رواية علي دروب الهوي الفصل السابع والاربعون47 بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل السابع والاربعون47 بقلم تسنيم المرشدي
 لأ يا صبا لأ، أنا مش هعمل كدا، مش هعمل حاجه تخليكي تكرهي الموضوع أكتر، اللي أنتِ بتطلبيه دا هيعقد الوضع ومش هيحِلُه.. 
هتفها بانفعالٍ ووقف يلتقط أنفاسه، ثم انحنى بجسده واستند بكفوفه على ركبتيه؛ مُحاولًا السيطرة على أعصابه التالفة، أخرج زفرة طويلة ثم عاود مُنتصبًا، وتفقد صبا التي في حالة يُرثى لها، توجه نحوها بِخُطى مُتهملة ثم قام بالجلوس على الفراش وبهدوءٍ جذبها إلى صدره، وأخذ يُمسد على خُصلاتها بحنانٍ متمتمًا بصوتٍ رخيم:
_ نفسي تشوفي نفسك بعيني أوي، عشان تعرفي إني عمري ما فكرت فيكي بالطريقة دي، أنا حتى يوم ما تفكيري خرج برا حدوده فكرت إني أكون أخدك في حضني، زي دلوقتي كدا، اللحظة دي عندي بالدنيا.. 

أخرج تنيهدة ثم تابع مُسترسلًا على أملاٍ أن تقتنع بكلامه بعد أن رفع وجهها لِتُقابل عينيه: 
_ أزمِتك هتعدي، بس مش هتعدي بالغصب ولا إنك تيجي على نفسك عشان تتخطيها، الأزمة هتعدي لما أنتِ من جواكي تحسي إنها مبقتش أزمة، لما تيجي لحظة علينا تحسي فيها إنك جاهزة للخطوة من غير ما تحسي بخوف ولا توتر ولا جسمك يكون متشنج من مجرد تفكير في اللي هيحصل.. أنا مش مستعجل، أنا حلمي أهو بين إيديا ودا المهم، أي حاجة تيجي بعد كدا بالرضا ومع الوقت..

انحنى على شفاها وطبع قُبلةً عليها ثم تفقد عينيها اللامعتان، مبتسمًا في وجهها وأردف: 
_ حاسة نفسك بقيتي أحسن؟ 

_ شوية...
همست بها صبا فحرك عبدالله رأسه بتفهمٍ ثم تساءل باهتمامٍ:
_ تحبي تنامي ترتاحي شوية؟ 

_ ممكن..
اكتفت بترديدها، فنهض عبدالله وأعدل من جلسته حيث أنه وضع وِسادةً خلف ظهره ثم فتح ذراعيه لها فجاءته مُستكينه على صدره أعلى قلبه الذي ينبض بقوة، ظل يُحرك أصابع يده على ذراعها بحركاتٍ طُولية سببت لها قشعريرة حتى باتت في ثُباتٍ عميق فشاركها عبدالله النوم بعد مُدةٍ على نفس وضعه. 

*** 

صباحًا؛ وقبل أن تغدوا شمس الظهيرة، فُتح ذلك الباب الحديدي الذي أصدر صريرًا قوي جعله يُغمض عينيه ويَشُد ملامح  وجهه بانزعاجٍ، حتى وقف العسكري ونادى بصوتٍ جهوري:
_ آدم القاضي، عندك زيارة...

بمللٍ نهض مُبتعدًا عن فِراشه، ثم توجه إلى العسكري بهيئة شامخة، مُتسائلًا بلامبالاةٍ: 
_ مين؟ 

_ لا معنديش فكرة والله 
قالها العسكري بعملية ثم أسبق بُخُطاه إلى الخارج فتبِعه آدم حتى وصلا إلى قاعة الزيارة، فتفاجئ بالزائر  الذي يقف أمامه، إلتمعت عينيه بوميض الدهشة والحنين، رؤياها قد أزالت غبار جدران السجن من عليه. 

وسرعان ما عاد إليه دفءٍ غريب  بعد أن انطفأ داخله من خلف بقائه بين تلك الجدران الباردة، ابتسمت شفتاه تلقائيًا وهمس بِحروف إسمها باشتياقٍ فاض به: 
_ ڤاليا!! 

بادلته ابتسامة رقيقة ثم اقتربت منه بِضع خُطوات ورحبت به: 
_ عامل إيه يا آدم؟ 

_ بقيت كويس..
هتفها وهو يتمعن النظر في عينيها، تنهد وأضاف وهو يُشير إلى الكرسي: 
_ اقعدي.. 

جلسا كليهما، فتساءلت ڤاليا باهتمامٍ لحاله وهي تتفقد المكان حولهما: 
_ عامل إيه هنا؟ عارف تتأقلم ولا لأ.. 

_ مش مهم، كل دا مش مهم، طمنيني عليكي، أنتِ عاملة إيه 
حاول إبعاد حوراهما عنه، لِيُطفئ لهيب شوقه المُتقد، فأجابت ڤاليا: 
_ أنا أكيد كويسة.. 

_ ودا المهم 
تمتمها ثم أفاض بمشاعره: 
_ وحشتيني

خجلت ڤاليا من تصريحه المفاجئ، أخفضت رأسها في حياء، وردت بصوتٍ أنثوي قد اشتاق إليه آدم حد السماء:
_ وأنت كمان وحشتني

أعادت رفع رأسها، وتابعت بملامحٍ بها مزيجٍ من الخِزي والحزن:
_ أنا آسفة إني مش بقدر أجيلك على طول، أنا بس مش حابة دادي ياخد باله، وبدل ما أقدر أجيلك كل فترة بعيدة معرفش أجيلك خالص.. 

_ والله يعز عليا ادخلك مكان زي دا ونفسي أقولك بطلي تيجي هنا، بس دي المرة دي اللي بتخليني عايش على ما تيجي المرة اللي بعدها.. 
قالها بعيونٍ لامعة وصوتٍ مهزوز، كملِكٍ هزمه أعوانه، كلماته قد أثرت في ڤاليا التي جاهدت لدفن بكائها حتى لا تزيد من آلامه، أخرجت زفرةً طويلة، وتساءلت بترددٍ في حديثها: 
_ آدم إحنا هنعمل إيه بعد ما نخرج من هنا؟ هنواجه دادي إزاي والعيلة عمومًا، إزاي هنقدر نقنعهم باللي إحنا عايزينه؟ 

تقوس ثِغر آدم للجانب مُشكلًا بسمةٍ أسرة تملؤها السعادة وردد بعض كلماتها التي تفوهت بها: 
_ كفاية إنك قولتي نواجه، إحساسي إني مش هكون لوحدي وأنتِ واقفة معايا هيخليني أعمل كل حاجة عشان أقنع أونكل عز.. 

_ الكلام سهل، بس بجد بقى هنعمل إيه؟ 
أردفتها ثم نكست رأسها وحكت وجنتها تمهيدًا لطرح فكرةٍ ترددت في ذهنها، رفعت رأسها وقالتها: 
_ هو أنا عندي فكرة، هي كارثية بس دا الحل اللي هيخليهم يوافقوا من غير اعتراض كتير.. 

بغرابةٍ وفضولٍ حول فِكرتها تساءل آدم بصوتٍ أجش: 
_ فِكرة إيه؟ 

أطالت ڤاليا النظر به مترددة في إخباره بتلك الفكرة الكارثية، لكن ما باليد حيلة، ليس هناك غيرها حتى تجبرهم على قُبول علاقتهما، أخذت شهيقًا وزفرته بقوة ثم أخبرته عنها تحت ذهولٍ من آدم مما تسمعه أذنيه. 

****

وقفت تتفقد هيئتها الرسمية، ثم خرجت من الغرفة بعد أن حملت حقيبتها أعلى كتفها، فتقابلت مع قاسم الذي ابتسم لها وهو يتفقد هيئتها بإعجابٍ مُنعكس في عينيه وهلل قائلًا: 
_ ما شاء الله، ما شاء الله، جمال بنتنا مش عند حد 

أجبرها على رسم الإبتسامة على شفتيها، اقتربت منه زينب وأردفت مُمتنة: 
_ عيونك هي اللي الجميلة يا عمي

أخفضت رأسها ثم أضافت عندما غمرها شعورًا بالعرفان: 
_ وجود حضرتك حقيقي فِرق جدًا في حياتي.. 

