما فعله قبل قليل وقساوته فى أنتزاع الحق من "عمران" وتحقيق انتقامه لأجل طفله وزوجته الصغيرة فزحف بقدميه بخطوات بطيئة ، رأته "قُدس" فى حالة من التعب والأرهاق واضح جدًا على ملامحه فوقفت من مكانه تصبو نحوه هى الأخرى وعندما وصلت إليه، لم تسأله شيئًا لم تطلب تفسيرًا لحالته التى تراها، فقط رفعت يدها ولمست وجهه برقتها الدافئة ، تلك اللمسةكأنها أطفأت الوحش الذي كان يلتهم "عِمْران" دون رحمة وقبل أن تدرك ما يحدث، كان "الجارحي" قد طوّقها بذراعيه بقوة.... قوة عاشق يحاول أن يثبت لنفسه أنها هنا وأنها بخير، دفن وجهه في كتفها، وصوته خرج مكسورًا بشكل لا يليق برجل مثله:-
_قدس ،لو تعرفي… ،لو تعرفي إني من شوية بس كنت هاهدم العالم بيدي لكن رجوعي هنا، ليكي… ده اللي خلاني أوقف، كنت ناوي أقتله لكن وجودك أنتِ وخوفى من أنى أسيبك لوحدك هو اللى منعني
رفعت رأسها ببطء، تبحث في عينيه عن أي أثر للوحش الذي خرج ليقتل "عِمْران" فلم تجد حتى طيف الوحش ،بل وجدت رجلًا مُنهَكًا فقط ، منهكًا من مقاومة مشاعره أكثر من معاركه مع العالم ، لامس خدّها بأنامله، لمسة خجولة، ناعمة، وخالية من العنف المعتاد، وقال بصوت منخفض، حقيقي، يشبه اعترافًا لم يقله لأحد من قبل وعينيه عالقة بسحر عينيها الدافئ:-
_ أنا لو عليّ… أهد الكون كله عشانك يا قُدسي بس تكوني واقفة جنبي وفى حضني طول الوقت ومتبعديش عنى أبدًا
تجمدت "قدس" لحظة من جمال حديثه ونبضات قلبها تتسارع وهذا الحبيب التى انتظرته لسنوات يتحدث عن العشق بعلانية، وما كان منه إلا أن يسحبها إليه مرة أخرى، يحتضنها بقربٍ لم يسمح لنسمة الهواء أن تعبر من بينهما
همس وهو يغلق عينيه وأنفسه تستنشق عبيرها من عنقها البارد قائلًا:-
_ ما تبعديش حتى لو خفتِ مني في يوم، ما تبعديش يا قدسي الوحش ما بيظهرش إلا بعيد عنك لكن جنبك أنا بني آدم يا قُدس
ظلّ "الجارحي" يحتضنها، أنفاسه ساخنة ومضطربة، وكأنه راجع من حرب لم ينجُ منها أحد سواه، رفعت قدس يدها ببطء، تمرّر أصابعها على شعره، حركة صغيرة لكن تأثيرها كان كالسحرفهمست ببراءة وقلب عاشق :-:
_ إنت تعبان… مش لازم تحارب العالم كله عشاني لأنى ببساطة معاك وملكك يا جارحي، مش محتاج تحارب عشاني وأنا بين أيديك
شهق نفسًا طويلًا، كأن كلماتها دخلت أماكن في صدره ما كان يعرف إنها بوجودها ودبت الطمأنينة فى صدره وشعر بالسلام فى روحه ، رفع عينيه لها ببطء، وصوته خرج مترددًا:-
_ أنا بخاف… بخاف منك تبعدي، بخاف إن اللي جوايا يجرحك
ابتسمت ابتسامة صغيرة، ناعمة، لم تهزأ به، لم تُشفق عليه، بل طبطبت على روحه بطريقة ما يفهمها غيرهما
_ أنا هنا… مش رايحة مكاني
حركت يدها على صدغه، تسندها وتسحب رأسه برفق ليلمس حضنها، وكأنها تطلب منه يتوقف عن القتال… دقيقة واحدة فقط ولأول مرة
استجاب وأسند رأسه على كتفها، ذراعاه تحيطان بخصرها كأنه يحضن الحياة نفسها قال بصوت يكاد يختفي:-
