
مزيجٍ من المشاعر التي شعر بها زكريا؛ الخوف والتوتر وعدم استطاعته على حُسن التدبير في ذلك الموقف، وكأن يداه مُكبلتان بالأصفاد، انتبه على صوت وليد الذي يحثه على أخذ قرارٍ:
_ إيه يابني هتعمل إيه؟
التفت إليه بتِيهٍ ثم عاود النظر إلى ليلى التي تنحني بظهرها إلى الأمام تتكأ على بطنها بألمٍ شديد يُراودها، وحينذاك استعاد رشده وهتف بلهفة:
_ هنطلع على المستشفى، اللي صبا بتشتغل فيها..
أماء وليد وأسرع عائدًا إلى السيارة مُستقلًا مِقعده خلف المقود، بينما ساعد زكريا ليلى على الوصول إلى السيارة والركوب في الخلف، ثم جاورها محاولًا بث الطمأنينة فيها وهو فاقد لها.
بعد فترة؛ وصلوا إلى المستشفى، ترجل زكريا ونادى مُطالبًا المساعدة، فجئن في الحال ممرضتان بكرسي متحرك وقاموا بوضعها أعلاه متجهين بها إلى الطوارئ، بينما وقف زكريا رفقة وليد في الخارج يجوب الممر المقابل للغرفة ذهابًا وجيئا بهلعٍ.
اقترب منه وليد وسأله باهتمامٍ:
_ هو دا ممكن يكون إيه؟ إيه سبب النزيف اللي حصل دا؟
توقف زكريا عن السير وأجابه وهو ينظر داخل عينيه بصوتٍ مهزوز:
_ ليلى حامل، كنا ناوين نفاجئكم لما نرجع، بس شكلنا مش هنلحق!
_ بس يا أخي متقولش كدا، كل منطوق واقع قدره، قول إن شاء الله تخرج بالسلامة هي والجنين وربنا هيراضيكم بإذن الله..
هتفها وليد بنُصحٍ، فدعا الآخر بِصدقٍ:
_ يارب يا وليد، لو حصل حاجة هيبقى عقاب من ربنا عشان اتبطرت على النعمة قبل كدا...
بآسى وشفقة شديدين ربتَّ وليد على كتف زكريا مُآزرًا إياه:
_ إن شاء الله يا صاحبي ربنا هيطمنك، اتفائل خير أنت بس!
أخذ زكريا يهُز رأسه وتابع سيره في المكان بغير صبرٍ لمرور تلك الثواني حتى يعلم وضع ليلى، بعد مرور بِضع دقائق أخرى، خرجت الطبيبة فتوجه زكريا نحوها على الفور بينما وقف وليد على بُعد مسافةٍ يخشى سماع ما يخافه زكريا.
_ طمنيني يا دكتورة، ليلى كويسة؟ والجنين أخباره إيه؟ تساءل بتهلفٍ، وبإبتسامةٍ عملية أخبرته حقيقة الوضع:
_ متقلقش، هما الإتنين كويسين، بس الحمل في بدايته خالص وهي بلغتني إنكم كنتوا مسافرين ساعات طويلة ودا طبيعي يحصل من حركة الطريق، بس المدام محتاجة راحة تامة الشهور الأولى لأن الحمل ضعيف ومش مستقر، أنا كتبت لها على مثبت وبعض الفيتامينات ضروري تاخدهم عشان الوضع يستقر..
لم يشعر زكريا بشفتاه اللتان ابتسمتا في وجه الطبيبة بسعادةٍ أدركتها هي، وبامتنانٍ واضح شكرها:
_ شكرًا يا دكتورة، إن شاء الله مش هتقوم من على السرير لغاية ما تولد..
ضحكت الطبيبة ثم استأذنت منه وغادرت، بينما تفقد زكريا وليد قبل دلوفه الغرفة فابتسم له الآخر ورمش بأهدابه بمعنى أن كل شيءٍ بخير، فولج زكريا إلى ليلى، وجدها تُعدل من هندمة ملابسها بمساعدة الممرضة.
فانضم إليهن وقال:
_ جت بسيطة يا لولا..
ابتسمت ليلى بطمأنينة سكنت قلبها وانعكست على تعابيرها ونبرة صوتها الحيوية:
_ الحمدلله.. ربنا كريم
بينما وجه زكريا كلامه إلى الممرضة عندما وقعت عيناه على الكُرسي المتحرك:
_ لو سمحتي ممكن نستخدم الكرسي دا لغاية برا بس..
تفقدت الممرضة الكرسي ثم قالت:
_ آه طبعًا مفيش مشكلة..
فتدخلت ليلى مُعلقة:
_ أنا كويسة يا زكريا، ملوش لزوم الكرسي دا..
بإصرارٍ في عينيه وصوته أردف:
_ لا معلش الدكتورة قالت راحة تامة، مش هتقومي من على السرير خالص طول ال ٣شهور الأولى ومش عايز منك غير حاضر وبس، تمام؟!
ابتسمت الممرضة على لطافة زكريا ثم عقّبت بسؤالها المُوجه لـ ليلى:
_ دا أول حمل؟
أكدت ليلى بإيماءة من رأسها فضحكت بِخبثٍ وقالت:
_ هما بيبقو كدا في الأول، في الحمل التاني بقى لو نمتي خمس دقايق بس ترتاحي هيُقِيم عليكي الحد، أما بقى لو الحمل التالت، من وأنتِ لسه بتخرفي في البنج هيقولك فوقي يلا بسرعة عشان تعمليلي حاجة آكلها أصل جعان
جحظت عيني ليلى وهتفت دون تصديقٍ موجهة حديثها إلى زكريا:
_ أنت هتعمل كدا؟
_ لا لا مفيش الكلام دا هسيبك بعد ما تفوقي ...