نظرت إليه بعيون لامعة وهي تُتابع استرسالها الجميل:
_ أنا لو بنتك حقيقي مش هتدعمني بالشكل دا،. حضرتك بتقدم دعم معنوي ومادي دا غير طبعًا كلمات الغزل اللي بتديني ثقة كبيرة أوي، حقيقي حضرتك ليك فضل كبير عليا وعلى تغير شخصيتي، شكرًا لقدر ربنا الجميل إنه خلى عبدالله وماما الله يرحمها يدخلوك في حياتنا.. أنا اتحرمت من الأب بدري أوي، بس مكنتش أتخيل إن عوض ربنا جميل كدا.. 

كان مُنصتًا لاعترافاتها باهتمامٍ وحبٍ يشع من بؤبؤتيه، وعندما انتهت قام بالإقتراب منها وطبع قُبلةً على جبينها ثم ربتَّ على يدها بحنانٍ مُرددًا: 
_ والله يا زينب يعلم ربنا إني بعتبرك بنتي فعلًا، ومبسوط إن إحساسي وصلك، دا عندي بالدنيا.  

تبادلا كليهما الإبتسامات، ثم تفقد قاسم ساعة يده وحثَّها على التعجُل:
_ يلا عشان منتأخرش على أنس النشار، الراجل دا مواعيده زي الألف ومش بيحب التأخير.. 

أماءت بقبولٍ وسارت بجواره، حتى خرج من البيت واستقلت معه السيارة، ثم تحرك بها قاسم مُتجهًا إلى أحد الشركات التي أخذ من مديرها موعِدًا لعمل مقابلة بينه وبين زينب. 

بعد مدة؛ وصلا إلى مقر الشركة، كانت زينب مُرتبكة تشعر بالضياع، وكأنها مُقبلة على اختبارٍ لأحد المواد المُعقدة، شهيقًا وزفيرًا فعلت وهي واقفة على باب المكتب، تنتظر سماح المساعدة لهما بالدخول. 

_ اتفضلي يا فندم
قالتها المساعدة، فولجت زينب برفقة قاسم الذي رحب به المدير بحفاوةٍ كأنهما أصدقاء مقربان على الرغم من صِغر عمر المدير، فخمنت أنه في أوائل الأربعين من عمره، كان يبدوا عليه الوقار والجاذبية والذوق الرفيع في ملابسه وديكور مكتبه. 

_ أهلًا يا باشمهندس، ليك شوقة والله 
قالها قاسم مُرحبًا فردَّ الآخر بعملية وعينيه مُصوبتان على زينب: 
_ أهلًا يا قاسم بيه، حضرتك نورت الشركة، وأنت كمان واحشني والله، بقالك كتير بعيد عن شغلنا.. 

_ يا راجل، حد يروح لوجع القلب دا برجليه، أنا كفاية عليا كدا أوي 
هتفها قاسم مُبتسمًا فأيد أنس رأسه: 
_ عندك حق والله يا قاسم بيه، الشغل دا تعب أعصاب ووجع قلب، بس نعمل إيه، أكل عيشنا منه.. 

لاحظ قاسم نظرات أنس على زينب بين الحين والآخر وفضَّل أن يُعرفهُما لبعض فأشار بينهما بالتناوب: 
_ أعرفك، زينب بنتي، باشمهندس أنس النشار، أشطر مهندس ممكن تتعاملي معاه.. 

ابتسمت زينب بخفة فرحبَّ بها أنس بحفاوة بالغة:
_ أهلًا يا مدام زينب؟ ولا آنسة، أصل مفيش دبلة تقريبا في ايدك؟ 

تدخل قاسم مـعلقًا:
_ ونسيت أقولك أنه لماح جدًا وأي معلومة عايز يعرفها بيعرفها بشطارة.. 

ضحك أنس باعتزازٍ وهلل مُمازحًا قاسم:
_ أقل حاجة عندي يا قاسم بيه.. 

ثم وجه بصره على زينب وشد ملامحه باستياءٍ قبل بأن يردف: 
_ وبعدين بقى، أنتِ مش ناوية تسمعينا صوتك ولا إيه؟ 

_ أهلًا بحضرتك يا باشمهندس 
قالتها زينب بنبرة جاهدت فيها على إخفاء توترها، فهلل الآخر: 
_ اتفضلوا يا جماعة، أنتوا وافقين ليه؟ 

جلس الثلاثة فرفع أنس سماعة الهاتف التي تعلو المكتب وتناوب بنظره بينهما مُتسائلًا باهتمامٍ: 
_ الأول تشربوا إيه؟ 

رفضا كليهما في البداية لكن تحت إصرارٍ منه وافقوه وقاموا بطلب القهوة، ثم دار حوارًا طويلًا بين أنس وزينب عن العمل فوجدها مُلِمة بكل ما يخُص العمل، كما أنها كانت مُتَمكنة في الحديث والتحاور بلباكة، فازداد أنس إعجابًا بذكائها. 

فهب واقفًا فجأة ومد يده نحوها مُبتسمًا بجاذبية قبل أن يَهتُف بترحيب: 
_ أهلًا بيكي معانا في الشركة يا... مقولتيش برده مدام ولا آنسة.. 

_ منفصلة.. 
قالتها زينب بِخِزي واضح، فانفرجت شفاه أنس وهو يردد:
_ بصرة، طِلعنا زي بعض.. حيث كدا يبقى أهلًا بيكي في الشركة يا أستاذة زينب..

نظرت زينب إلى يده الممدودة، فلم تود مصافحته، لكنها لم تستطع رفضه، فمدَّت يدها تُبادله المصافحة، فشد أنس على يدها وتحسسها بنعومة جعلتها تُنفر منه وتُعيد يدها إلى جانبها سريعًا وعينيها لم تَكُف عن إيلامه بنظراتها المتعجبة من أمره. 

بينما عاد أنس إلى كُرسيه وأخذ يتسامر مع قاسم حول ما وصل إليه العمل في الآونة الأخيرة مُشركًا زينب معهما بين الحين والآخر تحت تعجبٍ ودهشةً كبيرة من زينب. 

***

نفذ منها مخزون النوم اليوم، تململت بكسلٍ في الفراش، ثم فتَّحت عينيها ببطءٍ ونتبهت على الغرفة التي تمكُث بها، تفقدت جوارها فلم تجده، فانتفضت مذعورة باحثة عنه. 

وعندما خرجت من الغرفة تسلل إليها صوت غِنائه الصادر من المطبخ، فهدأت نبضات قلبها وأخرجت زفرةً حاملة خوفها، ثم توجهت إليه ودون أن يَشعُر بها قامت باحتضان ظهره مُحاوطه خَصرِه بذراعيها وهتفت بصوتٍ ما زال به أثرًا للنعاس: 
_ صباح الخير 

ابتسم عبدالله على الرغم من تفاجُئه بها، أمسك يديها المُحاوطة له واستدار بجسده ثم وضع يدها أعلى كتفيه فتعلَّقت بِعُنقه تلقائيًا عندما حاوطها عبدالله وأدخلها إلى صدره وأخذ يَشُم عبير الذكي هاتفًا بلوعةٍ: 
_ صباح النور والسرور والورد والبنور وكل حاجة حلوة على عيونك 

تراجع قليلًا لينعم برؤى خُضرة عينيها الفاتنة، مُداعبًا أنفها بأنفه وقال سؤاله: 
_ نمتي كويس.. 

أماءت صبا، ثم ابتعدت عنه مُتفقدة ما يفعله:
_ أنت كنت بتعمل إيه؟ 

التفت عبدالله وأشار إلى الطاولة الرخامية موضحًا: 
_ كنت بعمل فطار لأحلى دكترة اتجوزتها.. 

