الجو في الغرفة متوتر وصامت. كل العيون على الباب… ودقات القلوب مسموعة كأنها بتسبق خطوات القادمين. فجأة، انفتح الباب بقوة.
دخل أحمد بخطوات ثابتة، طويل القامة، أنيق رغم التعب من السفر. عيونه القلقة مسلّطة مباشرة على حلا.
وراءه فيروز، لابسة جاكيت غالي، شعرها مصفف بعناية حتى وسط الانفعال. وجهها كان خليط بين لهفة وقلق وغضب مكتوم.
حلا شهقت بصوت مكتوم، دموعها غرقت عينيها وهي تقوم من السرير بسرعة.
حلا (بصوت مبحوح): بابا… ماما…
قفزت في حضن أحمد، وفضلت تبكي على صدره. أحمد ضمها بقوة وكأنه بيحاول يحميها من الدنيا كلها.
أحمد (بصوت مهزوز لكنه جاد): حمد الله على السلامة يا روح قلبي… كنتي فين مني 3 سنين؟!
حلا (بتبكي): وحشتوني قوي… قوي يا بابا…
فيروز قريبة منهم، تحاول تمسك إيد بنتها، دموعها بتنزل رغم كبريائها:
فيروز: يا عمري… إنتي ضعّفتي كده ليه؟ ليه وشك باين تعبان؟ مين… مين عمل فيك كده؟
مهاب، زياد، و ريان واقفين متجمدين. عارفين إن اللحظة دي هتتفجر.
أحمد بعد ما بص لابنته، رفع عينه ناحية أولاده الثلاثة، وصوته بقى أكثر حدّة:
أحمد: أنا عايز أفهم… إيه اللي جاب أختكم المستشفى؟ مين هيقوللي؟
مهاب شد نفسه واقف مستقيم، عرقه بينقط، صوته متردد:
مهاب: بابا… الموضوع كبير شوية…
أحمد (يقاطعه بحدة): كبير شوية؟! يعني إيه كبير شوية؟! أنا سايبكم رجالة تحموا أختكم، ألاقيها قدامي مرمية على سرير مستشفى!
ريان حاول يتدخل:
ريان: بابا… لو تسمعنا، كل حاجة هتتوضح…
أحمد (بصوت أعلى): مش عايز لف ودوران! عايز كلمة واضحة. إيه اللي حصل؟
الغرفة كلها سكتت. حلا تمسكت بإيد باباها أكتر، وهي تبص لأخوتها بخوف.
فيروز، اللي لحد دلوقتي بتبص حوالين الغرفة مستغربة، لاحظت وجود ناس غرباء (غزل، ضحى، ندى، نادية، أدهم، مازن). رفعت حواجبها وقالت بصوت مستنكر:
فيروز: لحظة واحدة… مين كل الناس دول؟! أنا معرفش هنا غير إخوات حلا، وأختي ثريا، ويوسف… مين الباقي؟
ثريا بسرعة مسكت إيد أختها تحاول تهديها:
ثريا: هدي نفسك يا فيروز، دول أصحاب حلا… وأهل أصحابها… كانوا واقفين جنبها.
فيروز رفعت راسها بكبرياء:
فيروز: أصحابها؟! يعني البنت بدل ما تذاكر وتعيش وسط إخواتها، بقوا عندها ناس غرباء يلمّوا حواليها؟
أحمد رفع إيده يأشر لها توقف، وبص تاني على مهاب:
أحمد (بصرامة): مهاب… أنا سامعك. تقدر تقولّي اللي حصل ولا أبتدي أسأل واحدة واحدة؟
مهاب عض على شفايفه، باين إنه مش قادر ينطق. يوسف، اللي واقف جنبه، حط إيده على كتفه وقال بهدوء:
يوسف: خالي… أنا هقول لحضرتك اللي حصل… بس أرجوك قبل ما تسمع، اعرف إن اللي حصل كله كان خوف مش كره.
أحمد رفع عينه في يوسف بحدة، لكنه سكت يستنى.
يوسف (ينظر لأحمد): في صور… اتبعتت لمهاب… صور مفبركة ضد حلا. هو صدّقها… وغلط في رد فعله.
الغرفة كلها اتجمدت. أحمد رجع خطوة لورا، صوته بقى فيه غضب لا يوصف:
أحمد: صور؟! صور إيه؟!
فيروز شهقت بصدمة، حطت إيدها على قلبها:
فيروز: معقول؟! حد يلعب في سمعة بنتي؟!