هتفها زكريا مُمازحها، فقهقهن الأخريات ثم غادرا الغرفة بعد أن أصر على إخراجها بالكرسي حتى لا تشعر بالتعب أثناء سيرها.
اعتدل وليد في وقفته وشكل بسمةٍ هادئة على محياه وقال:
_ مبروك يا ليلى، ربنا يتمم لك بخير يارب
_ الله يبارك فيك يا وليد، شكرًا
قالتها بإمتنانٍ يشوبه الخجل لوضعها، بينما أشار وليد بعينه على ذلك الكرسي مُستسفرًا بسؤاله عنه:
_ لازمته إيه الكرسي، مش أنتِ كويسة الحمدلله؟
تشدقت ليلى بتهكمٍ وهي تخبره:
_ أسأل إبن عمك، مُصمم يخرجني بيه..
ضحك وليد وعلّق ساخرًا:
_ حنيته دي مش متعودين عليها، لدرجة تقلق، عندك حق
_ من اعتاد القلق ظن الطمأنينة فخًا
قالتها ليلى وضحكت عاليًا فشاركها وليد الضحك، بينما تدخل زكريا متزمجرًا:
_ هو أنا أبقى وحش مش عاجب، حلو مش عاجب، استغفر الله العظيم، هتخرجوا الواحد عن شعوره..
إزداد ضحكهم، وأثناء دفع زكريا للكرسي هتف وليد وهو يسير بجواره:
_ بس أمانة لو طلع ولد سميه وليد
_ هي ناقصة قرف يابني، كفاية مستحملينك بالعافية!!
هتفها زكريا بحنقٍ مصطنع، بينما فغر الآخر فاهه بصدمةٍ وهلل مستاءً:
_ تصدق إنك لولا خال عيالي كان ليا كلام تاني معاك
_ إتلهي
هتفها زكريا فالتزم وليد الصمت حتى وصلوا إلى الخارج وركبوا السيارة، بينما أشعل وليد المُحرك ثم دعس على البنزين فانطلقت السيارة بسرعةٍ عائدًا إلى منطقتهم.
وعِند وصولهم؛ استقبلتهما العائلة بحفاوةٍ، وبعد انتهاء الترحيب الوِدي، وقف زكريا وتعمد جذب ليلى إلى صدره ثم هتف بحماسة شديدة:
_ ليلى حامل!!
تفاجئت القلوب وابتهجت، وتحدثت العيون قبل اللسان، وعندما استوعبت عقولهم الخبر ارتفع صخب المباركات لـ ليلى وزكريا، حتى دمعت عيونهم تأثرٍ.
ومن بينهم احتضنت هناء ليلى بسعادةٍ وهتفت:
_ ربنا استجاب لدعايا، الحمدلله دعيت كتير ربنا يعوضكم خير..
شدَّت ليلى على ظهر هناء، بينما نظر وليد إلى خلود وغمزها وقال باستنكارٍ وهو يُشير بعينه إلى ما يحدث:
_ اللي بيحصل دا مش محرك حاجة جواكي؟
نفت بحركة من رأسها، فاستنفر وليد منها وتمتم بغيظ:
_ أكيد أنتِ معندكيش قلب! غيرك كان فاتها اتأثرت وجِرت عليا قالتلي يلا نتجوز..
إلتوى ثغر خلود للجانب رافعة حاجبها الأيسر ثم أشارت بإصبعيها:
_ بعد سنتين..
إزداد وليد حُنقًا وصاح فيها:
_ هما السنتين دول مش بينقصوا عندك، اتقي الله بقى أنا على أخري
انفجرت خلود ضاحكة، فانتبه عليها الجميع، فحاولت كتم ضحكاتها بخجلٍ من وراء نظراتهم، ثم لم يكف الجميع عن الحديث ظاهرين سعادتهم بطُرقٍ مختلفة، حيث أن البعض كان يختار الأسماء معهم، والبعض الآخر يدعو لهما بإتمام الحمل، بينما لم يكف وليد عن مشاكسة خلود طيلة الوقت.
***
وبينما كانت شاردة الذهن، جاء قاسم حاملًا صينية العشاء، وضعها على الطاولة فلم يجد أي انتباه منها، وكأنها لم تُلاحظ وجوده، قطب جبينه وحمحم ليجذب انتباهها، والنتيجة ذاتها، فاضطر إلى إصدار صوتًا ليعلم ما يوجد خلفها:
_ للدرجة دي مش حاسة بوجودي، إيه اللي شاغلك بالشكل دا؟
انتبهت عليه زينب، ثم اعتدلت في جلستها وقالت بتِيه:
_ محستش فعلًا بوجود حضرتك... كنت بتقول حاجة؟
_ لا أبدًا، بس جبت العشا، ولقيتك سرحانة فاستغربت..
هتفها قاسم موضحًا، فألقت زينب نظرةً على الطعام ثم اجتاحها الخجل، وأردفت على استحياء شديد:
_ يا خبر! حضرتك اللي جبت العشا بنفسك، أنا آسفة والله معر...