تقوست شفتيها للجانب وشكلت بسمةً عذبة خجولة بها شعورٍ من الاعتزاز لغزله بها، سحبت قطعة دائرية من الخيارة المُقطع وأردفت سؤالها:
_ ممم، طب وكنت بتغني إيه بقى؟ 

أخبرها عبدالله وهو يُدندن: 
_ نعناع الجنينة المسقي في حيضانه
شجر الموز طرح ضلل على عيدانه

توقفت صبا عند كلماته وقالت بعينين واسعتين: 
_ أنت قولت نعناع الجنينة ماله؟ 

_ مسقي في حيضانه
أعاد قولها فرددتها صبا مذهولة: 
_ مسقي في حيضانه!! هي بتتقال كدا؟ 
انا عمري ما قدرت أفهم هو بيقول إيه

قهقه عبدالله ثم أردف: 
_ على فكرة وأنا كمان مكنتش بفهم بيقول إيه، طب تعرفي الحتة بتاعت في عشق البنات أنا فوقت نابي اليوم كنت بسمعها أنا فوقت نابليون، ومكنتش فاهم إيه علاقة نابليون بمحمد منير؟! 

انفجرت صبا ضاحكة مُرددة من بين ضحكها: 
_ والله وأنا كمان كنت بسمعها نابليون.. 

شاركها عبدالله ضحك واستأنف حديثه: 
_ طب عارفة هشام عبدالله كان له أغنية آه من خدودوه وعوده وصوته وضحكته، كنت بسمعها آه من دودو ولودوا وسوسو ونِحمِدُه 

انفجرا كليهما ضاحكين بينما هتفت صبا بغير تصديق: 
_ نِحمِدُه!! هموت 

أنهتها ودخلت في نوبةٍ ضحك هيستيريا، ثم تذكرت شيئًا فقالته: 
_ زي الأغنية بتاعت صفاء أبو السعود لما كانت بتقول سَعِدنا بيها، كنت بسمعها سعد نبيها، مين سعد وايه علاقته بالعيد مش عارفة 

_ تقريبًا كلنا كنا بنسمعها كدا 
قالها عبدالله ثم أسقط عينيه على قميصها الذي يشف بعضًا من جسدها فانتبهت صبا على حالتها، كيف لم ترتدي روبها؟ رفعت يدها في حركة غير مباشرة خافية جسدها به ثم انسحبت مُعللة: 
_ هروح اجهز شنط السفر على ما تخلص، وبعدين نكمل سوا بعد ما نفطر.. 

أماء الآخر بقبولٍ فانصرفت سريعا بينما تابع هو إعداد الفطور حتى فرغ منه فتوجه إلى الخارج وناداها: 
_ صبا، تعالي يلا... 

خرجت من الغرفة وتوجهت نحوه، وقد لاحظ عبدالله تبديل ملابسها ببيجامةٍ قطنية مريحة، لكنه لم يُعلق، فلتكن على راحتها، جلسا يتناولان الفطور حتى انتهوا فنهضت صبا ومدَّت له يدها قائلة برقة:
_ يلا قوم عشان نحضر الشنط، عشان لو فيه حاجة ناقصة نلحق نجهزها.. 

نهض عبدالله بمفرده دون أن يمسك بيدها، ثم أبعد يدها الممدودة عنه تحت تعجبٍ من صبا لتصرفه المريب، وقبل أن تتساءل ماذا به كان قد أحاط خصرِها بذراعيه وحملها، فابتسمت صبا بعفوية. 

وتقابلت أعينهم معًا فغمزها عبدالله وشاكسها: 
_ يلا نجهز الشنط..

توجه ناحية الغرفة ثم أنزلها فبدأت صبا في الحال تجميع كل ما يلزمها، بينما استلقى عبدالله على الفراش وعينيه تتبعان تحرُكات صبا التي انتبهت عليه فتوقفت عما تفعل، واضعة يديها في منتصف خَصرِها هاتفة بحنقٍ مُصطنع: 
_ أنت ناوي تقضيها فُرجة بس؟! 

_ حضري اللي أنتِ عايزاه هناك، أنا كدا كدا مش عايز غيرك!
قالها عبدالله وهو يسْكُب الغزل بين الحروف، كأن كلماته قُدت من شغفه، في المقابل؛ توجهت نحوه صبا وعانقته بقوة مُرددة بحبٍ طاغي في نبرتها:
_ بحبك والله

ثم تراجعت وقامت بالإستلقاء جواره مستأنفة حديثها: 
_ يلا وأنا كمان مش هعمل حاجة، كفاية إنك معايا

سكون حل للحظاتٍ قبل أن ينتقض عبدالله من مكانه، وهتف وهو يُرغمها على الوقوف: 
_ قومي، المُحن دا مش هينفعنا هناك.. 

قهقهت صبا ثم وقفا كليهما إلى جانب بعض يُجهزا حقائبهم وكل ما يلزم السفر، وبعد مدةٍ ليست بقصيرة، توقفت صبا عما تفعل ثم نظرت إلى يسارِها حيث يقف عبدالله وهتفت بكللٍ:
_ عبدالله، أنا مش متخيلة إننا هنقعد ١٥ ساعة على ما نوصل بالي!! 

_ وممكن توصل لـ ١٧ يا حبيبي! 
قالها وهو يُتابع وضع ملابسه في الحقيبة فشهقت صبا بصدمةٍ وصاحت:
_ أنت أكيد بتهزر، ١٧ ساعة إزاي يعني؟ كل الوقت دا هنعمل فيه إيه؟ 
إحنا حرفيًا هنوصل مقتولين.. 

توقف عبدالله عما يفعله وانتصب في وقوفه ثم نظر إليها قبل أن يُردف: 
_ والله أنا قولت لابويا عايز أروح مكان بعيد مفيش فيه غيري أنا وصبا والبحر، قام حجزنا في بالي، إيه بالي دي أصلًا أنا مش عارف في أنهي قارة 
هتفها ثم قهقه ضاحكًا واستأنف وهو يجذب صبا من خصرِها ويُقربها منه: 
_ بس مش مهم، المهم إننا هنكون مع بعض 

_ أكيد طبعًا المهم إننا هنكون مع بعض، بس فِكرة السفر كل المدة دي مُقلقة، عبدالله أنا بدوخ لو قعدت في المواصلات ساعة 
أخبرته سبب انزعاجها، فتراجع عبدالله للخلف بعدا أن أزاح يده عنها وقال: 
_ علقة، بِجملة الطحن اللي اطحناه الشهور اللي فاتت، على الأقل دي علقة بعدها هنتراضى.. 

ابتسمت له ووافقته الرأى مُعقبة: 
_ عندك حق.. 

ثم واصلت ما تفعله بحيوية ونشاط قد اكتسبته من كلمات عبدالله المشجعة. 

***

بعد مرور أربعة وعشرون ساعة؛ وصلا عبدالله وصبا بعد رحلةٍ شاقة مُتعبة دامت لسبعة عشر ساعة، كانت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل بتوقيت اندونيسيا، وقفت السيارة عند مدخل الشاليه، نظر عبدالله إلى صباه فوجدها قد غفت والتعب مُشكلًا على تقاسيمها المُجهدة. 

ترجل من السيارة لِيُساعد السائق في تنزيل الحقائب ثم توجه ناحية باب صبا وقام بفتحه مُناديًا عليها بخفوت: 
_ صبا، حبيبي قومي إحنا وصلنا.. 

استفاقت بتعبٍ مُسيطرًا على جفونها ويُرغمها على النُعاس مجددًا فهمست بنبرة بالكاد فمهما عبدالله: 
_ مش قادرة أفتح عيني، تعبانة..

زفر عبدالله أنفاسه، ثم اعتدل في وقوفه وأخذ يُفكر ما الذي سيفعله معها، وبعد مرور ثانيتين التفت وتفقد الشاليه، توجه إليه وقام بفتح الباب ثم عاد بادراجه حيث صبا، حملها بين ذراعيه بصعوبة قابلها وهو يُخرجها من السيارة، ثم ولج بها الشاليه باحثًا عن الفراش. 

وما أن وجده توجه نحوه مُسرعًا ووضعها برفقٍ ثم وقف يلتقط أنفاسه، حتى وقعت عينيه على الباب الذي تركه مفتوحًا، فتوجه ناحيته وقام بغلقه بعد أن أدخل الحقائب إلى الداخل. 