حلا كانت بتبكي وهي تهز راسها:
حلا (بهمس): والله يا بابا… أنا ما عملتش حاجة.
أحمد مسك وشها بإيده، يبص لها في عينيها:
أحمد (بثقة): أنا عارف يا بنتي… أنا مصدقك.
الجملة دي كانت زي البلسم على قلب حلا، لكنها كانت زي السكين على قلب مهاب.
أحمد رجع يبص لأولاده، وصوته بقى جليدي:
أحمد: يعني صدقتوا صور على النت، وما صدقتوش أختكم اللي ربيتوها بين إيديكم؟!
مهاب بص في الأرض، عجزان يرد.
زياد قال بصوت متردد:
زياد: إحنا غلطنا يا بابا… بس… مهاب كان خايف عليها.
أحمد (بانفجار غضب): خايف عليها؟! يضربها ويكسرها ويوديها المستشفى؟! ده اسمه خوف؟!
الغرفة اتشحن جوها لدرجة إن الكل وقف مش قادر يتنفس.
ثريا حاولت تهدي:
ثريا: أحمد… معلش، كلهم كانوا مضغوطين… اللي حصل مش سهل.
فيروز قربت من حلا وحضنتها، وبصت لأولادها بعينين فيها نار:
فيروز: أنا مش مسامحة أي حد فيكم. بنتي دي جوهرة… وإنتو كنتوا المفروض تبقوا الدرع اللي يحميها.
أحمد رفع إيده بعلامة إنه مش هيطوّل الكلام:
أحمد (بحسم): أنا اللي هتصرف. من النهاردة… محدش يلمس شعره من بنتي. وأنا اللي هقف معاها في كل خطوة.
بص حواليه في الغرباء اللي في الغرفة:
أحمد (بحدة): واللي مالوش علاقة… ياريت يسيبنا دلوقتي.
الجملة دي وقعت زي الصاعقة على أدهم، اللي لسه ماسك إيد حلا بهدوء.
*********************
الكل اتلخبط… العيون راحت فورًا ناحية أدهم ومازن ونادية، وضحى وغزل، وحتى ندى اللي شبكت إيدها في إيد حلا.
أدهم شد نفسه ووقف بخطوة للأمام، صوته هادي لكنه حاسم:
أدهم: مع احترامي يا أستاذ أحمد… بس أنا—
قبل ما يكمل، نادية أمه لمسته على دراعه بسرعة، تبص له بنظرة حاسمة كأنها بتقول: مش وقته… سيبهم يا ابني.
أدهم اتنهد، كتم الكلام اللي كان عايز يقوله، ورجع خطوة لورا، يكتفي بنظرة ثابته لحلا اللي بصتلُه برجاء ودموع.
ندى كانت أول واحدة تكسر الصمت:
ندى (بحدة): آسفة جدًا… بس أنا مش ماشية. دي صاحبتي وأختي… وأنا معاها للنهاية.
فيروز رفعت حاجبها، تبص لها من فوق لتحت بسخرية مخملية:
فيروز: يا سلام! يعني حتى صحابها بيتكلموا كأنهم من العيلة؟
حلا (بتشد إيد ندى): ماما… ندى مش مجرد صاحبة… دي سندي.
فيروز عضّت شفايفها بكبت واضح، لكن سكتت لما شافت نظرة أحمد اللي بيقول لها: مش دلوقتي.
ضحى وغزل تبادلوا نظرات مرتبكة، وقاموا يقفوا كأنهم هيمشوا.
لكن زياد وقف فجأة وقال بسرعة:
زياد: لأ، استنوا.
(يبص لأبوه وأمه بجرأة لم يعتادوها منه)
زياد: بابا… ماما… دي مراتي، ضحى. ومش من حق أي حد يطلب منها تمشي.
ريان مشي خطوتين لقدام بدوره:
ريان: وأنا كمان… غزل مراتي. وجودها هنا مش غربة، دي نصي التاني.
الصمت وقع للحظة.
فيروز شهقت بصدمة، اتسعت عينيها كأنها اتطعنت:
فيروز (بصوت عالي، غاضب): إيه؟! اتجوزتوا؟! اتجوزتوا الشحاذتين دول؟!
ضحى وغزل اتجمّدوا مكانهم، دموع صامتة لمعت في عيونهم من الإهانة.
ريان وزياد شدوا نفسهم أكتر، كأنهم متوقعين الهجوم.
لكن قبل ما تفتح فيروز بقية غضبها، أحمد مد إيده ولمس دراعها بهدوء…
أحمد (بصوت منخفض لكنه حاسم، لا يسمعه غيرها): فيروز… بلاش. مش وقته دلوقتي.