_ حضنك… بيطمنّي، بيهدّي الصريخ اللي جوا دماغي الليلة… أنا محتاج أبقى هنا عندك
ضغطت على يده، تردّ عليه بلطف:-
_ طيب نام. وأنا هافضل ماسكاك بين أيدي طول الوقت
أغمض "الجارحي" عينيه ولم يقاوم، لم يكن "الجارحي" القاسي، ولا الوحش الذي سحق "عمران" كان رجلًا مرهقًا… وجد صدرًا يشبه بيتًا حقيقيًا وتنفّسه بدأ يثقل، يبطؤ ويستريح مع محبوبته ... بعد دقائق، نام بعمق لم يعرفه منذ سنوات وهمست له وهي تضمّه أكثر
_ حتى الوحوش… بتتعلّم تهدا لما تلاقي حد يحبّهم
______________________________
كانت الحديقة الصغيرة خلف العمارة غارقة في هدوء ما بعد الغروب، والهواء البارد يمرّ خفيفًا فوق العشب الأخضر كأنه يربّت على الأرض ليُسكّن جرحًا خفيًا وجلست "ليل" هناك، حافية القدمين، قدماها تغوصان في برودة العشب كأنها تبحث لاوعيًا عن شيء يطفئ حرقة قلبها وحجابها البسيط مُلتف حول رأسها برقة، وخصلات هاربة تلامس وجنتيها كلما داعبها النسيم وفي يدها كتاب، وأصابعها الهزيلة تقلب الصفحات ببطء… تقليب بلا قراءة، بلا اهتمام كانت تتظاهر بالقراءة، أمّا عيناها فكانتا تحملان حزنًا عميقًا، ساكنًا، منطفئًا حزن يمكن رؤيته من بُعد دون أن تنطق حرفًا وهذا تحديدًا ما رآه ذلك الرجل المتحجر "يزيد" كان جالسًا مع حارس العمارة يرتشف كوب الشاي بينما "رجب" يثرثر بشكاوى زوجته "سنية"، لكن أذنَي "يزيد" كانتا مغلقتين تمامًا كل تركيزه كان متشبثًا بصورة تلك الفتاة ، تلك التي تجلس كأنها قمر منطفئ وسط خضرة الليل سكب بقايا الشاي بهدوء ووضع الكوب جانبًا، ثم نهض بخطوات ثابتةكان يقترب منها كأن شيئًا خارجيًا أقوى منه يدفعه نحوها ورآها كلوحة حزن حيّة بجسدها الهادئ، رأسها المنحني، كتابها الساكن فوق ركبتها، والهدوء، ذلك الهدوء الذي لم يكن يومًا قوة أو عنادًا، بل جرحًا يحاول أن يتنفس فاقترب بخطوات مترددة لأول مرة في حياته "يزيد" الذي لم يعرف التردد يومًا، الذي كان دائمًا الذراع القوي، المنفّذ الصارم لكل أوامر "الجارحى" توقف أمامها، وظله غطّى نصف جسدها، ثم خرجت نبرته الجافة أولًا
_ إنتي قاعدة هنا لوحدِك ليه؟ الجو بارد
رفعت رأسها ببطء وابتسامة نصف مرسومة، بلا حياة، انحنت على شفتيها وهي تجيب بنبرة واهنة:-
_ العشب ... ريحته بتهدي وأنا محتاجة أهدّى
كلمتها الأخيرة كسرت شيئًا داخله وحزنها وهدوءها… لم يكونا من العالم الذي يعرفه هو لم يعتد هذه الرقة، ولا هذا الضعف الصامت، تمنى لو يمكنه البوح بما حدث من قليل ، تمنى أن يطفئ نار جرحها المُلتهب بخبر أنتقام "الجارحي" لها ولزوجته من هذا الرجل، لقد دمر حياته حتى لا يجرأ على الأقتراب من فتاة أخرى ويكسر قلبها مثلها فعل بـ "ليل" ،فقال وهو يقف أمامها، ضخمًا، كأنه جدار يريد أن يحجب عنها العالم:-
_ مش لازم تقعدي هنا لوحدِك
أغلقت الكتاب برفق وحركت عينيها بعيدًا، إلى لاشيء وقالت:-
_في كل الأحوال محدش بيهتم لو كنت لوحدي