قاطعها قاسم عندما أعطت للموضوع حجمًا أكبر من حجمه:
_ بتتأسفي على إيه؟ مفيش حاجة تتأسفي عليها، وبعدين أنا حبيت أحضر يوم العشا، ولا وأنتِ بقى خايفة على بطنك من أكلي؟
تعمد سكب المُزاح بين كلماته، فابتسمت زينب وهتفت:
_ لا طبعًا، أكيد حضرتك مش هتعمل حاجة وحشة.. بس دا كان واجبي يعني إني أنا اللي أعمل العشا..
باستنكارٍ صاح:
_ واجب إيه يا عبيطة، الأكل دا مشاركة وبيتعمل بحب الناس اللي بنحبها، وأنا بكون مستمتع وأنا بعمله لحد بحبه وأنا قولت الكلام دا قبل كدا لعبدالله والنهاردة بقولهولك أنتِ كمان..
إزدادت زينب سعادة، ثم اختفت أي معالم للراحة من على وجهها فاستشعر قاسم ثَمَة أمرًا يشغل بالها فسألها باهتمامٍ بعد أن جلس على الأريكة المقابلة لها:
_ حاسس إن فيه حاجة شغلاكي، حابة تتكلمي؟
أطالت زينب النظر به، وقعت بين التردد والحيرة من إخباره أم تحتفظ بذلك السر دون أن تفصح عنه لأحد؟
أخرجت تنهيدة قوية وقالت وعينيها تنظر في الفراغ أمامها:
_ مش عارفة بصراحة المفروض أتكلم مع حد ولا اتعامل أنا وخلاص..
_ احكي لي ووعد محدش هيعرف عن الموضوع حاجة، مش يمكن ألاقي لك حل لحيرتك دي؟
قالها بحكمةٍ وهدوءٍ، فأجبر زينب على النظر إليه وكأنه كان ملجأً لها، أخذت نفسًا وزفرته بقوة وبدأت حديثها بتعلثمٍ:
_ الموضوع ممكن يفاجئك، وممكن يصدمك، والله أنا حاولت أنساه بس هو رجع تاني كلمني فأنا رجعت تاني أفكر فيه غصب عني..
ضاق جبين قاسم عندما لم يفهم شيء مما قالته، وتساءل حول كلماتها المبهمة:
_ تنسي مين ومين اللي رجع يكلمك؟ فهميني براحة..
ابتلعت زينب ريقها ثم دنت منه قليلًا واسترسلت بترددٍ كان حاجزًا لخروج كلامها:
_ عاصم!
بُص هو الموضوع بدأ من عندي، لما قربت منه وشوفت أسلوبه وطريقته وحياته عمومًا، شخص حنون لدرجة مشوفتهاش قبل كدا، مُهتم بتفاصيل اللي بيحبهم، شخص عفوي ولسانه طول الوقت بيقول كلام حلو..
أخفضت رأسها في حياء، وتابعت وهي تفرك أصابع يدها بخجلٍ صريح:
_ أنا اتشديت لكل دا، اتمنيت أكون في حياته، يمكن دا نقص عندي من اللي شوفته وعيشته مع..
لم تستطع نطق اسم حمادة، ففضلت الصمت وقد استشف قاسم قصدها، وتابع استماعه لها بآذان صاغية مهتمة، فرفعت زينب رأسها مُسرعة ووضحت ما يُمكنه فهمه من وراء كلماتها:
_ بس والله عمري ما اتمنيت إني أخده من صبا، رغم إني كنت عارفة إن جوازهم مش طبيعي، أنا بس كنت حابة أتحب واتعامل بنفس الأسلوب والطريقة..
صمتت وتفقدت معالم وجه قاسم، فكان مُستكينًا هادِئًا لم تستشف من وراءه بماذا يدور داخله فتساءلت بترددٍ:
_ حضرتك ساكت ليه؟
_ بسمعك، كملي..
قالها بنبرةٍ رخيمة، جعلتها تواصل رويها للحكاية:
_ وقت وفاة ماما الله يرحمها، كان أكتر شخص واقف جنبي، مكنش بيعدي يوم غير لما يكلمني ويطمن عليا ومكنش بيقفل المكالمة قبل ما أوعده إني مش هعيط..
كان كل واحد مشغول في حُزنه وقتها سواء حضرتك أو عبدالله، فكان هو الوحيد اللي جنبي..
أنا تقريبًا قدرت أتخطى الفترة دي بفضله هو
الفترة دي حسيت إن علاقتنا اتنقلت لحتة تانية، مبقتش علاقة جيران، أو مدير وسكرتيرته، حسيت إن العلاقة بقت قريبة مقدرتش أحط لها اسم ولا معنى لأن أنا وهو معترفناش بحاجة بس جوايا كنت حاسة الإحساس دا..
إن علاقتنا بقت في مرحلة تانية خالص غير الأول..
لغاية ما هو صدمني..
نكست رأسها في حُزنٍ غلف صوتها التي اهتز، وخيَّم تقاسيم وجهها، كما جاهدت على منع عبراتها من النزول، ثم استأنفت بنبرة مهزومة:
_ تقريبًا أخته لاحظت هي كمان إن علاقتنا بقت قريبة، وواجهته فهو حب يوصلي بهزار إن تخيلي ڤاليا مفكرة إننا في علاقة!!
فشلت زينب في التماسُك، وتسابقت دموعها في النزول ثم واجهت عيني قاسم الذي تأثر بكلماتها وأردفت مواصلة:
_ كان خايف أكون شايفة أنا كمان زيها!!
أنا وقتها حسيت إن قلبي اتقسم نصين
آه هو معترفش ليا بحاجة صريحة
ويمكن كان بيتعامل بعفوية زي عادته
بس كون إنه قالي كدا يعني هو عِرف مشاعري نحيته، عِرفها ورفضها..