مشى باتجاه الفراش ثم ألقى بجسده أعلاه، مُتفقدًا السقف برؤى تشوشت تدريجيًا حتى أُظْلِمت رؤياه تمامًا وبات هو أيضًا في ثُباتٍ عميق. 

بزغ الفجر فارتفع صوت زقزقة العصافير وتُطايُر أوراق الأشجار الذي هب نسيمه في المكان، قلق عبدالله عندما لفح وجهه نسمة هواء باردة، نظر إلى جانبيه فلم يجد صبا، دب الرعب أوصاله ونهض بذعرٍ أصابه باحثًا عنها في الأرجاء. 

حتى وقعت عينيه على الباب الآخر للشاليه، كان مفتوحًا فتوجه نحوه وإذا بها واقفة في الخارج تُشاهد هذه المنظر البديع، مياه البحر كأنها زمردٍ صافٍ، تتدرج ألوانها بين الأزرق الفاتح والعميق. 

تتلألأ تحت شمسٍ دافئة قد سطعت للتو، اقترب منها عبدالله وقام باحتضانها من الخلف، فمالت صبا برأسها على رأسه مستمتعين بالنسيم الرطب الذي يحمل معه عبير الزهور الإستوائية، تتراقص النخيل على وقع الريح ويعلو الأمواج في انسجامٍ مع صوت الطيور البعيدة التي تُحلق عاليًا في زُرقة السماء التي بها غيَّمات بيضاء من السحاب. 

كانت الطبيعة خلابة كأنها تتنفس وتعزف على لحن الهدوء والسكينة، أضفت على قلوبهما الطمأنينة، فالتفتت صبا إلى عبدالله وهمست: 
_ إيه الجمال دا؟ 

_ مش قولتلك هنتراضى في الآخر.. 
هتفها فابتسمت بعذوبة وأردفت برقةٍ أنثوية لا تعهدها كثيرًا: 
_ الجو حلو ومريح لدرجة إني عايزة أفضل في حضنك ومبعدش خالص.. 

_ وماله، ما إحنا جاين عشان تفضلي في حضني.. 
همسها عبدالله وهو يُعيدها داخل صدره، بينما استكانت صبا بين أضلعه، مرت ثوان قليلة حتى اجتاح كليهما مشاعرٍ خاصة، فشعر عبدالله بامتلاكه لفرصة ثمينة وعليه تجربة حظه تلك المرة. 

أمسك ذقنها رافعًا وجهها فنظرت إليه بخضراويها 
اللامعتان، فخفق قلب عبدالله لحظتها ولم يشعر بنفسه سوى وهو يُقبلها بنهمٍ، ثم عاد إليه رشده وتعامل بلطافةٍ حتى لا يُخيفها، هو يريدها مُستكينة إلى النهاية. 

تراجع للخلف مُجبرها على السير معه حتى دخلا إلى الشاليه فقام عبدالله بغلق الباب بيده الموضوعة خلف صبا، التي جاهدت نفسها لتقبُل الأمر، كان جِهادًا عظيم أن لا تجعل تلك النوبة تُسيطر عليها مُطمئِنة قلبها ببعث الكلمات التي همست بهم داخلها لتكون أكثر قوة، حتى مر الأمر مرار الكرام وغدت له حلالًا في السر والعلن. 

*** 

أسبق زكريا بِخُطاه إلى الخارج حاملًا بعض الحقائب في يده وبعضها على ظهره، وقف أمام الباب ونادى بصوتٍ جهوري: 
_ يلا يا ليلى، عشان منتأخرش على الأتوبيس.. 

جاءه ردها وهي تقترب منه من بين أنفاسها المتلاحقة: 
_ أنا جيت خلاص.. 

أوصدت الباب بإحكامٍ ثم ترجلا السُلم فتقابلا مع وليد الذي عبس في وجه زكريا وصاح بِحنقٍ واستياء: 
_ واحد مسافر لي شهر عسل والتاني رايح دهب وإلبس يا وليد 

_ خلينا ندلع شوية يا أبو نسب، ولما يجي دورك، وعد هسيبك براحتك، من يوم ل أسبوع.. 
قالها مُشاكِسَهُ، فتشدق وليد ساخرًا ثم صاح بإنكارٍ: 
_ مش لو كانت أختك وافقت على الجواز كان زماني مسافر أنا كمان، وقفت لي زي العُقدة في المِنشار الله يجازيها خير بقى.. 

آمال زكريا فمه بإستهجانٍ وصاح في وجهه: 
_ يا جدع كفاية هنولع وإحنا في الطريق.. 

ثم أرسل إليه قُبلةً في الهواء وغمزه وهو يهتُف:
_ سلام يا ليدو، هبقى ابعتلك صورنا هناك.. 

قهقه زكريا وشاركته ليلى الضحك ثم استنكرت ما يفعلاه وصاحت معترضة: 
_ كفاية كدا يا زكريا بجد عيب، يلا نمشي.. 

_ أيوا يلا يا حبيبتي عشان متأخرش أكتر من كدا 
قالها مُتعمدًا ليثير استفزاز وليد الذي حدجه بنظراتٍ مشتعلة، بينما لكزته ليلى وتمتمت:
_ خلاص بقى.. 

لم يُطيل زكريا ومر بجوار وليد بعد أن أشار إليه مُودعًا، بينما وقفت ليلى مُقابله وأردفت بمشاعرٍ أنثوية متفهمة أمره:
_ هانت، وإن شاءالله تعيشوا أحلى أوقات مع بعض 

ابتسم وليد وقال بلطفٍ: 
_ إن شاء الله، وبعدين إحنا بنهزر إوعي تفكري الحركات دي بجد.. إحنا عمرنا نضايق من بعض أبدًا إحنا بنحقد بس..

هتف آخر جُملته بمزاحٍ فقهقت ليلى ثم انتبهت على نِداء زكريا فودعت وليد وترجلت السلم خلفه مهرولة، وبعد وقتٍ طويل أنهكتهم المسافات، وتناوبت المناظر على نوافذ الحافلة، توقفت أخيرًا أمام الفندق المحجوز للرحلة، هدأ صوت المحرك فتنفس الجميع الصعداء فلقد أصابهم الصداع من خلف ذلك الصوت المزعج. 

ترجل زكريا برفقة ليلة وولجا الفندق ثم إلى غرفهتما، وقفت ليلى في منتصف الغرفة تترنح وكأن المكان يدور من حولها وهتفت: 
_ أنا مش كويسة، الأتوبيس دوخني، حاسة إن معدتي مقلوبة وعايزة أرجع... 

اقترب منها زكريا وأردف ببعض القلق:
_ لا ترجيع ودوخة إيه بس، دا إحنا لسه واصلين.. طب تعالي نامي شوية يمكن تصحي كويسة.. 

أماءت ليلى بقبولٍ، فهي تشعر بحاجتها المُلحة إلى النوم وقالت: 
_ أيوا ياريت ننام، لو فضلت واقفة ثانية كمان هقع من طولي...

ساعدها زكريا للوصول إلى الفراش، فتمددت هي بعد أن خلعت حجابها وقررت النوم بملابسها فلم تتحلى بالقدرة لتبديلهم، بينما ظل زكريا متابعًا لها حتى غفت ثم تغلب عليه النوم بتعبٍ. 

*** 

كان يُداعب خُصلاتها الشاردة، ويتفقد معالم وجهها من آنٍ لآخر فيجدها ساكنه فيطمئن قلبه، أخرج تنيهدة حارة بغير تصديقٍ لما تراه عينيه، ها هي حبيبته نائمة على صدره لطالما تمنى لمسة من يدها وكلمة حب تخرُج من شفتيها، حقًا ذلك كثير للغاية.. 

استفاقت صبا على نظراته التي تتطلعان بها، فتساءلت وهي تتفقد المكان من حولها: 
_ إيه دا أنا نمت إزاي، محستش بنفسي، آخر حاجة فكراها لما... 

صمتت من تِلقاء نفسها عندما أعادت إليها ذاكرتها بعض الذكريات التي خجلت في قولهم، فانكمشت على نفسها عندما أدركت ما هما عليه، وبسلاسة سحبت الغِطاء أعلى وجهها حتى لما يعُد يظهر منها شيء.