هذه الفتاة الحزينة يبدو وكأنها تحاول جاهدة أن تهزم هذا الرجل فشعر "يزيد" بشيء انكسر في صدره وانقبض قلبه بقوة مفاجئة، كأن نبرتها لمست مكانًا مُهملًا فيه، وشيء بداخله أخبره أن يربت على هذه الروح المنطفئة، جلس كأنه يقاوم رغبة الاقتراب منها أكثر، ثم مدّ لها كوب الشاي الذي أحضره من الحارس لتقول بهدوء، وعيناها تتجولان بين حروف الكتاب دون أن تراها:-
_ مبشربش الشاي
وضع الكوب على العشب بجانبها، ثم سأل بخفوتٍ لا يشبهه:-
_ مين زعّلك بالشكل ده؟ عمران؟ طيب سألتي نفسك واحد معتوه زى دا يستاهل الحالة اللى أنتِ فيها دى؟
تمنى مع لفظ أسم هذا الحقير أن يخبرها بأن هذه الليلة يحب عليها أن تنام بسعادة فاليوم قد أنتقم "الجارحي" لها وجعل هذا الحقير ينال جزاءه ، لكنه ابتلع كلماته بين حلقه واكتفى بالنظر إلي عينيها الحزينتين ، حبست نفسها لحظة مغمضة عينيها وخرج زفيرها بعناء ثم فتحت عينيها ببطء، والتقت نظراتهما من جديد وقالت بصوت خافت، مُثقل بانكسار وذكريات موجعة:
_ مش زعل… دا بقايا، بقايا حاجات كانت أكبر مني
هبت الرياح، وحرّكت طرف حجابها الفوضوي لتتحرك يده هو الأول بسرعة الرياح دون وعي منه فمدّ "يزيد" يده سريعًا ليمسك القماش قبل أن يسقط وبمجرد أن لامس طرف الحجاب شعر وكأن الزمن توقف اتسعت عينا "يزيد" بدهشة، وصوت عقله صاح بصمت
هل لمست حقًا يا يزيد؟
يده كانت ثابتة، لكن قلبه لأول مرة ارتبك ، بينما "ليل" نظرت إلى يده ثم إليه وكانت الشرارة هنا هادئة خفيفة مثل ندى الفجر على ورقة شجر ، شرارة لم تكن حبًا، ولا انجذابًا سريعًا؛ بل بداية..... بداية دفء بسيط يتسلل إلى قلب رجل تحجّر منذ زمن، وبداية أمان خافت يتسرب لروح فتاة انطفأت وكانت تحتاج فقط لمن يراها مرة واحدة بلا حكم، جلس أمامها وهو يشعر أن صمتها أثقل من أي كلام، وأن صوتها الناعم المنطفئ أقوى تأثيرًا من أي صراخ سمعه بحياته فهو الرجل القوي، الغليظ، المخيف
أما هي؟ فكانت الهدوء الوحيد القادر على كسر أقوى الرجال
عينيه تحملق بها بقوة لا يستطيع إزاحتهما بعيدًا عنها وكأنه عينيه تجمدت فى جفنيها على هذه الفتاة والمسافة الصغيرة التى تفصل بينهما كان نسيم الهواء كأنه تغير لشيء أخر ، شيء يحمل أمل الغد بين طياته،وفي تلك المسافة الصغيرة بينهما وُلد شيء لم يتحرك داخله منذ سنوات وولد داخل "ليل" لأول مرة فكرة إن أحدًا ربما رآها ولم يرَ ضعفها واحتياجها للحنان ودفء الأب الذي حُرمت منه طيلة حياتها ......
صرخة واحدة لكنها كفيلة بان تقظ المنزل بأكمله فى الصباح الباكر ، فزعت "قُدس" على صوت الصراخ وفتحت عينيها ذعرًا وكانت بين ذراعيه لتراه يفتح عينيه بفزع وهو يقول:-
_ في أى؟ دا صوت أمى ؟
أنتفضت من فراشه يركض بسرواله الأسود القطني وفنالته الحمالة السوداء للخارج ووضعت "قُدس" الروب على جسدها النحيلة بقلق يغمرها من قوة الصراخ والنواح القادم من الأسفل وركضت خلف زوجها للخارج بوجهه الناعس...