يعني اتوجعت مرتين، مرة لموقفي اللي كان زي الزفت قدامه بسبب أنه عِرف مشاعري نحيته، ومرة لما رفضني!!
أجهشت زينب في البكاء، وعندما فشلت في استجماع شتاتها وضعت يدها على وجهها، ودون تفكيرٍ نهض قاسم وجاورها ثم ربتَّ بيده على ذراعها وردد:
_ إهدي يا زينب، لو ليا خاطر عندك..
أزاحت زينب يدها عن وجهها وهتفت عاليًا بنبرة مشحونة:
_ لقيته النهاردة بيكلمني وبيعتذر لي، بيقولي إنه كان غلط وفاكر إن البعد الحل، بس اكتشف غير كدا وإني كنت شاغله تفكيره طول فترة سفره..
التفتت برأسها إلى اليمين حيث قاسم وأضافت باستياءٍ:
_ بعد إيه؟ بعد ما كسر قلبي، وبعد ما اختار الهروب وسافر فجأة؟!
بعد ما عيطت وحاولت اتأقلم على بُعده، بعد ما حاولت أنساه واشتغل على نفسي، جاي بعد كل دا تاني ليه؟
ليه يرجعني للصفر، ليه أحس باللخبطة اللي أنا فيها دي، وأبقى مش عارفة أخد قرار
مش عارفة أرفضه وأوجعه زي ما هو عمل ولا قادرة أكمل في اللي وصلت له في شغلي بعد ما اشتغلت على نفسي كتير..
ليه جاي دلوقتي يلخبطني كدا؟
ممكن حضرتك تقولي لو مكاني هتعمل ايه؟
أخذ قاسم نفسًا زفره على مهل، وبدأ حديثه قائلًا:
_ لو مكانك، ههدى الأول، عشان القرارات دي مش محتاجة توتر وعياط ولا الحالة اللي أنتِ فيها دا خالص، هحاول اصفي ذهني تمامًا، أشرب لي حاجة سخنة كدا وأبدأ أفكر براحة وبهدوء، بس أفكر بعقلي مش بقلبي..
أحط النُقط على الحروف، وأشوف عاصم من كل الزوايا، أدرسه صح، أشوف كل العواقب اللي هتقابلني، أصل الموضوع مش هيكون خاص بيكم بس، متنسيش إن عاصم وصبا كانوا متجوزين، وعبدالله وعاصم مش ألطف حاجة مع بعض، علاقة صبا عملت حاجز كبير بينهم..
وهبص، هل هقدر أتجاوز وأفصل بين إنه بقى معايا وإنه كان مع صبا..
لو قدرتي تتخطي كل دا ولقيتي نفسك قادرة تواجهي عبدالله من غير ما يزعل اعملي كدا..
لأن افتكر إن عبدالله كان مُعترض على جوازك من حمادة وأنتِ شوفتي النتيجة، طبعا دي مقارنة ظالمة أننا نقارن عاصم بحمادة، بس عندنا اعتراض عبدالله في المرتين، لو أنتِ فعلًا حباه وقادرة تعيشي معاه وتنسوا صفحة الماضي، حاولي تقنعي عبدالله وتسمعي منه رأيه بهدوء لأن الوضع هيكون حساس أوي يا زينب..
أماءت زينب بقبولٍ، ثم نهضت فأوقفها قاسم قائلًا:
_ على فين؟ والأكل اللي حضرته دا هاكله لوحدي؟
تذكرت زينب أمر الطعام ثم عاودت الجلوس وشَرعَ كليهما في الطعام، لكن زينب كانت غارقة بين أفكارها وحيرتها في أخذ قرارٍ صائب.
***
بعد مرور فترةً؛ وبينما كانت منهمرة في عملها على مكتبها، تفاجئت بيد قد وُضعت أمامها وصوتٍ يُهاجمها:
_ هو أنا لازم أنزلك مخصوص عشان تتكرمي وتردي عليا؟!
وقبل أن تُصدق آذنيها ما سمعته، رفعت رأسها وتفقدته فأصاب حدسها وبالفعل وجدته نفسه، خفق قلبها بقوة، وسيطر عليها حالة من الإضطراب التي جعلتها تفقد النُطق لفترة.
وبصعوبة قابلتها قالت:
_ باشمهندس عاصم!!
_ باشمهندش!!
رددها باستنكارٍ تام، ثم استقام في وقوفه واستأنف:
_ هو أنا ممكن أفهم أنتِ مش بتردي عليا ليه؟
أنا مش قولتلك فكري وعرفيني رأيك؟
هربت زينب بنظرها بعيدًا عنه، وهتفت مُتعجبة من أمر ظهوره أمامها فجأة:
_ أنت عرفت مكاني إزاي؟
_ هيفرق يعني؟ على العموم مش صعب يعني، أنتِ حطاه في الديسكربشن على صفحتك..
أخبرها ليرضي فضولها، ثم أضاف وهو يتفقد المكان حوله:
_ بس أنتِ ملقتيش غير شركة أنس النشار؟!
نهضت زينب فجأة؛ وثأرت لسيرة مديرها التي حضرت:
_ ماله باشمهندس أنس؟
رفع عاصم حاجبيه بغرابةٍ واستنكار، ثم قال:
_ وأنتِ مالك بتتكلمي كدا ليه كأنه إبن خالتك؟
_ طبيعي محبش حد يجيب سيرة مديري بأسلوب مش كويس..