فتفاجئت به يتسلل أسفل الغِطاء وقال سؤاله من شفتيه المبتسمة: 
_ مكسوفة مني؟ 

أغمضت عينيها وأجابت بأنفاسٍ لاهثة:
_ مش متخيلة اللي وصلناله!!

أزاح عبدالله الغِطاء عنهما وقال بصوتٍ رخيم:
_ والله أنا خوفت أنام أصل أصحى ألاقيكي مش جنبي وكل اللي أنا عايشُه دا يطلع حلم!  

أعادت صبا فتح عينيها ورمقته بنظراتٍ لامعة ثم اعتدلت في جلستها وقالت وهي تتحسس وجهه: 
_ قد كدا بتخاف على بُعدي؟ 
أومال أنا هروح شغلي بعد كدا إزاي؟ وأنت كمان هتنزل شغلك إزاي؟ 

_ ربنا يرزقني الصبر الوقت اللي هنبعده دا.. 
قالها بعد أن تنهد بعمقٍ، فضحكت صبا وأردفت ظنونها: 
_ بصراحة توقعت تقولي معتش فيه شغل، بس أنت فاجئتني.. 

قلب عبدالله عينيه ثم حدق بالسقف وهو يجذبها إلى صدره فمالت هي تلقائيًا عليه ثم تمتم:
_ شُغلك مهم وإني أقولك اقعدي يبقى بظلمك، لكن أنتِ لو عايزة تقعدي فيا مراحب.. 

ثم أسقط بصره عليها واستأنف مُتسائلًا:
_ ممم طب لو أنا كنت قولتلك اقعدي، كنتي هتقبلي؟ 

رفعت رأسها لِتُقَابل عينيه وأجابته وهو تهُز برأسها  يمينًا ويسارًا: 
_ تؤ، كل اللي هتقولي عليه هيتنفذ بعد كدا.. 

أمال عبدالله ثِغره للجانب مُشكلًا بسمةٍ واثقة قبل أن يردُف بعجرفةٍ: 
_ لا خِفي شوية، أصل تفتكر إني سي السيد ولا حاجة.. 

_ أنت سيد الرجالة كلهم، وسيد قلبي كمان! 
همست بها  وهي تُقبِله في رقةٍ، فشدَّ عبدالله على ذِراعها يضمها إليه بقوةٍ كما لو باستطاعته إدخالها
بجوار قلبه، نهض فجأة فتساءلت صبا عن السبب:
_ قومت فجأة كدا ليه؟ 

ردَّ وهو يُرغِمها على الوقوف: 
_ قومي.. إلبسي أي حاجة تنفع للبحر.. 

انتعش داخلها عندما استمعت إلى طلبه، ولم تقف طويلًا، بل توجهت إلى الحقائب وقامت بإخراج لِباس السباحة وارتدته سريعًا، تحت نظرات عبدالله المذهُولة، وقفت أمامه بحيوية وقالت وهي تحثهُ على التعجُل:
_ يلا نخرج

أبدى عبدالله رفضه وهو يتفقد ذلك الزِي الذي يشف بعضًا من معالم جسدها:
_ نخرج فين بالمنظر دا، أنتِ هتخرجي كدا؟ 

_ أنت مش قولت بين كل فيلا والتانية يجي ٢٠ متر عشان نكون على راحتنا؟! 
قالتها فصاح الآخر: 
_ حبيبتي إحنا في نص البحر يعني مفيش لا سقف ولا حيطان مدارية، ظاهرين لأي حد مهما كانت المسافة.. 

عبِست ملامح صبا، وأردفت بنبرةٍ انعكس بها الحزن:
_ أنا اشتريته مخصوص عشان تنزل بيه.. خلاص مش مهم

أولته ظهرها وكادت تخلعه لكنه لحق بها وقال: 
_ استنى..

قالها ثم توجه إلى الخارج وتفقد المكان، فكان مفتوحًا وحتما سيكونان فريسة للناظرين، هز رأسه رافضًا وهو في طريق عودته انتبه على المِسبح الذي يحاوطه النخيل المُنحني رأسه ويظلِل عليه، فشعر بالرضاء لهذا. 

عاد للداخل ودون أن تتوقع فِعلته قام بحملها وخرج راكضًا ثم قفز وسقط في المِسبح، غاص جسدهما إلى الأسفل ثم طفا إلى السطح فأخذت صبا تتنفس الهواء وهي تُلوح بيدها في الماء حتى لا تسقُط ثانيةً. 

وعندما استطاعت التقاط أنفاسها ظلت تضرُب الماء بتمردٍ وهي تُصيح مُعاتِبة: 
_ حرام عليك قلبي هيقف 

اقترب منها عبدالله مُرددًا بضحكة ماكرة: 
_ سلامة قلبك

بينما رُفِع حاجبي صبا بانزعاج وهتفت: 
_ بجد؟ طب استحمل بقى 

وما أن أنهتها حتى بدأت تُجمع أكبر قدر من الماء بيدها وتنثُره أعلاه، فهرب عبدالله بعيدًا عنها لكنها لم تتوقف وسبِحَت خلفه وهي تُواصل فِعلتها حتى صرخ عبدالله نادِمًا: 
_ كفاية، خلاص حرمت...

توقفت صبا فجأة وتفقدت السماء عندما شعرت بالضوء قد خفت فجأة، فرأت الغيوم الرمادية تزحف في السماء، ظلت تنظر إليها وكأنها تنتظر شيئٍا ثم في لحظةٍ خاطفة انهمرت الأمطار بغزارة، فشهقت صبا عاليًا ثم رفعت رأسها محاولة 
منع تساقط الماء على خُصلاتها، لكن هيهات لِشدة المطر الذي بلل كل شيءٍ حولهما.

أسرع عبدالله نحوها قائلًا وعينيه بالكاد يستيطع فتحهما: 
_ يلا نطلع بسرعة.. 

ساعدها على الخروج من المِسبح، وأسرعوا إلى الداخل، فصاحت صبا من بين أسنانها التي ترتجفان بشدة:
_ إيه اللي حصل دا، إزاي الجو يكون حر كدا وفجأة يقلب بالشكل دا.. 

_ تعالي بس الأول عشان متبرديش، بدلي الهدوم المبلولة دي.. 
هتفها عبدالله بِشفاه باردة بالكاد يستطيع التحكم بهما، بدلا كليهما ملابسهما ثم توجه عبدالله إلى مِدفأة الحطب وقد أشعلها ثم وضع وسادتين أمامها ونادى صبا التي أحضرت كوبان من المشروبات الساخنة وغِطاء ثقيل، ثم جلسا كليهما بجوار بعض، وقد أحاط عبدالله كتفيهما بالغِطاء وأخذا يحتسيان المشروب حتى دفء جوفهما. 

حينذاك أحاط عبدالله ظهر صبا بذراعه فمالت برأسها مستندة على كتفه، سكون عمَّ المكان وهما يُشاهدان إتقاد النيران، حتى قطعت ذلك الصمت صبا بقولها:
_ ما تغنيلي.. 

ابتسم عبدالله فشجعته صبا:
_ يلا يا بودي.. 

فكر قليلًا حتى راودته كلمات إحدى الأغنيات فدندنها: 
_ ياما عيون شاغلوني، شاغلوني لكن ولا شغلوني
إلا عُيونك إنت دول بس اللي خدوني، خدوني
وبحُبك أمروني
أمروني أحب لقيتني بحب
لقيتني بحب وأدوب في الحب
وأظوب في الحب وصبح وليل، وليل على بابه

نظر إليها فوجدها تتطلع به بعينين يلمع فيهما الدِفء، وكأنهما يهمسان بما تعجز في نُطقِه، نظراتها هادئة، مُطمئِنة، كأنها وجدت في ملامحه وطنًا بعد تِيهٍ. 

ابتسمت بِخفة، وأخرجت زفرة مُلوعة فانحنى عبدالله على ثِغرها وقَبله برقةٍ ثم تراجع للخلف وأردف بخفوت:
_ أنا آسف إني بقطع اللحظة دي، بس أنا ميت من الجوع.. 