فتح "هادى" باب شقته المقابلة لشقة أخاه "فؤاد" ورأى "خديجة" تقف فى البهو أمام الشقة وتضرب صدرها بقوة وعينيها تبكي بقوة وحسرة وهى تخرج منادي بكلمة واحدة:-
_ يا ابني.... يا ضنايا ، هاتولى ابني ، أنا عايزة أبني
خرج "فؤاد" من الشقة متلهفٍ مُرتدي ملابسه فسأل "هادي" باللحظة التى صعدت بها "مديحة" مُتكئة على الدرابزين مع "وصيفة" و"أسيا" معهم "ليل" وقد أيقظ الصراخ الجميع فى البناية :-
_ حصل أى
نزل "الجارحي" وخلفه "قُدس" يقول:-
_ أى يا أمى فى أى؟
تشبثت بابنها بقوة وكأنها تستغيث به وقالت بذعر:-
_ هاتلى أخوك يا جارحي، انا عايزة ابنى، أبنى مماتش
أتسعت أعين الجميع من كلمتها الأخرى فسألت "مديحة" بتلعثم:-
_ عماد ماله
_ فى أى يا أخويا فهمني؟ ماله عماد؟
قالها "هادي" بذعر شديد وعينيه تحملق بأخاها الساكن فى أرضه أمام الجامع، تحدث "فؤاد" بهدوء وإيمان بقدر الله قائلًا:-
_ حد أتصل من المستشفى بيقول أن عماد عملت حادثة امبارح وموجود عندهم فى المشرحة
وقع الخبر على الجميع كالصاعقة الكهربائية فألتفت "خديجة" له ومسكت ملابسه بقوة تضرب صدره قائلة:-
_ لا ، لا ، أنا ابنى مماتش ، أنا حاسة به عايش، أنا .....
فقدت الوعي أمام الجميع من هول الصدمة فحملها "الجارحي" إلى الداخل بهدوء وتركها مع "مديحة" وبقية النساء ثم قال بصدمة ألجمته هو الأخر من موت أخاه:-
_ أنا هغير هدومي وأجي معاك يا حج
صعد للأعلى يبدل ملابسه وهكذا "هادى" بينما النساء حاولوا جاهدون إيقاظ "خديجة" التى أغمي عليها من هول الصدمة وعدم تصديقها للواقع المرير الذي وقع عليها، فى الأعلى خرجت "قُدس" من الغرفة مُرتدية فستان أسود طويل بأكمام شفاف ولم تصفف شعرها فقط بدلت روبها وملابس نومها الكاشفة ورأته يأخذ المال من الخزينة مُستعدًا للخروج فقالت بخوف:-
_ هتروحوا لوحدكم
_ أه وهبعت الدكتور يطمن على أمى وخلى يزيد يقف معاه وأنا هخلص الأجراءات وهكلمك، ومتجبيش أمى على الدفنة يا قُدس فاهمة
أومأت إليه بنعم ونزلوا للأسفل معًا لتركها بشقة والدته ويغادر مع والده وعمه وذهب معهم "فتحى" ، حالة من الحزن خيمت على قلوب الجميع وصوت القرآن ملأ أرجاء العمارة ووضع "رجب" سماعة كبيرة فى البهو تنشر صوت القرآن فى المكان ، بدلت جميع النساء ملابسهم للأسود ، وصل "يزيد" مع الطبيب ودق باب الشقة لتفتح له "قُدس" وقالت:-
_ أتفضل ، أول اوضة على اليمين يا يزيد
_ يا ستر
قالها "يزيد" وهو يدخل فى المقدمة وخلفه الطبيب وكانت "آسيا" جالسة مع "هدير" والحزن يملأ قلوبهم رغم حياته المليئة بالمشاكل والقذارة التى ملأت نفسه ، لكنه ما زال فرد من عائلتهم، جاءت "ليل" إلى "قُدس" وهمست فى أذنها:-
_ الله يرحمه مسبلناش حاجة حلوة نفتكره بيها ولا نترحم عليه بيها
أجابتها "قُدس" بنبرة خافتة حزينة:-