قالتها مندفعة فازداد عاصم حُنقًا وردد:
_ والله بجد؟
وقبل أن يُواصل جُملته تفاجئ كِلاهما بخروج أنس من غرفة مكتبه، بدى عليه علامات الدهشة والضيق لرؤياه عاصم، لكنه اقترب منه بثباتٍ، وهتف:
_ عاصم سيلمان منافسي القوي واقف عندي في شركتي؟
أجبر عاصم شفاه على الإبتسام، ثم وضع يده في جيبه بنطاله حيث شمخت هيئته ونظر إلى أنس كصقرٍ يتحداه قبل أن يردف:
_ ليا عندك حاجة تخصني جيت أخدها..
ضاق الآخر بعينه عندما لم يستشف مخزى كلامه،
تلك الأثناء تدخلت زينب ووجهت حديثها إلى أنس بعد أن تفقدت ساعة يدها:
_ ميعاد قهوة حضرتك يا باشمهندس، تحب اطلبهالك؟
_ ياريت يا زوز والله، دماغي مش مظبوطة.. خليهم اتنين عشان الباشمهندس عاصم...
دلَّلها أنس بعفوية، جعلت نيران غيرة عاصم تشتعل داخله، تشنجت ملامحه، وضاقت عينيه التي رمق بهما أنس بحدةٍ، ناهيك عن شفتيه المضمومتين يكتم غيظه بصعوبة.
كان شاردًا في ملامح الآخر كأنه يود لكمه، حتى أخرجه أنس من شروده قائلًا:
_ تعالى يا عاصم ندخل المكتب ندردش شوية، وبالمرة تقولي إيه اللي يخصك عندي في شركتي..
انصرفت زينب من أمامهما مُسرعة، بينما ولج عاصم على مضضٍ خلف أنس الذي جلس أولًا ثم بدأ حديثه بعجرفةٍ:
_ أنت صحيح رِجعت امتى من السفر؟ دا أنا كنت سمعت إنك معتش راجع هنا تاني..
كان الهواء أثقل من الكلام بينهما، يتنفس عاصم بصوتٍ مسموع كمن يقاوم شيئًا داخله، يحاول جمع شتات كلماته، أن يجبُر صوته على الخروج، وبصعوبةٍ قابلها أجابه وهو يجلس أمامه، فقط ليرى التعامل بينه وبين زينب إلى أي مدى قد وصلا.
دار بينهما حوارًا، حتى جاءت زينب ووضعت كوبان القهوة على الطاولة بينهما فتحدث أنس ببرودٍ:
_ إحنا نسينا نسأل الباشمهندس بيشرب قهوته إيه..
ثم وجه أنظاره على عاصم واسترسل:
_ بس أيًا يكن القهوة اللي زينب عملتها فأحب أأكد لك إنك هتطلب واحدة تانية من حلاوتها..
ومن بين قهقهته تغزل أنس في زينب:
_ لا مقصدش حلاوة زينب، قصدي على حلاوة القهوة..
فارت دماء عاصم وبلغ ذُروة تحمله، فهب واقفًا مما أثار الريبة حوله، اقترب من زينب وأمسك يدها جاذبًا إياها بقُربه، فاستشاط أنس غيظًا ووقف وعينيه مُصوبتين على يدهما، ثم تساءل بجمودٍ يخفي خلفه نيران مُتقدة على وشك إحراق عاصم:
_ إيه اللي بيحصل هنا؟
ثم وجه حديثه إلى زينب وسألها بحدةٍ:
_ في إيه يا زينب بالظبط؟
لاحظ أنس محاولات زينب على تحرر يدها، فاقترب من عاصم بعينين حادتين وقال من بين أسنانه المتلاحمة:
_ احترم إنك في مكتبي وسيب ايديها..
دنا منه عاصم حتى أنه خبط في صدره، وهتف بملامح غاضبة وأسنانٍ تحتك ببعضها:
_ قولت لك برا إني جاي أخد حاجة تخصني! وزينب تخصني!
أنهاها ثم شدَّ على يد زينب وأجبرها على الخروج تحت صدمةٍ من زينب على جُرأته، لم تخفض نظرها عن أنس وشعور الخجل قد تملك منها، حتمًا سيخلق فكرةً سيئة عنها الآن.
طلب عاصم المصعد الكهربائي وولج به رفقة زينب التي ما أن أغلق بابه عليهما حتى سحبت يدها بعنفٍ وصاحت متذمرة:
_ إيه اللي أنت عملته دا، أنت كدا خسرتني شغلي! وبأي حق أصلًا تمسك إيدي وتخرجني من الشركة غصب عني كدا؟
بتهكمٍ تحدث عاصم:
_ زعلانة أوي على الشغل؟ أنتِ عارفة مين أنس النشار؟
راجل مُتعدد العلاقات، أنا مش عارف أنتِ وصلتي له إزاي؟
_ وأنا مالي متعدد العلاقات ولا لأ، كل اللي بينا شغل، شغل وبس!
هتفت بغضبٍ شديد، فانفعل عاصم من خلف أسلوبها الفظ:
_ اللي بينكم شغل بالنسبة ليكي لكن بالنسبة له لأ، أنس متجوز يجي فوق العشرين مرة وكلهم كانوا السكرتيرات بتوعه، بيتسلى تحت إطار شرعي، يقعد يتغزل في أي سكرتيرة بتيجي له جديد، لغاية ما يوقعها ويُطلب منها الجواز ويقضي له معاها يوم ولا اتنين ولا شهر بالكتير وبعدين يطلقها ويجيب غيرها، وتقريبًا إن مكنش أكيد الدور كان عليكي!!