ابتسمت له، ثم أشارت إلى عينيها مُرددة بِترحاب: 
_ من عنيا الإتنين

بادلها عبدالله الإبتسام، ثم انحنى على عيونها وطبع قُبلتان على كل واحدة قُبلة، فنهضت صبا على الرحب لتحضر لهما طعامًا يُشبع معدتهما، بينما نهض عبدالله وبحث عن هاتفه ليُراسل أبيه وشقيقته حتى يطمئن عليهما. 

ثم تفحص الفيس بوك خاصته، وظل يتنقل بين الصُفح ليتطلع على الجديد، حتى قابله إعلان مُمولًا جعله جاحظ العينين وهو يقرأه، هب واقفًا وقفز في الهواء بسعادةٍ دقت طُبول قلبه، عادت صبا إليه بعد أن أحضرت بعض الشطائر، فوجدته مسرُورًا. 

ابتسمت بعفوية وتساءلت بلهفةٍ يشُوبها الفضول: 
_ إيه الفرحة دي، فرحني معاك.. 

فقام عبدالله بإدارة الهاتف في وجهها والإبتسامة تكاد تصل إلى أذنيه هاتفًا بحماسٍ: 
_ شوفتي لقيت تذاكر لحفلة مين؟!!

برقت عيني صبا بغير تصديقٍ وتساءلت مستفسرة: 
_ وبعدين؟ 

_ وبعدين؟! هو دا سؤال، أنا هحجز اتنين لينا طبعًا...
قالها وهو يدور في المكان حول نفسه من فرط الحماسة المُتدفقة في ادرينالينه، فرددت صبا وهي تلقُف منه الهاتف تتأكد مما قرأته:
_ بس دا في لبنان، والحفلة بكرة، إحنا لسه هنسافر تاني؟ 

_ وتالت ورابع، أنتِ بتهزري يا صبا أنا لا يمكن أفوت الفرصة دي.. 
هتفها ثم التقط الهاتف من بين يديها باحثًا عن كيفية حجز تلك التذاكر قبل أن تنفذ مُتناسيًا أمر جوعه. 

***

في اليوم التالي؛ استيقظ زكريا اثر صوتٍ اخترق أُذنيه، انتفض مذعورًا وبحث بعينه عن مصدره، حتى تعرف عليه وعرف أنه يعود إلى ليلى فأسرع نحوها بقلقٍ مُسيطرًا عليه. 

وقف أمام باب المرحاض وتساءل بتوجسٍ وصوته يُغلفه النعاس: 
_ في إيه مالك؟ 

_ مش قادرة.. معدتي مقلوبة..
همست بهم وعاوت القيء من جديد، فصاح زكريا: 
_ أنتِ لسه تعبانة من امبارح؟ 

حركت رأسها بتأكيدٍ فلم تستطع الرد عليه، فقال: 
_ أنا هنزل أشوف أي صيدلية هنا أجيب لك منها أي حاجة بدل اللي أنتِ فيه دا...

أنهى جُملته ثم أولاها ظهره وخرج من الغرفة سريعًا ليأتي لها بالدواء حتى تتحسن حالتها، بينما توقفت ليلى فجأة وكأن كلامه قد أنار إليها شيئًا، فخرجت من المِرحاض وبحثت عن هاتفها ثم تفقدت التاريخ وحينذاك نظرت أمامها بذهولٍ 

ثم ارتجف داخلها فجأة، وأسرعت بِخُطى مُتعثِرة نحو إحدى الحقائب وقامت بالبحث عن شيءٍ حتى ظهر أمامها ذلك الإختبار الذي لازمها منذ عودتها إلى زكريا.. 

عادت إلى المرحاض وقامت بفعل بما يلزم لعمل الإختبار؛ ووقفت تترقب النتيجة بقلبٍ ينبُض بقوة، لحظاتٍ مرَّت عليها كأنها أعوام، تنتظر الإجابة بلهفةٍ وقلق حتى ظهرت أمامها نتيجة ما كانت تخشاه وترجُوه في آنٍ واحد. 

اتسعت حدقتيها ورُفعت يدها على فمها في حركة لا إرادية، ثم انتبهت على عودة زكريا فأخفت الإختبار سريعًا وخرجت مُتفقدة إياه، فأعطاه زكريا كيس بلاستيكي وأخبرها عن محتواه:
_ دا دوا للدوخة، خدي منه واحدة وهتبقي كويسة.. 

أماءت ليلى بقبولٍ، بينما جلس زكريا في انتظار مجيئها، وبعد مدة سألها باهتمامٍ: 
_ بقيتي أحسن؟ 

أماءت ليلى، فتنهد زكريا براحة وأردف:
_ خير، طب قومي غيري هدومك لما ننزل نفطر تحت...

وعلى الرغم من عدم قُدرتها على النزول لكنها لم تعترض فكانت هي صاحبة فكرة المجيء إلى هنا، بدلت ملابسها ثم ترجلا معًا وحظيا بفطورٍ شهي أمام الطبيعة الخلابة. 

قضا اليوم بين رحلاتٍ في البحر وبين جولة صحراوية بالمركبة الرملية وفي نهاية اليوم، جلسوا في دائرة حول النار يُغَنّون ويضحكون في سهرةٍ بدويةٍ تحت السماء، كانت الأغنية لميادة الحناوي "أنا بعشقك" 

تناغمت الأصوات بانسجامٍ عجيب، فكانت القلوب تُنصت لهم قبل الأذنين من خلف تناسُق نغمة أصواتهم العذبة، كانت ليلى تتمايل بسعادةٍ ودِفء شعرت بهم خلال تلك السهرة، وكذلك زكريا الذي اُدخل السرور إلى قلبه وهتف: 
_ القاعدة دي محتاجة عبدالله، ميادة دي حبيبته 

سحب هاتفه من جيبه وقال:
_ هحاول أكلمه، بس يارب يكون فيه شبكة.. 

حاول زكريا مِرارًا الإتصال على عبدالله، لكن الشبكة لم تسعفه، فقرر النهوض والسير حول الدائرة التي يجلسون فيها لربما يلتقط إشارة، وبعد سيرٍ لمدة نجح زكريا في الإتصال عليه. 

ظهرت صورة عبدالله بعد قليل على شاشة هاتف زكريا والعكس حيث انعكست صورة زكريا لعبدالله، ابتسما الإثنين وبادر زكريا بالحديث: 
_ يا عريس واحشني

ابتسم له عبدالله وردَّ بمزاجٍ سوي: 
_ وأنت كمان يا حبيبي والله، أنت فين كدا؟ 

كانت الإشارة ضعيفة تلقط حينًا وتغيب حينًا أخر، وعندما التقطت مرة أخرى أجابه زكريا: 
_ في دهب، فيه قاعدة هنا إنما إيه تستهلك، من اللي قلبك بيحبها، بص كدا.. 

قالها وقام بالضغط على الكاميرا الخلفية، فظهر لعبدالله صورة الحلقة وغِنائهم ثم صدح صوت زكريا من الخلف: 
_ بيغنوا لحبيبتك هنا، مش كنت جيت دهب أحسن لك... 

_ زكريا يا حبيبي لِف الكاميرا كدا.. 
أردفها عبدالله، فامتثل زكريا لأمره وأدار الكاميرا الأمامية، بينما عكس الآخر كاميرته ليظهر المسرح أمامه على بُعد مسافةٍ قريبة منه تتوسطه ميادة الحناوي التي تُرحب بجمهورها. 

فغر زكريا فاهه مذهولًا وصاح عاليًا دون تصديقٍ: 
_ يا جدع!! 

قهقه عبدالله وغمزه قبل أن يردُف باستعلاء: 
_ روح للتقليد بتاعك يا حبيبي، وسيبني أنا مع الأصل 

_ يا أخي حقك والله، يا بختك 
هتفها زكريا فلم يُطيل عبدالله الإتصال وأشار إليه مودعًا: 
_ باي باي يا زيكو، هروح أنا استمتع بقى مباشر

أشار إليه زكريا مُودعًا وعاد إلى مكانه والدهشة دون غيرها مُسيطرة عليه، كان يضحك تارة ويُتمتم بالكلمات المدهوشة تارة أخرى، ثم أدار رأسه لِيُخبر ليلى من بين ضحكه: 
_ شوفتي عبدالله....