_ الله يرحمه، الناس هتترحم عليه عشان خاطر أمه وأبوه لكن لو عليه اللى زى دا معرفش يجوز عليه الرحم ولا لا ، الله يسامحه بقى ويغفره
أجابتها "هدير" التى سمعت الحديث بينهما قائلة:-
_ عيب يا ليل أنتِ وقُدس، ميصحش الكلام دا ، عماد دلوقت فى دار الحق
تحدثت "قُدس" بعناد أكبر وغضب يحتلها قائلة:-
_ عيب، ومحدش كان قاله عيب له وهو بيخوض فى شرفنا، محدش قاله عيب ليه وهو كل يوم خمر وستات وأومار، دا مسابش حاجة من الكبائر معملش يا هدير
_ وبعدين بقى
قالتها "آسيا" بحزم لتبتلع "قُدس" كلماتها بغيظ لكن لتنهى الجدال بينهما، راقب "يزيد" الموقف وهو ينتظر أمام باب الغرفة حتى ينتهى الطبيب فطلبت "قُدس" منه بجدية:-
_ خليه يديها مهدى ومنوم عشان ترتاح وقلبها مش هيستحمل أنها تروح الدفنة
أومأ إليها بنعم فى صمت شديد وبعد أن أطمن الطبيب عليها غادر المكان مع "يزيد" وذهب الجميع إلى الدفنة فيما عاد "قُدس" و"ليل" بقوا فى المنزل مع "خديجة" النائمة وحضر العاملين إلى المنزل مع يزيد ينصبوا العزاء من أجل الليل، عادت "ليان" من الخارج فى قمة سعادتها بعد أن تزوجت "جلال" رغم انف الجميع، وجدت المنزل فى حالة ريبة والشارع كان ساكنًا بشكل غير مألوف، كأن الحي بأكمله توقف ليشارك الحزن والبيوت المطلة على الساحة الرئيسية تزيّن نوافذها بالظلال الثقيلة، وألوان الغروب تتسلل بصمت بين الجدران واجتمع الأقارب والجيران، كل وجه يحمل الألم بشكل خاص به، كل نظرة تحكي الفقدان، لكن البعض الأخر جالسًا بهدوء لا يبالى بأى شيء فقد تقضيت الواجب للتعازى فقط، والأصوات مكتومة بينما همس الحزن يملأ المكان، وبين الحضور كانت الدموع تسيل بصمت، دون ضجيج، كأن كل نفس هو صرخة داخلية لا تجد مجالًا للهرب
النساء يجلسن على المقاعد، بعضهن يضعن أيديهن على صدورهن كـ "خديجة" و"أسيا" و" وصيفة" ، يحاولن كبح الانين، وأصوات الحداد الخافتة تتداخل مع همسات الدعاء والبعض يلتزم الصمت بهدوء حتى يمر الوقت فقط كـ "قُدس" و "ياسمين" و "ليل"
في زاوية الغرفة، وقفت "مديحة"، عينيها دامعتان، يداها مشبوكتان بقوة، كأنها تحاول الإمساك بالهواء المفقود، بحياة زوجها التي لم تعد موجودة والآن حياة حفيدها الأقرب إليها وتتذكر كم مرة كانت تتحد الجميع لأجله وتتدلله كما يريد، كان قلبها مجرد فجوة سوداء تمتص كل شيء من حولها، وحزنها كان كثيفًا بحيث كان يملأ الغرفة بأكملها
الأصدقاء والجيران جاءوا ليقدموا التعازي من أجل أمام الجامع المحبب إليهما "فؤاد" و"الجارحي" كبير المنطقة وحاكمها رغم صغر سنه، لكن كلمات التعزية بدت صغيرة أمام ثقل الصدمة فى قلب "فؤاد" الذي خسر ابنه بهذه الطريقة قبل أن يصلح حاله والآن يقف بأعماله السيئة أمام خالقه يعاقب فقط