فيروز بصت له بغضب، عينيها نار، لكن سكتت على مضض.
أحمد رجع يبص على ولاده، صوته ثابت:
أحمد: يبقى خلاص… هما جزء من العيلة. ومحدش ليه يمد إيده عليهم ولا يقلل منهم.
ضحى وغزل بصوا لبعض بذهول وامتنان، ودموعهم نزلت غصب عنهم.
حلا، اللي كانت متوترة من لحظة دخول والديها، بصتلهم الآن بعيون ممتلئة أمل.
حلا (بصوت خافت): يمكن… دي أول مرة من زمان أحس إننا عيلة بجد.
*********************
بعد لحظة صمت طويلة، الكل كان واقف متوتر… نظرات متقاطعة، أنفاس محبوسة.
حلا أخدت نفس عميق، بصت على الكل بعيون باكية لكنها هادية:
حلا (بابتسامة باهتة): كفاية بقى… بجد كفاية.
(تتلفت ناحية والديها)
ماما… بابا… أنا مسامحة إخواتي. مهما حصل… دول دمي. وأنا مش عايزة أعيش باقي حياتي وقلبي مليان كره أو عتاب.
فيروز (بصدمة): مسامحاهم؟! يا حلا، إزاي بعد اللي عملوه؟ بعد…
حلا (مقاطعة، بهدوء): عشان قلبي يرتاح يا ماما. عشان نقدر نبدأ من جديد.
(تبتسم ابتسامة صغيرة)
إحنا ضيعنا كتير… 3 سنين بعاد عنكم، وخلافات بينّا… مش كفاية؟
أحمد كان واقف مطرق، عينيه ترمش بسرعة كأنه بيكتم مشاعره.
مهاب حس دموعه بتغلبه، بص الأرض ومفيش كلمة طالعة منه.
زياد ضحك ضحكة متوترة وقال:
زياد: أهو أخيرًا في حد عاقل في العيلة.
ريان مد إيده وشبكها في إيد غزل وقال:
ريان: أنا مع حلا. اللي فات… خلاص يعدي.
ندى قربت من السرير وحطت إيدها على كتف حلا:
ندى: وأنا كمان. أهم حاجة سعادتك يا حبيبتي.
ثريا، أخت فيروز، قالت وهي مبتسمة بدموع:
ثريا: حلا عندها حق يا فيروز… الولاد كبروا، ولازم إحنا كمان نسيب الماضي ونفرح برجوعكم لبعض.
يوسف، ابن ثريا، ابتسم وقال بخفة دم:
يوسف: يعني نسيب الزعل… ونفكر في حفلة لمّة ترجعنا زي زمان!
الجو اتغير فجأة… من ثقل خانق إلى دفء خفيف.
حلا ضحكت بخجل، دموعها على خدودها لكنها مبسوطة:
حلا: أيوة يا يوسف… خلونا نحتفل بلمّتنا بدل ما نفضل نعاتب ونجرح.
أحمد أخيرًا رفع رأسه، بص في عيون أولاده واحد واحد… ثم على فيروز اللي لسه غضبانة لكنها ساكتة.
مد إيده وحطها على إيد حلا وهو بيقول:
أحمد (بصوت رخيم): حاضر يا بنتي… اللي تقوليه. من النهاردة نفتح صفحة جديدة.
الجميع ابتسموا رغم الدموع.
حتى مهاب، اللي كان ساكت طول الوقت، رفع راسه وبص لأخته بحب وقال:
مهاب (بصوت مبحوح): شكراً يا حلا… شكراً إنك أكبر من كلنا.
********************
أدهم كان ماشي قدام بخطوات سريعة، ملامحه متجهمة، إيده معقودة على بعض، وراها أمه نادية الطيبة، ومعهم مازن اللي واضح من ضحكته إنه مستني اللحظة دي.
جلس أدهم على الكرسي بخشونة، ماسك راسه بيده، أنفاسه سريعة.
أدهم (بعصبية): أنا ما قدرتش أتحمل يا أمي! يعني إيه يقول "اطلعوا برّه"؟! وأنا؟! أنا اللي… اللي حبيتها… اللي شايف حياتي كلها معاها… أطلع غريب فجأة؟
نادية جلست جنبه بهدوء، صوتها ناعم:
نادية: حبيبي… أنا فاهمة غضبك. بس لازم تفهم برضه إنهم أهلها.