لم يكاد يُنْهِيها بعد حتى تفاجئ بذلك الإختبار الذي وُضع أمامه فلم يستوعب حقيقته حتى صرَّحت ليلى بنبرةٍ مُفعمة بالحيوية:
_ أنا حامل يا زيكو!! 

انعكست ملامح الدهشة على وجهه، أخذ وقتًا يستوعب فيه ما وقع على مسامِعه، شعر لوهلة أنه لم يُدرك تلك الكلمة، خفق قلبه بقوة وهو يتساءل بتوجسٍ خشية أن تتراجع عن ذلك الخبر: 
_ قولي واللَّه

_ واللَّه 
أقسمت ليلى بعيون لامعة ثم انهمرت دموعها بمشاعرٍ مُختلطة وتأثرٍ شديد لتلك اللحظة الثمينة،
فقابلها زكريا ببكاءٍ قد فاجئها، ثم ضمها إلى صدره بقوة مُرددًا برضاء وامتنان: 
_ الحمدللَّه، الحمداللَّه 

تراجع للخلف وقابل عينيها اللمعتان مُتسائلّا بصوتٍ متحشرج إثر بكائه: 
_ كنت خايف ربنا يعاقبني أوي.. 

وما أن قالها حتى أعادها إلى حضنه مرةً أخرى وأجهش باكيًا وهو ينظر إلى السماء مُناجيًا ربه: 
_ شكرًا يارب، شكرًا إنك فتحت لي بابك ومعاقبتنيش بذنبي اللي عملته.. 

شدَّ على ظهر ليلى ثم أبعدها قليلّا، وقد تحولت دموعه إلى ابتسامات آسِرة لا يُصدق عقلها ذلك الخبر، نهض وقال: 
_ قومي نِرجع الفندق.. 

ساعدها على النهوض، ثم توجها إلى أحد السيارات، وتولى زكريا الحديث مع سائقها: 
_ معلش يا عمنا ترجعنا الفندق، المدام تعبانة ومش قادرة تقعد أكتر من كدا.. 

وبعد إلحاحٍ من زكريا وافق السائق، وأعادهما إلى الفندق، كانت ليلى متعجبة من أمر سُرعته في العودة إلى الغرفة، وما أن بلغاها حتى ترك زكريا يدها وهرول إلى المرحاض وتوضأ ثم خرج وشرع في أداء ركعتان شُكر وامتنان لله على كرمه ولُطفه أقداره. 

بينما وقفت ليلى تُراقبه في سعادةٍ غمرت قلبه، فكانت ردة فِعله جميلة لا تُشبه المرة السابقة، شاتان بين هذا وذاك، حقًا أنها مُمتنة للظروف القاسية التي جعلتها تعيش لحظاتٍ ثمينة كتلك الآن. 

***

في دولةٍ أخرى، وبالتحديد لبنان، في أكبر المسارح الموجودة داخل بيروت، تقف ميادة على المسرح تبدأ بمشاورة جمهورها كما تعتاد ماذا يريدون أن يسمعون في بداية الحفل. 

فنهض عبدالله واقفًا وكان الأكثر حماسة من بين الجميع حيث هتف عاليًا لكي يصل إليها صوته: 
_ أنا بعشقك، عايزك تغنيها لمراتي..

تحولت نظرات الجميع على عبدالله، وقد أخبرها أحد الشباب المساعدين لها بما يريد عبدالله فابتسمت ميادة ونظرت حيث أشار الشاب إلى عبدالله وحدثته في مُكبر الصوت الكائن أمامها: 
_ عايز تِهديها لزوجتك؟ 

أماء عبدالله بتأكيدٍ ثم مدَّ يده لصبا التي تخللت أصابعها يده ثم نهضت والخجل مُسيطرًا عليها لتلك العيون المُسلطة عليهما، فقام عبدالله حينها بجذبها داخل صدره وصرّٕح بمشاعره المُتأججة: 
_ دي حب عمري دي، حبيبتي ومراتي.. 

تفاجئا الإثنين بالتصفيقات التي ارتفعت من حولهما، فرفعت صبا نظرها على عبدالله وابتسمت بخجلٍ مُنعكس على وجنتيها الحمروين، ثم خبئت وجهها في كتف عبدالله عندما لم تستطع مواجهة الآخرين 

بينما بدأ عزف الموسيقى ولحن أغنية 'أنا بعشقك' لِتُغرد الجميلة ميادة بصوتها الذي يلمس القلوب، فبدأ عبدالله يتمايل مع الموسيقى ويهدي كلماتها لصبا وهو يُشير إليها كأنها قد خُصِصت لحبه لها. 

***
بعد مرور أسبوع؛ كانت تسير بين خُطى مهرولة ومتعثرة، تريد اللِحاق قبل أن يبدأ ذلك الإجتماع الذي طُرأ فجأة، وضعت إصبعها على زِر المِصعد الكهربائي دون أن تبعده حتى وصل إليها فقامت بالدخول إليه وتوجيهه حيث الطابق الكائن به الشركة. 

فُتح بابه فخرجت منه تهرول نحو مِكتبها، وما أن وصلت إليه حتى فُتح باب مكتب مُديرها وظهر هو، بجاذبيه خاطفة للأنظار، من خلف حُلته الكلاسيكية وخُصلاته المهندمة، دنا منها قائلًا: 
_ أنتِ فين يا زينب لسه خمس دقايق على الإجتماع..

بأنفاسٍ لاهثة هتفت:
_ أنا آسفة، على التأخير، بس كنت ماشية براحتي لأني عارفة إن مكنش فيه حاجة ضرورية 

هز رأسه وقال بأمرٍ: 
_ طيب جهزي أوضة الإجتماعات بسرعة من فضلك يا زينب.. 

_ حالًا هتكون جاهزة يا فندم..
قالتها ثم هرولت إليها ووقفت تُنظم المكان وتضع ورق الصفقة الذي سيتحدثون حولها، وبعد أن انتهت خرجت فوجدت مُديرها يستقبل ضيوفه، فزفرت أنفاسها براحةٍ، وتوجهت ناحيته فتساءل هو عما فعلته فطمأنته زينب بإشارةٍ من عينيها. 

فارتسمت بسمةٍ عملية على محياه ثم دعاهم إلى غرفة الإجتماعات بينما عادت زينب إلى مكتبها وقد أخرجت زفرةً تحمل من التعب قدًرا، فلقد أنهت ما عليها في فترة وجيزة، مالت برأسها على المكتب لتسرق قيلولة بسيطة، لكن رنين هاتفها قد منع راحتها. 

تأففت بزمجرةٍ ثم سحبته من حقيبتها بمللٍ، تحول إلى اندهاش عندما رأت اسم المتصل، لقد كان عاصم من يُهاتفها عبر الإنترنت، وما زاد غرابتها وسيلة اتصاله، لماذا يقوم  بعمل مكالمة فيديو؟ 

انتظرت حتى انتهت المكالمة، وأقنعت عقلها ربما يكون اتصالًا خاطئ، لكن مع تِكرار رنينه تأكدت أنه قاصدًا مكالمته، تنهدت ثم قامت بإنهائها فوجدته يُرسل إليها رسالة محتواها: 
' ردي يا زينب، محتاج أتكلم معاكي ضروري' ..

أعادت قراءة الرسالة المُرسلة منه مِرارًا بقلبٍ غير مُطمئِن، كما أعاد عاصم الإتصال من جديد فأخذت زينب وقتًا تُفكر أتُجيب أم لا، ووجدت أنه لا مانع من إجابتها، فنهضت مُبتعدة عن المكتب حيث خرجت إلى شُرفة الشركة الواسعة ذات السور الزجاجي الذي يطل على الطريق. 

ظهرت صورة كليهما لبعضهما البعض، فانفرجت شفاه عاصم تلقائيًا فور رؤيتها، ورحب بها بشوقٍ في نبرته الحيوية: 
_ How are you? عاملة إيه؟ 

_ الحمدلله، أخبارك حضرتك إيه؟ 
تساءلت زينب كشخصٍ عادي يُبادله أسئلته، فردّ عاصم بمزاجٍ سوي: 
_ I'm fine
Sorry معلش لساني اتعود زي ما بتكلم هنا.. 