ودا بالظبط اللي خلاني أرجع أول ما عرفت إنك اشتغلتي هنا..
صدمة حلت على وجه زينب، وتذكرت المرات العديدة التي شعرت بها بالنفور من تصرفات أنس، ناهيك عن تودده إليها من بين الحين والآخر، فشعرت بالإسيتاء الشديد لسذاجتها، فلم تستطيع مواجهة عيني عاصم بعد ما علمت به.
توقف المصعد وخرج منه عاصم وانتظرها حتى انتبهت عليه فخرجت إلى جواره، وسارا حتى خرجا من المبنى فتوجه عاصم إلى سيارته بينما كادت زينب تُغادر من طريقٍ مُعاكس فصاح عاصم وهو يُعَاود غلق باب سيارته:
ـ أنتِ راحة فين؟
توقفت وأجابته بنبرةً جامدة:
_ ماشية..
_ هو أنا نازل من أمريكا ومنزلك من هنا عشان تسيبني وتمشي، ما أكيد جاي لك عشان نتكلم، اتفضلي اركبي
قالها باسيتاءٍ لهروبها، فترددت زينب في الركوب معه، فحثها عاصم على مُرافقته:
_ يلا يا زينب لو سمحتي.. محتاجين نتكلم
توجهت نحوه بِخُطى ثابتة، وقامت بركوب السيارة معه، فتحرك عاصم وتساءل باهتمامٍ:
_ تحبي تروحي مكان معين ولا...
قاطعته زينب باقتضابٍ:
_ أنا مش عايزة أروح في أي مكان أنا عايزة أروح..
_ مش اتفقنا نتكلم؟!
قالها وهو ينظر إليها بعتابٍ فهتفت زينب دون النظر إليه:
_ ممكن نتكلم في العربية عادي..
لم يُريد عاصم الضغط عليها، أخرج تنيهدة ليكون في صدره مُتسع للحديث وبدأ كلامه بصوتٍ أجش:
_ طب أنتِ مكنتيش بتردي على مكالماتي ليه؟
_ عشان مكنش عندي رد..
هتفتها بهدوءٍ فعبست ملامح عاصم وقال بضيقٍ:
_ يعني إيه؟
_ يعني إحنا قدامنا عواقب كتيرة أوي وأنا مش عارفة أخد قرار بسببهم
قالتها فصف عاصم السيارة على جانب الطريق، ثم اعتدل حيث يكون مقابلها وتساءل حول تلك العواقب:
_ عواقب إيه دي؟
رفعت عينيها في عينيه، وتأثرت بنظراته حيث أن قلبها خفق بقوة، فوسامته كانت طاغية للغاية وهي لن تنكر اشتياقها له حتى وإن لم تُظهِر:
_ أنت ناسي إنك كنت متجوز، واللي كنت متجوزها دي بقت مرات اخويا، أخويا اللي عمري ما هعمل حاجة تزعله حتى لو على حسابي، كفاية أوي عِنادي قبل كدا وصلني لإيه..
نظر أمامه وتفقد الطريق لبرهة قبل أن يُعاود النظر إليها وردد بتلهفٍ:
_ بس أنتِ وأخوكي وكلكم عرفتوا خلاص حقيقة جوازي من صبا، مش محتاج أقول إنه مكنش مبني على حب وكان جواز طبيعي عشان يكون عقبة!!
_ بس في الآخر اسمه جواز، وأنت وعبدالله علاقتكم مش أحسن حاجة من وقتها، ووجود صبا كمان صعب عليا، عشان حتى لو جوازكم مكنش حقيقي بس في الآخر كنتوا متجوزين وأنا شوفت تعاملك معاها عن قُرب ودي تاني عقبة وتالت عقبة أهلك، يا ترى هيقبلوني؟
وقبل ما تبرر عايزاك تعرف إن مهم عندي أوي إني أكون مرغوبة وخصوصًا من أهلك، لأن أنا بقيت لوحدي أوي، وأنا محتاجة تجمعات عائلية مليانة دفا وحنان..
أخرجت زفرةً مهمومة ثم أخفضت بصرها وداعبت أصابع يدها قبل أن تُضيف:
_ حاجات كتير أوي قدام علاقتنا يا عاصم، مش هقدر أتخطاها عشان تكون في الآخر معاك، وأنا معتش قادرة أحارب، طاقتي خلصت ونفسي اتقطع، محتاجة علاقة مُريحة، مفيش فيها مشاكل ولا صِراعات، ودا مش هيكون فيه علاقتنا خالص!
تقبل عاصم كلامها بصدرٍ قد ضاق رحبه، لكنه تحلى ببعض الصبر وأردف بجدية:
_ بس أنا لسه نفسي طويل، وطاقتي مشحونة، ومستعد أواجه كله عشانك، أنا مش محتاج غيرك يا زينب في حياتي..
أنا بكون مرتاح وإحنا سوا، الشعور اللي بحسه دا ميتقلش بالدهب ولا له وصف حتى بالكلام..
إحساس نفسي أعيشه كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، ودا مش هيحصل غير وأنتِ في حياتي.. فأنا مستعد أواجه عبدالله وأحسِن علاقتي معاه عشان خاطر عيونك..