(تبتسم بلطف)
إنت عايز تقتحم حياتهم في أول ساعة رجعوا فيها بعد 3 سنين غياب؟ وهما لسه حتى ما استوعبوش شافوا بنتهم؟
أدهم (مقاطع، بحدة): بس أنا جيت وطلبتها من مهاب! وأخوها وافق.
نادية (تهز راسها): آه يا ابني… بس في فرق كبير بين إنك تاخد موافقة أخوها، وإنك تواجه أمها وأبوها اللي لسه نازلين من طيارة، تعبانين من سفر 5 ساعات، ومصدومين من اللي حصل لبنتهم.
(تمد إيدها على كتفه)
لو دخلت عليهم كده دلوقتي وقلت "أنا عايز بنتكم"، هيفتكروا إنك بتخطف اللحظة منهم… مش بتشاركهم فيها.
أدهم عضّ شفايفه بقوة، عينيه زائغة كأنه لأول مرة بيشوف نفسه من برّه.
سكت ثواني، وبعدين قال بصوت أخفض:
أدهم: إنتِ صح… أنا كنت متهوّر.
مازن انفجر ضاحكًا، مسند نفسه على الجدار:
مازن (ساخرًا): يااااه! أدهم الراوي… المخرج الكبير اللي بيقول "المرأة مجرد مشهد إضافي في فيلم حياتي"، طلع أول واحد يتعفر في حب بنت!
أدهم رفع عينه له، نظرة قاتلة، لكن مازن كمل يضحك بمكر:
مازن: أهو، السيناريست العاطفي اللي جواك أخيرًا طلع للنور. من كره النساء… لدرجة الخطبة المستعجلة!
نادية ضحكت بخفة، وهي تهز راسها:
نادية: كفاية عليك يا مازن.
(ثم تنظر لأدهم بجدية وحنان)
الحب مش ضعف يا أدهم… الحب قوة. بس لازم يكون في وقته الصح. وأظن… وقتك لسه جاي.
أدهم تنهد طويل، مسند ضهره للكرسي… لأول مرة ملامحه مش باردة ولا متعجرفة، لكن مرتبكة وصادقة.
أدهم (بصوت خافت): يمكن… يمكن أول مرة في حياتي أحس إني عايز أسيب الكاميرا… وأبقى أنا البطل.
********************
في فيلا عائلة النجار – المساء
الفيلا كلها مضيئة، القاعة الواسعة ممتلئة بأصوات الضحك وأطباق العشاء. جوّ احتفالي بكل معنى الكلمة.
حلا كانت جالسة بجانب والدتها فيروز اللي ماسكاها كأنها طفلة صغيرة، تحط اللقمة بنفسها في فمها.
فيروز (بعاطفة): يا روحي… يا بنتي الغالية… 3 سنين بعيدة عن حضني. والله قلبي كان بيصرخ كل يوم.
(تنظر حولها بتحدي)
وما يهمنيش مين يقول إني متعجرفة… أنا مش عايزة غيرك يا حلا بخير.
حلا (تضحك بخجل): ماما! كفاية… أنا كبيرة دلوقتي.
فيروز (بصوت عالٍ لكنها ضاحكة): كبيرة في عينك إنتي! لكن عندي… لسه الصغيرة اللي كانت تنام في حضني.
الجميع ضحك بخفة، حتى مهاب اللي كان قليل الضحك ابتسم.
أحمد جلس في صدر الطاولة، عينيه مليانة فخر:
أحمد: أنا مش مصدّق إني رجعت ألاقي كل دا.
(ينظر إلى أولاده الثلاثة واحدًا واحدًا)
أنا فخور بيكم. بس خليني أقول… مهاب… إنت فاجأتني.
مهاب (متفاجئ): أنا؟
أحمد (مبتسم): آه. من يوم ما سبت البلد، وأنا قلقان. لكن إنت مسكت الشركات… وكبرت اسم العيلة أكتر من زمان. أنا كنت متابع، وكل مرة أشوف إنجاز جديد… أقول "دا ابني".
زياد (مازحًا): ياااه يا بابا، إحنا إيه؟ تلامذة؟
ريان (ضاحكًا): أيوة، دايما مهاب الأول على الفصل وإحنا واقفين برا.
ضحك الكل، حتى ثريا اللي علقت:
ثريا: المهم إنكم دلوقتي مع بعض. المال بيروح وييجي، لكن العيلة… هي اللي بتفضل.
يوسف، ابنها، رفع كأس العصير وهو يقول بخفة دم:
يوسف: نخب العودة… واللمة دي اللي بجد تستاهل فيلم سينما.