في الخارج، الرياح كانت تعصف بخفة، تحمل معها أوراق الأشجار المتساقطة، فتتناثر بين أقدام الحاضرين، وكأنها دموع السماء نفسها وأصوات التنهّد، ورفرفة الحجاب، وصرخات الأطفال المكبوتة، كلها اختلطت لتخلق جوًا من الكآبة الصافية، وجوه الحزن كانت مكشوفة بلا أقنعة كان هناك شعور موحش بأن شيء لم يعد كما كان
سألت "ليان" بدهشة والدتها "ياسمين" :-
_ هو فى أى ، مين اللى مات؟
أجابتها "ياسمين" بنبرة خافتة:-
_ عماد
أندهشت "ليان" مما سمعته وجلست بجوار "قُدس" فى هدوء وقالت:-
_ مات أزاى؟
_ فى حادثة ، كان شارب ومسطول كعادته الله يجحمه
قالتها "قُدس" بهمس شديد ثم سألت بفضول شديد:-
_ أنتِ كنتِ فين كل دا ، مشوفتكيش الصبح لما سمعنا الخبر
تبسمت "ليان" بسعادة ثم قالت:-
_ خمني؟
نظرت "قُدس" لها بدهشة ثم نظرت حولها بأرتباك وقالت:-
_ أحم متضحكيش أوى كدة ليفكروا أنكِ فرحانة فيه ولا تكوني أنتِ اللى قاتلاه
ضحكت "ليان" أكثر على مداعبة أختها لتقف "قُدس" بحرج وجنون هذه الفتاة سيصيبها الجلطة قريبًا وأخذت أختها فى يدها إلى شقة "وصيفة" المقابلة وقالت:-
_ أنتِ هبلة يا ليان، حد يضحك فى عزاء
تنحنحت "ليان" بجدية وقالت وهى تلقي بحقيبتها على الأريكة وتجلس:-
_ وأنا مالي بعزاء ولا لا، أنا أصلًا معرفهوش منتظرين أنى أنهار عليه يعنى وألبس أسود
تأففت "قُدس" بهدوء ثم قالت بعفوية:-
_ أكيد لا، بس العزاء له احرتامه ، ما علينا كُنتِ فين؟ بابا سال عليكِ مرتين ثلاثة وقُولتله أنكِ كنتِ بايتة عندى، نمتي فين امبارح يا ليان
تبسمت "ليان" بسعادة تغمرها وهى تتذكر نومها بين ذراعي حبيبها وقالت:-
_ قُلتلك خمنى؟!!
_ أنجزي لأان صبري نفد منكِ ، كُنتِ عنده صح؟
قالتها "قُدس" بحزم شديد لتبتسم "ليان" بسعادة أكبر وقالت بعفوية وجراءة:-
_اه ، كنت فى حضنه، أنا اتجوزت جلال
أتسعت عيني "قُدس" على مصراعيها من هول الصدمة وعقلها لا يستوعب كيف فعلت "ليان" ذلك وتجوزت من وراء الجميع بدون والدها حتى، فتمتمت بتلعثم شديد وكلماتها لا تقوى على الخروج من حنجرتها :-
_ قُلتي أى؟ أتجوزتيه؟؟
_ اه
قالتها بشجاعة وجراءة لا تخشى شيء لتسمع الأثنتين صوت سقوط صينة وأكواب تُكسر فألتفتا ليُجد "ياسمين" تقف فى الصالة بجوارهما وقد سمعت الحوار فلم تبالى "ليان" كثيرًا بينما "قُدس" شعرت بالحزن والخيبة التى أصابت "ياسمين" فى الأبنة التى ربتها لسنواتها طويلة، أقتربت "ياسمين" كالمجنونة من ابنتها لتقف "قُدس" بالمنتصف تمنعها من الوصول لها وتقول:-
_ اهدئي
_ أتجوزتيه، من وراء أهلك يا ليان، دى أخرت تربيتي فيكِ ودلعي لكِ، تجوزي من ورايا
قالتها "ياسمين" بصراخ وعقلها لا يستوعب بجاحة ابنتها فقالت "قُدس" بخوف من والدها:-
_ وطي صوتك يا طنط ياسمين وان شاء الله هيبقى لها حلها
_ توطي صوتها ليه؟ جلال جه معايا برا وزمانه قال لبابا