اكتفت زينب ببسمةٍ لم تتعدي شفاها، وإلتزمت الصمت لوقتٍ قطعه عاصم بتردِيده: 
_ أنا كنت محتاج السفرية دي جدًا، خلتني أشوف حاجات كتير مكنتش أخد بالي منها وأنا في مصر.. 

كانت مُتعجبة من أمر ما يُحدِثُها عنهؤ وأبدت غرابتها في سؤالها: 
_ أنا آسفة لمقاطعة حضرتك، بس أنا مش فاهمة حاجة، وأنا إيه دخلني في اللي بتقوله؟ 

بابتسامة هادئة أوضح لها: 
_ من ضمن الحاجات اللي شوفتها صح، هي أنتِ يا  زينب.. 

!! 
علامات الدهشة ارتسمت على تقاسيم زينب، حاولت التفكير حول اعترافه غير ما يؤلها إليه قلبها لكن لم تجد، فليس لكلماته معنايان، لكنها لم تريد الإستعجال وسألته بعدم بفهم: 
_ حضرتك تقصد إيه

أجابها دون مُراوغة:  
_ يعني أنا طول ما كنت هنا عقلي مكنش بيفكر غير فيكي، طول الوقت كنتي في بالي، وكل مواقفنا حتى اللي كانت في إطار الشغل مكانتش بتغيب عني، كنتي مأنسة غُربتي يا زينب، أنا محبتش أكلمك غير لما أفهم إيه اللي أنا فيه دا.. 

حمحم ثم تابع بصوتٍ رخيم مُفصِحًا عن مشاعره: 
_ أنا كنت فاقد الإهتمام والحب وأنتِ سديتي الخانتين دول من غير ما أنا أحس ولا أنتِ كمان، أنا اكتشفت إني مش محتاج واحدة تحبني، لأ كنت محتاج واحدة تحسسني إني مش قليل وإني مرغوب، وأهم حاجة تكون حلوة وأكلها تحفة، والصفات دي كلها فيكي.. 

ذُهِلت زينب مما وقع على أُذنيها، شعرت بانقباضة قلبها وحاجتها للهروب فهمست بتعلثمٍ: 
_ أنا آسفة يا باشمهندس، أنا لازم أقفل..

_ لا لا عشان خاطري يا زينب استني، أنا لسه فيه حاجات كتير مقولتهاش، اسمحي لي، اديني فرصة
هتفها بلهفةٍ قبل أن تنهي المكالمة، فتريثت زينب وإلتزمت الصمت فتابع هو بتعابيرٍ نادمة: 
_ أنا عارف إني جرحتك، وإن آخر مرة لينا مكانتش لطيفة خالص، بس أنا كنت فاكر إني بعمل الصح وإني مش حابب أعلقك بيا، كنت فاكر إني مش هقدر أبادلك نفس مشاعرك، وخوفت أظلمك معايا، عشان كدا صديتك بطريقة قاسية شوية.. 

صمتّ ثم هرب بنظريه بعيدًا قبل أن يُعَاود حديثه ببعض الخجل لكنه كان شُجاعًا: 
_ أنا لما بِعدت حسيت من جوايا إني عندي طاقة أبادلك المشاعر دي، ومُتلهف جدًا إننا نرجع وِصالنا اللي اتقطع.. وقبل كل دا عايز أقولك آسف، أتمنى تقبلي اعتذاري، وتقبلي عرضي إننا ندي فرصة لبعض.. 

كانت أنفاس زينب تتسارع باضطرابٍ، وصدرها يهبط ويعلُوا بعنفٍ حتى أن عاصم قد شعر به، وانتظرها حتى تُجمع شتاتها الذي تبعثر تمامًا ثم قالت وعينيها تجُوب يمينًا ويسارًا هاربة من نظراته المُثبتة عليها: 
_ أنا مش عارفة أقول إيه؟ 

_ متقوليش دلوقتي، أكيد متفاجئة ومتلخطبة، ومحتاجة تفكري، بس متطوليش عليا، أنا محتاج أعرف إذا كنت هكمل هنا ولا هرجع مصر تاني، أصل مفيش سبب أرجع له غير عشانك! 
صرَّح آخر ما لديه تحت دهشةٍ من كلامه، ثم أماءت بتفهمٍ وأنهت الإتصال على الفور دون إضافة أي كلماتٍ تُطمئن قلبه بأنها ستقبل به. 

أخرج عاصم تنيهدة وهو يزم شفاه ببعض الضيق، وعلى الرغم من كونه على دِراية بأنها لن تقع في غرامه بسهولة بعد غلاظته معاها في آخر موقفٍ لهما إلا أنه شعر بالقلق يسكُن قلبه بسبب صمتها طيلة المكالمة. 

على الجانب الآخر؛ وقفت زينب أمام السور الزجاجي رافعة رأسها تستنشق الهواء في مُحاولةٍ لعقلها بأن يستوعب تلك المُكالمة التي لم تخطر على بالها قط، شعرت بالتخبُط بين أفكارها، تجهل ما عليها فعله، وفشلت في إتخاذ قرارٍ، وأي قرارٍ تتخذه وهي لم تخرج من صدمتها بعد؟ 

ابتلعت ريقها ثم انتبهت على خروج مديرها من غرفة الإجتماعات فهرولت نحوه، لربما تستطع إشغال عقلها حتى تعود إلى المنزل وتُفكر بشكلٍ صحيح. 

*** 

انقضى الأسبوع وانتهت الرحلة، وهما في الحافلة عائدون إلى بيتهم، لم تشعر ليلى طُوال الطريق أنها بخير، حاولت مِرارًا النوم لتُقلل من الشعور بمسافة الطريق، لكن دون جدوى، التعب يزداد ويُسيطر عليها أكثر. 

وعندما فشلت تلك المرة أمسكت يد زكريا المشغول في هاتفه وقالت: 
_ زكريا أنا تعبانة، مش حاسة إني كويسة خالص.. 

قلِق الآخر لنبرتها، وأعاد هاتفه إلى جيبه ثم انتبه إليها وقال: 
_ دايخة برده؟ 

نفت بحركة من رأسها قبل أن تُخبره بحقيقة ما تشعر: 
_ مش بس كدا، بطني بتوجعني، فيه مغص بيجي ويروح كدا غريب

نظرت في عينيه والخوف يترنح في نظراتها ثم واصلت بتوجسٍ خيفة: 
_ أنا خايفة يا زكريا.. 

ربتَّ زكريا على كفها بحنانٍ وحاول أن يُطمئِن قلبها:
_ إهدي ومتفكريش في حاجة، أكيد طبيعي يحصل كدا في الأول، حاولي تنامي وأنا هكلم وليد يقف لنا بأي عربية اول ما ننزل ونروح للدكتورة على طول نطمن على الوضع...

أماءت ليلى بقبولٍ، فأرغمها زكريا للإستناد على كتفه، ثم تابع الطريق من خلال النافذة التي تُجاور ليلى بقلقٍ سيطر على أوصاله، وبعد مُدةٍ؛ وصلت الحافلة حيث المكان التي نقلتهم منه، نهضا كليهما وتولى زكريا حمل الحقائب كلها بما ترجلا من الحافلة. 

فكانت ليلى في حالة يُرثى لها، حيث أن تشنجات رحمها تزاد وتُشعرها بالتعب المضاعف، كان زكريا يسبقها بُخُطواته ليضع الحقائب في السيارة التي حضر بها وليد والذي رحب بعودتهما: 
_ حمد لله على السلامة يا ابن عمي..

_ الله يسلمك، خُد عني
قالها زكريا وهو يُناوله الحقيبة، ثم التفت كليهما بِذُعرٍ عندما صرخت ليلى عاليًا: 
_ أنا بنزف يا زكريا، إلحقني...

ارتعد قلب زكريا من شدة الخوف؛ وانطلق يجري نحوها دون ترددٍ، فهتفت ليلى بضعف حيلة وقلبٍ يخشى خسارة جنينها:
_ بيحصل تاني، شكلي هخسره تاني
تعليقات



<>