ضحكوا كلهم، حتى فيروز اللي عادةً بتنتقد كلام يوسف، رفعت كفها مع كاس العصير.
فيروز: نخب العيلة… ونخب رجوعي لأبنائي.
حلا نظرت لوالدتها بحب ودموع فرحة في عينيها، وهي تميل على كتفها وتهمس:
حلا: وحشتيني يا ماما…
فيروز (تقبل جبينها): وإنتي موتيني يا بنتي.
الليلة استمرت بالحديث عن العمل، عن السفر، عن أحلام يوسف في أمريكا، وعن مغامرات زياد وتميم، وضحكات غزل وضحى.
الكل كان سعيد… لأول مرة من زمان.
*******************
بعد الضحك وتبادل النخب، التفت أحمد نحو يوسف، بنظرة فاحصة، كأن عينيه بترجع للماضي وهو بيتذكر والده الراحل.
أحمد (بابتسامة عميقة): يوسف… تعالى هنا يا بني. خليني أشوفك كويس.
(ينظر له من أعلى لأسفل)
كبرت… وبقيت راجل يعتمد عليه. كان زماني دلوقتي بقول لصديق عمري: "شوف ابنك يا عمر… عمل اللي بيتمناه أي أب".
سادت لحظة صمت قصيرة، ثريا مسحت دموعها بخفة، وفيروز وضعت يدها على يد شقيقتها بحنان.
يوسف (بابتسامة ممتنة): دا كله بفضلك يا عمي أحمد. إنت اللي وقفت جنبي بعد بابا… إنت اللي أمنت مستقبلي.
أحمد (بهدوء وفخر): أنا عملت أقل من الواجب يا يوسف. أبوك الله يرحمه كان أخي قبل ما يكون صديقي. وإنت بالنسبة لي زي أولادي بالظبط.
مهاب وزياد وريان تبادلوا النظرات، موافقين على كلام أبيهم.
أحمد (مستطردًا): قوللي يا يوسف… أخبار شركتك في أمريكا إيه؟ كنت متابع نجاحك هناك، فاجأتني.
يوسف (يهز رأسه بابتسامة مترددة): الشركة كانت بخير الحمد لله. كبرت بسرعة، وعملت اسم كويس في السوق.
(ينظر إلى والدته ثريا ثم يكمل بثقة)
لكن… قررت أصفي أعمالي هناك وأرجع مصر.
فيروز (بدهشة): تصفي أعمالك؟ ليه يا يوسف؟
يوسف (بحزم هادئ): كفاية غربة يا خالتي. تعبت.
أنا وأمي تعبنا… البُعد مش سهل.
عايز أعيش في بلدي، أبدأ من جديد هنا. وأظن مصر تستحق مجهودي وخبرتي.
أحمد (مبتسم بفخر): الله! دا كلام يفرح القلب يا يوسف.
(يضرب على كتفه)
مصر محتاجة شباب زيك… وشطارتك دي هنستفيد منها هنا.
ثريا (بفخر ودمعة في عينها): قلت له كده يا أحمد… قلت له إن الغربة مهما كبرت، مش هتدي للإنسان اللي بتديه له أرضه.
حلا (بحماس): يوسف، يعني هتستقر هنا خلاص؟
يوسف (ضاحكًا): أيوة يا قمر. جه وقت الاستقرار… وجه وقت يكون ليا جذور هنا، مش هناك.
ضحك الجميع، وعلّق ريان بخفة:
ريان: يعني عندنا دلوقتي منافس جديد في السوق.
يوسف (بمرح): منافس شريف يا ريان… وأهو خلينا نشوف مين فينا هيكسب أكتر.
الجميع ضحك، والأجواء ازدادت دفئًا… وكأن الفيلا أخيرًا استردت قلبها النابض بعد سنين من الغياب والغربة.
********************
بعدما ساد الضحك والحديث عن يوسف، سكتت فيروز فجأة وهي ترفع حاجبيها بتعجرف، ناظرة نحو ضحى وغزل اللتين كانتا صامتتين طوال الوقت، تجلسان في نهاية الطاولة بخجل.
فيروز (ببرود قاسٍ): وهُم دول بقى؟
(تنظر إلى زياد وريان بحدة)
يعني دي النهاية؟ دي اختياراتكم؟
الجميع التفت إليها في توتر.
ضحى خفضت عينيها إلى الأرض، وغزل تشبثت بيد ريان تحت الطاولة، صامتتين.
زياد (بهدوء لكن بصرامة): ماما… دي ضحى مراتي. وأي كلمة تمسها، بتمسني أنا الأول.