قالتها بتبجح أكثر لتلتف "قُدس" إليها تاركة ذراعي "ياسمين" وتحملق بأختها الجريئة وقالت:-
_ أنتِ بتعملى كدة ليه؟ إحنا مبنكرهكيش، ولا بنقلل منكِ ، واللى بتعمليه مش شجاعة ولا قوة دى بجاحة وقلة أدب وقلة ربية، أنتِ مش واخدة بالك أنكِ واحدة مشوفتيش بربع جنيه رباية وعينك عايزة يدب فيها رصاصة ، أنتِ قليلة الأدب ومتربتيش
صفعتها "ليان" بقوة على وجهها من حديثها المهين إليها ، لكن لسوء حظها أن تلك الصفعة كانت قوتها أكثر من "قُدس" فأسقطتها أرضًا لترتطم رأسها بحافة الطاولة الزجاجية وسالت الدماء منها وبدأت رؤيتها تشوش تمامًا فجثت "ياسمين" على ركبتيها مذعورة بعد أن سالت الدماء منها وقالت:-
_ قُدس
فزعت "ليان" من هذا المشهد وأختها تحيط برأسها بركة من الدماء وأغمضت عينيها فاقدة للوعي لتصرخ "ياسمين" باسمها :-
_ قُدس.... قُدس.... ردي عليا
وقفت من مكانها لتركض للخارج مُسرعة وتنادى على "الجارحي" بذعز وعيني باكية تقول:-_
_ ألحقني يا فتحى ، جارحي ألحقني قُدس وقعت ومبتردش عليا ، الحقوني
ركض الجميع للداخل ليُصدم "الجارحي" من منظر زوجته فهرع إليها كالمجنون بخوف وحملها على ذراعيه وأنطلق إلى المستشفى وخلفه الجميع لتشعر "ليان" لأول مرة بالخوف فذهبت إلى حيث "جلال" وقالت بتوتر:-
_ مشيني من هنا؟
_ حصل أى؟
_ قُدس لو جرالها حاجة الجارحي هيقتلنى
قالتها بخوف وهى تتشبث بذراعيه ليفهم أنها من أوصلت أختها لهذه المرحلة فأخذها فى سيارته مع رجاله وذهبوا إلى حيث قصره، وقف الجميع أمام غرفة الطوارئ ينتظروا خروج الطبيب الذي جاء إليهما وقال:-
_ حمدالله على سلامتها
_ مراتي كويسة؟
قالها "الجارحى" بحزم فأجابه الطبيب ببسمة خافتة:-
_ الحمد لله خبطة بسيطة وخيطنا الجرح ثلاث غرز والجنين كمان بخير
أتسعت أعين الجميع وهكذا "الجارحي" الذي وقع على مسمعه هذا الخبر كأن أحد سكب على رأسه دلو من الماء البارد فسأل "هادى" بسعادة:-
_ هى حامل؟
_ اه بس لسه فى الأول هو ظهر فى تحليل الدم ممكن تتابع مع دكتورة نسا الفترة الجاية
أعطي التحليل والورق إلى "الجارحي" الذي أقترب من فراش صغيرته ورآها جالسة مُبتسمة لا تصدق أن عوضها جاء ورٌزقت بطفل منه من جديد لتقول بعفوية:-
_ أنا حامل يا جارحي
هز رأسه بنعم إلى طفلته الجميلة ووضع قبلة على رأسها بحنان فقالت:-
_ أنا هبقى أم يا بابا
نظر "هادى" إلى ابنته بسعادة وقال بلطف:-
_ أجمل أم يا حبيبة قلبي
سأل "الجارحي" بجدية قائلًا:-
_ أى اللى حصل؟
كادت "ياسمين" ان تتحدث فقاطعتها "قُدس" بجدية قائلة:-
_ مفيش اتكعبلت ورأسي أتخبطت فى الترابيزة
شعر "الجارحي" بالكذب فى نبرة زوجته وهذه الفتاة التى رباها على يديه وهو خير الناس معرفة بها لا تتقن الكذب أبدًا ، فألتزم الصمت الآن وهو بداخله يعرف أن هناك شيء أخر حدث وسيعرفه حتمًا........