تنهد بقوة واستأنف:
_ أما لو على أهلي، فمش هقدر أقولك إنهم مش هيمانعوا ودا مش لشخصك، إطلاقًا بس أكيد هيربطوا جوازي بصبا بيكي، بس أنا متأكد إنهم مع الوقت هيتقبلوا علاقتنا لما يعرفوكي، ويشوفوكي
زي ما أنا شايفك!!
ودلوقتي مفضلش غير موافقتك أنتِ.. ها قولتي إيه؟
أطالت زينب النظر به، تتخبط بين القبول والرفض، حتى حثَّها قلبها على القبول فمال ثغرها للجانب وشكلت بسمةً رقيقة جعلته يبتسم بجاذبية ويُهلل عاليًا:
_ ضحكت يبقى قلبها مال ولا إيه؟
أخفضت رأسها في حياءٍ وتمتمت بخفوت:
_ مال خلاص..
تبادلا النظرات الحماسية وخفق قلبهما بسعادةٍ لم يعهداها منذ فترة طويلة، وأخذا يتفقان كيف سيُفاتحان الجميع عن أمر علاقتهما.
***
انقضى شهر عسل العروسين، وعادوا إلى منزلهم، نقلهم قاسم رفقة زينب بالسيارة من المطار، كان عبدالله جالسًا في الخلف جوار صبا وزينب إلى جوار قاسم في المقاعد الخلفية، بينما بدأ قاسم الحديث مُعلِقًا ببسمةٍ:
_ شهر العسل تأثيره باين على وشك، أول مرة من يوم ما عرفتك أشوف وشك مرتاح كدا..
تقوست شفاه عبدالله ببعض الخجل ثم رمق صبا وقال بعذوبة:
_ الفضل يرجع للدكترة..
غمزها بوقاحةٍ فبرقت صبا بعيونها مستنكرة جُرأته، بينما ضحك قاسم وشاركه عبدالله الضحك، حتى انتهى وأردف بحسمٍ:
_ بما إننا مع بعض يبقى نقضي اليوم سوا ونتغدى سوى
بادرت زينب في الرفض مُعللة أسبابها:
_ لا غدا إيه، أنتوا راجعين من سفر ومحتاجين ترتاحوا، خلوها يوم تاني..
أصرَّ عبدالله على بقائهم قائلًا:
_ لا لا، إحنا نايمين كتير في الطيارة، متقلقيش علينا..
هنقضي اليوم مع بعض، أنا كمان هكلم العيال يجوا بليل ونسهر سوا، أنتوا مش متخيلين كلكم واحشِني قد إيه..
_ والله غيابك كان فارق جدًا، بس الواحد كان بيصبر نفسه إنك مبسوط.. ربنا يديم وجودك يا حبيبي
هتفها قاسم بحبٍ فأجبر عبدالله على القيام بنصف قامته وقام بتقبيل رأسه من الجانب حيث كانت قريبة منه مرددًا بنبرةٍ بها حنانًا:
_ ربنا يبارك فيك يارب..
ثم عاود الجلوس، وتسامر الجميع حتى وصلا إلى عش الزوجية الخاص بعبدالله وصبا، وتحت إصرارٍ من عبدالله علي بقائهما قد قبلا، صَعِدَ الجميع حيث الطابق الكائن به الشقة، ثم ولجوا وأخذ كلًا مجلسه.
استأذنت صبا للدخول الى غرفتها، بينما كانت زينب شاردة، تود الإفصاح عما يدور داخل عقلها، لكن تتراجع فهما للتو قد وصلا من سفرٍ، عليها الإنتظار قليلًا، قليلًا فقط.
_ مالك يا زوز، مين اللي واخد عقلك؟
هتفها بمزاحٍ، فانتبهت عليه زينب وقد رسمت ابتسامة لم تتعدى شفاها وقالت:
_ مفيش..
فعاود عبدالله سؤالها:
_ عاملة إيه في الشغل؟
بتلقائية دون تفكيرٍ:
_ أنا سيبته بقالي فترة ..
عقد عبدالله جبينه وتساءل مستفسرًا:
_ ليه، حصل حاجة لا إيه؟
تبادلت زينب النظرات مع قاسم الذي حثَّها على البوح بما تخفيه، فأثارت نظراتهما الريبة داخل عبدالله الذي هتف بقلقٍ:
_ هو فيه إيه، أنتوا بتبصوا لبعض كدا ليه؟
أخفضت زينب رأسها وداعبت أصابع يدها بخجلاٍ صريح قبل أن تُجيبه بترددٍ:
_ بالنسبة للشغل، سيبته لأنه مكنش مناسب، بس فيه حاجة تانية..
ابتلعت ريقها تحت اهتمامٍ كبير من عبدالله لسماع بقية الحديث التي تابعته زينب:
_ فيه شخص متقدم لي..
ارتسمت معالم المفاجئة على تقاسيم عبدالله، ثم ابتسم قبل أن يُعقب:
_ مين دا؟ حد أعرفه؟
رفعت زينب رأسها وأطالت النظر في عيني عبدالله وهي تتصور رد فعله بعد إخباره بهويته، فتعود بأدراجها ولا تود الإفصاح عن الهوية لكن إلى متى ستهرب؟
_ عاصم!
نطقتها بسُرعة البرق، متأملة عدم سماعه لكن هيهات لأذنيه اللتان التقطا الإسم ولم يريد تصديقه فردده دون استيعابٍ:
_ عاصم؟ عاصم مين؟ إوعى يكون عاصم نفسه...
قاطعه قاسم مؤكدًا:
_ هو يا عبدالله..