ريان (ممسكًا بيد غزل): وغزل برضه… مراتي، وشريكتي. مفيش حد ييجي عليها، حتى لو كان إنتِ يا ماما.
فيروز شهقت بدهشة، تكاد تنفجر بكبريائها:
فيروز: إيه دا؟ بتوقفوا في وشي عشان… عشان…!
لكن أحمد قاطعها بنظرة حادة وصوت منخفض لكنه حاسم:
أحمد: فيروز… كفاية.
(يميل ناحيتها بصوت يكاد يُسمع)
إحنا جايين نفرح ونلمّ الشمل… مش نكسر الناس اللي حوالينا.
فيروز ضغطت على أسنانها، لكن عينيها ظلّتا مليئتين بالرفض.
حلا (بصوت مليء بالعاطفة): ماما… لا تنسي مين وقف معايا يوم الكل ظلمني.
(تلتفت نحو ضحى وغزل بابتسامة)
لو مش هما… يمكن ما كنتش هنا دلوقتي قدامكم.
الجميع سكت للحظة، عيونهم تترقب رد فعل فيروز.
أحمد مال بكرسيه للأمام وقال بحزم أبوي:
أحمد: ضحى وغزل بقوا جزء من العيلة. بالنسبة لي… زي بناتي. وأنا ممتن ليهم على اللي عملوه مع حلا.
فيروز تنفست بعمق، وابتسمت ابتسامة مصطنعة، ثم قالت ببرود وهي ترفع كأسها:
فيروز: تمام… اللي يرضيكم.
لكن من عينيها كان واضح إنها استسلمت على مضض، وكأنها بتقول: "أنا ساكتة دلوقتي… بس مش للأبد."
ضحى وغزل تبادلتا النظرات بخجل، ثم نظرتا لحلا التي ابتسمت لهما مطمئنة، لتشعران أخيرًا أن هناك من يحميهما.
******************
هدأت الأجواء قليلًا بعد توتر فيروز مع ضحى وغزل. جلست ثريا بالقرب من الزوجتين، تبتسم بحنان دافئ يختلف تمامًا عن أسلوب شقيقتها المتعجرفة.
ثريا (بصوت رقيق): ضحى… غزل… ما تخلوش كلام الناس أو النظرات تغيّركم.
(تلمس يد كل واحدة منهما)
أنا شُفت في عينيكم محبة حقيقية لحلا… والمحبة دي مش سهلة. عيلة زي دي محتاجة قلوبكم الكبيرة.
ضحى (بخجل): شكراً يا طنط… إحنا عملنا اللي لازم يتعمل. حلا زي أختنا.
غزل (بصوت منخفض): بالضبط… هي غالية علينا زي ما هي غالية عليكم.
ابتسمت حلا بعاطفة وهي تحدّق فيهن:
حلا: وأنا عمري ما هنسى وقفتكم معايا.
تأمل أحمد الموقف للحظة، لكنه بدا شاردًا، كأنه يتذكر شيئًا. فجأة نظر إلى مهاب باستفهام:
أحمد: مهاب… الشاب الوسيم اللي شُفته في المستشفى… كان مع أخوه الصغير وأمه. مين دول؟
ارتبك مهاب قليلًا، ثم رد بجدية:
مهاب: ده أدهم يا بابا… مخرج أفلام معروف. هو اللي اتفق مع حلا إنه يحوّل رواياتها لأفلام.
أحمد (بفضول وقد رفع حاجبه): أها… مخرج أفلام.
(يلتفت لحلا بابتسامة صغيرة، يراقب حمرة وجهها)
واضح إن الموضوع مش بس "اتفاق شغل"، صح يا حلا؟
احمرّ وجه حلا خجلًا، وانخفضت عيناها إلى الأرض. ابتسم أحمد لنفسه، وكأنه فهم كل شيء من نظرتها فقط.
فيروز (بتوتر): يعني إيه؟ مين الشاب ده؟ إحنا ما نعرفوش.
مهاب (بهدوء): هو شاب محترم… جيه ليا قبل ما تيجوا النهاردة، وطلب إيد حلا مني.
ساد الصمت في الغرفة. فيروز شهقت، بينما أحمد اتسعت عيناه بدهشة.
فيروز (بعصبية): طلب إيدها منك؟! إنت بتهزر؟! حلا لسه صغيرة على الكلام ده!
أحمد (يفكر بعمق، صوته منخفض): لحظة يا فيروز…
(ينظر إلى مهاب)
وإنت قلتله إيه؟
مهاب (بثبات): وافقت… لأن حلا موافقة. لكن الاتفاق إنه خطوبة بس، لحد ما تكمل دراستها وتبقى جاهزة.
فيروز (بغضب مكتوم): خطوبة إيه وبتاع إيه! البنت دي لسه محتاجة تعيش طفولتها!
حلا (بخجل، تكاد تختفي بصوتها): ماما… بابا… أنا… أنا موافقة.
التفتت العيون نحوها في صدمة، حتى فيروز لم تستطع الكلام لثوانٍ.
أما أحمد فابتسم بخفة، كأنه يحاول أن يلتقط كل خجلها وصدقها في تلك اللحظة.
أحمد (بحنان، موجّهًا كلامه لحلا): إنتِ موافقة بجد يا حلا؟ ولا بتحاولي ترضي إخواتك بس؟
حلا (تخفض عينيها): القرار في الآخر ليك يا بابا… أنا بثق فيك.
هنا شعر أحمد بعمق المسؤولية، وعاد للحظة الزمن اللي وعد فيه نفسه إنه يربي أبناءه على الأمان والصدق. نظر إلى مهاب بعزم:
أحمد: مهاب… بلّغ أدهم إننا في انتظار هو وعيلته ييجوا يتقدموا رسمي.
تجمدت ملامح فيروز، حاولت الاعتراض لكن نظرة أحمد الصارمة أوقفتها.
فيروز (تتمتم بضيق): زي ما تحب…
ابتسمت ثريا وهي تربت على كتف أختها قائلة:
ثريا (بهدوء): مرات… الأولاد كبروا… وحلا كبرت. مش كل حاجة نقدر نتحكم فيها.
يوسف أضاف وهو ينظر إلى خاله أحمد بإعجاب:
يوسف: قرار حكيم يا عمي… أدهم شكله راجل يعتمد عليه.
في تلك اللحظة، شعر الجميع أن الليلة لم تكن مجرد "لمّة عيلة"… بل بداية فصل جديد في حياة حلا، العائلة كلها، وحتى أدهم الذي لم يكن حاضرًا، لكن اسمه صار مركز الدائرة.
*******************
فيلا عائلة الراوي – في المساء
جلسوا جميعًا في الصالون الواسع، طاولة القهوة ممتلئة بالعصائر والحلويات. بدا أن نادية عادت من المشفى مرهقة لكنها مطمئنة.
فارس (بهدوء وهو يراقبها): اتأخرتوا النهاردة… حصل إيه؟
نادية (بابتسامة مطمئنة): ما تقلقش يا فارس. بنت صغيرة من عيلة النجار كانت في المستشفى، وابني أدهم…
(تنظر لابنها بنظرة دافئة)
…عمل حركة جريئة كعادته.
رفع فارس حاجبه وهو ينظر إلى أدهم:
فارس: جريئة؟ يعني إيه؟
تنحنح أدهم قليلًا، وكأن الموضوع أكبر من قدرته على صياغته ببساطة، ثم قال بجدية:
أدهم: بابا… أنا طلبت إيد بنتهم.
شهق مازن بصوت مسرحي ساخر:
مازن: أيوه يا جماعة! الراجل اللي كان بيقول "أنا مش فاضي للستات" و"الحب كلام فارغ"… وقع! 😂
ضربه أدهم بنظرة حادة جعلته يتراجع وهو يضحك.
فارس (بتأمل): طلبت إيدها من مين؟
أدهم: من أخوها الكبير… ووافق.
ساد الصمت لثوانٍ. فارس أدار رأسه نحو نادية، وكأنه يبحث عن تأكيد.
نادية (بهدوء): ده صحيح. الولد اسمه مهاب، شكله راجل عاقل… وافق.
فارس (بصوت عميق): بس يا أدهم… إنت عارف إن الكلمة الأولى والأخيرة مش عنده. القرار عند والدها.
خفض أدهم عينيه، صوته صار أكثر رزانة من المعتاد:
أدهم: عارف… بس كان لازم أبدأ من مكان ما.
في تلك اللحظة، تحركت لوسيندا في مقعدها، كان في وجهها خليط من الانزعاج والحزن الخفيف، لكنها حاولت أن تبدو طبيعية:
لوسيندا (بصوت خافت): يعني… بتحبها للدرجة دي؟
نظر إليها أدهم بهدوء، لم يحاول أن يخفي شيئًا:
أدهم: أيوه يا لوسي… دي مختلفة.
ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها، لكنها أخفتها سريعًا، متذكرةً خطيبها كريم الذي بدأ يغيّرها فعلًا.