هب عبدالله واقفًا وعينيه قد ضاقت وظهر فيهما التزمجر، تلك الأثناء عادت صبا من الداخل ورأت غضبه الذي صدر منه بصوتٍ منفعل:
_ أنتوا بتقولوا إيه؟ عاصم مين اللي متقدم لك؟ يعني إيه أصلًا؟ يعني دا حصل بناءً على إيه؟ هو في إيه يا زينب؟
سيطر الخوف لحظتها على زينب، فشعر بها قاسم وتولى الإجابة على أسئلة عبدالله بنبرة رزينة:
_ عبدالله اهدى لو سمحت، واقعد وافهم..
رمقه الآخر طويلًا ثم عاد إلى كُرسيه، فتابع قاسم حديثه بهدوءٍ:
_ أنت أكيد مش ناسي إنهم اشتغلوا مع بعض فترة، والفترة دي هما الإتنين حساباتهم اتغيرت ومشاعرهم من غير ما يقصدوا اتحركت، وبقول من غير ما يقصدوا لأن كل واحد فيهم بِعد وعاش حياته، هو سافر وزينب اشتغلت في مكان تاني، بس جواهم كان طول الوقت مشغول بالتاني، لغاية ما عاصم كلم زينب من فترة وطلب يتقدم لها..
كان مبالغًا لعقل عبدالله ليتم استيعاب ذلك القدر، نظر إلى زينب مدهوشًا وأردف:
_ أنتِ عايزة عاصم يا زينب؟
أسرعت في خفض رأسها فلم تتجرأ على مواجهة عيني أخيها وهمست مُجيبة سؤاله بخجلٍ:
_ أنا يهمني رايكم أنت، لو مش موافق فأنا كمان مش موافقة!
أخرج عبدالله زفرةً ثم ألقى نظرةً على صبا التي تُجاهد على إخفاء سعادتها، ثم عاود النظر إلى زينب وهتف:
_ مش مهم أنا قد ما هو مهم رأيك أنتِ، أنا محتاج أفهم إزاي، ملقتكيش غير عاصم يا زينب؟
رفعت رأسها وقابلت عينيه بمزيجٍ من الخوف والتوتر، وتمتمت:
_ والله ما كان فيه حاجة مترتبة ومعرفش حصل إزاي، بس أنا لقيت فيه كل إحساس ناقصني، لقيت فيه حاجات كان نفسي أعيشها، وكان نفسي ألاقيها في شريك حياتي.. بس صدقني كل دا مش مهم خالص لو أنت مُتقبل العلاقة، وبِنفس راضية يا عبدالله مش هزعل، أنا المهم عندي أنت
وقع عبدالله في حيرة من أمره، كم تمنى أن يكون حُلمًا ليس إلا، لكن الأسوأ أنه حقيقة، تنهد بقوة وتمتم بتعلثمٍ:
_ طب أنتوا قولولي المفروض استوعب إزاي أصلًا اللي بيتقال دا، عاصم اللي كان....
لم يستطع مواصلة كلامه عندما لم يتقبل لسانه حمل تلك الكلمات الثقيلة لقلبه، وصمت ثم استأنف:
_ يعني إيه أحط ايدي في ايده والمفروض أتعامل عادي؟ صبا هتفضل حاجز بينا، ومفتكرش إني هعرف أتعامل معاه كويس وخصوصًا في وجودها..
جماعة أنتوا فاهميني؟
_ هو أنا ممكن أقول حاجة يا عبدالله؟
قالتها صبا باحترامٍ فنظر إليها الجميع وقد سمح لها عبدالله فأردفت موضحة بعض النقاط:
_ أنا عارفة يا حبيبي ومتفهمة جدًا إحساسك، ودا طبيعي، بس اللي مش طبيعي إنك تكون عارف حقيقة الجواز منه وتفضل أخد موقف..
دا أولًا، ثانيًا، فيه علاقات بتحسها مستحيلة ومش مُتقبلها بس بتكمل عادي، زي إن الزوج يتجوز أخت مراته، أو الراجل يتجوز مرات أخوه لو حصل طلاق أو موت، وبتلاقي الحياة عادي، أنا شايفة طلاما في إطار حلال يبقى فين المشكلة؟
ثم إن زينب بتحبه وبتقول إنها لقت فيه حاجات كانت مفتقداها، وأنا متأكدة إنه هيحافظ عليها وهيعوضها..
لأن عاصم شخصية جميلة وأنت لو عرفته هتحبه..
_ لأ، كفاية أنتِ عرفتيه وحبتيه يا دكتورة!!
يا ترى التعويض كان حلو؟ لو حلو وهيعوض أختي زيك فأنا معنديش مشكلة..
هتفتها بغضبٍ ثم نظر إلى زينب وقال:
_ مبروك عليكي عوض عاصم يا زينب، شخصية جميلة، الدكتورة أدرى طبعًا!!
وما إن أنهى جُملته الصادمة، حتى خيّم الصمت على المكان، تجمّدت الوجوه، وتبدّلت النظرات، وكلٌّ شعر بالصدمة على طريقته، غير أنّ أكثر من تأذّى كانت صبا، اتّسعت عيناها بدهشة، وانقلبت ملامحها بين وجعٍ وإهانة.
شعرت أنّ كلماته لم تكن جارحة فحسب، بل كانت قاسية، مقصودة، وأمام الحاضرين جميعًا.
وقبل أن ينطق أحد بكلمة، نهضت بثباتٍ مكسور، تركته واقفًا في منتصف الحديث، ودخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها بصمتٍ موجع