شريف (بفرحة عارمة وهو يصفق بيده على ركبة أدهم): يا سلام! أخيرًا! ابن أخويا لقى البنت اللي تحرّك قلبه. كنت فاكر إنك هتعيش حياتك كلها متجمد!
مازن (ضاحكًا بخبث): أيوه يا عمو… اتجمد إيه بس؟ ده كان تلج قطبي! دلوقتي بدأ يدوب.
ضحك الجميع، حتى فارس نفسه ابتسم رغم وقاره. ثم عاد ليقول بحزم:
فارس: اسمع يا أدهم… ما تعلّقش قلبك قوي قبل ما تسمع كلمة والدها. ممكن يرفض، وممكن يوافق. وإنت لازم تكون مستعد للحالتين.
أدهم (بهدوء وصدق): فاهم يا بابا… بس المرة دي… مش هتنازل بسهولة.
أخذت نادية نفسًا عميقًا، ثم ابتسمت بحنان وفخر، كأنها لم ترَ ابنها بهذا الوضوح من قبل.
نادية: هو ده ابني اللي كنت مستنياه…
أما لوسيندا فبقيت صامتة، تفكر بين نفسها… “يمكن فعلاً كل واحد له نصيبه… وأنا لقيت نصيبي مع كريم، حتى لو مش أدهم."
******************
في أحد الأحياء المظلمة – شارع الليل
الأضواء النيون المتقطعة تنعكس على الأرصفة المبتلة، الموسيقى الصاخبة تتسلل من الحانات القريبة، والرجال يتسكعون يبحثون عن متعة عابرة.
كانت سيرين تسير بخطوات سريعة، عيناها تلمعان بالجنون والشر، وجهها الجميل يبدو وكأنه قناع يخفي وراءه روحًا سوداء.
اقتربت مجموعة من النساء بملابس فاضحة، إحداهن وضعت يدها على خاصرتها وقالت بصوت ساخر:
الست الأولى: واقفة ليه هنا يا قمر؟ إيه… جايّة تسرقي شغلنا؟
سيرين (بهدوء قاتل، نظرتها باردة): أنا ما ليش دعوة بيكم… ابعدوا عن طريقي.
الست الثانية (تضحك بخبث): إيه ده؟ شكلها غالية علينا. جاية منين بالبراءة دي؟
(تقترب أكثر منها وتقول بتهديد)
إحنا ما بنسيبش حد ياخد زبون من غير إذن.
وقفت سيرين بثبات، وابتسمت ابتسامة جعلت الدم يتجمد في العروق.
سيرين: أنتم فاكرينني زيّكم؟… أنا مختلفة.
الست الثالثة (بتحدٍ): مختلفة إزاي يعني؟ في الآخر إنتِ بنت حلوة ماشية هنا بالليل… يبقى إيه غير كده؟
اقتربت سيرين ببطء، حتى أصبحت وجهاً لوجه مع المرأة الثالثة، ثم همست ببرود:
سيرين: مختلفة… لأني لو حد لمسني، ممكن أقطع رقبته.
سكتت النساء فجأة، وارتبكن للحظة. نظرة سيرين لم تكن نظرة فتاة خائفة أو ضائعة، بل نظرة وحش معتاد على الدم.
الست الأولى (بتراجع): إيه الجنون ده؟ إنتِ مين بالظبط؟
ابتسمت سيرين بخبث، وأدارت وجهها كأنها تتذكر الماضي:
سيرين (بصوت متقطع بين الغضب والجنون): أنا اللي خلّصت من أمي بيدي… واللي خلّصت من صاحبة عمري قبل ما تبيعني. واللي جاية تدور على "واحدة" لازم تدفع التمن…
اتسعت عيون النساء بالرعب، تبادلن نظرات صامتة ثم تراجعن ببطء.
لكن واحدة منهن تجرأت وقالت:
الست الثانية: يا مجنونة! إنتِ قاتلة!
انفجرت سيرين بضحكة هستيرية قصيرة:
سيرين: وأفتخر…
صمتت فجأة، وعيناها اشتعلتا:
سيرين (بهمس مخيف): اسمها "حلا". لسه عايشة… ولسه مش حاسة إن نهايتها قربت.
ارتجفت النساء، بعضهن أسرعن بالابتعاد، وأخرى تمتمت:
المرأة الثالثة: ربنا يستر من دي… شكلها شيطان في صورة بشر.
أما سيرين فابتسمت ببرود، وأكملت طريقها بخطوات ثابتة، كأنها ذئب يتعقب فريسته.
