CMP: AIE: رواية الباسمة الفصل الثالث والرابع3و4بقلم روتيلا حسان
أخر الاخبار

رواية الباسمة الفصل الثالث والرابع3و4بقلم روتيلا حسان


 رواية الباسمة 

الفصل الثالث والرابع 

بقلم روتيلا حسان 

 بانتظارها قبل وقت قليل من انتهاء دوامها المدرسي  ككل يوم... 

مستنداً على مقدمة السيارة ظهره لها فلم يلمحها وهي مقبلة عليه يحادث إحدى من اعتاد على محادثتهن وهو يضحك عالياً فظلت واقفة خلفه تعقد ذراعيها على صدرها وتنفُس بضيق حتى سمعت كلمات غزل مُنفِر دفعتها لمناداته بحدة

: هارون 

أدار وجهه لها وهو يتنحنح عاقد الجبين بضيق أن تكون سمعت المحادثة فيغلق الهاتف  فوراً ثم رفع رأسه ليجدها تحدثه بلغة الإشارة بجملة مبهمة له وخاصة إنها لم تصحابها بكلمات الإيضاح حاول أن يفهم بينما كانت تشير لعينيها ثم تقبض على الثلاث صوابع الوسطى من كفيها (البنصر والوسطى والسبابة ) بينما فردت البنصر والإبهام لتقابل شبيهما من الكف الأخر فيصنعوا  قوسين متقابلين  فعلتها مرتين متتاليتين وتلتها إشارة بمعنى النظر وهي تشير له  

وتكرر نفس الحركة مع إحدى أذنيها وتكرر نفس الحركة وهي تشير ليديها وتكرر وتكرر حتى شعر إنه دخل في دوامة من عدم الفهم 

:ماذا  تعني؟ 

تركته واتجهت لمكانها بالسيارة ولم تهتم بالرد عليه فأعاد عليها السؤال بغضب  : باسمة ردي على سؤالي  

جلست بمقعد الراكب ليجاورها ويغلق باب السيارة بعنف يشعر بالاختناق عندما يفشل بفهمها وخاصة الأن وعنده هاجس أن تكون سمعت محادثته الهاتفيه ولكن لماذا يخشى أن تسمعه فهي فقط ابنة عمه ....

 نعم فقط ابنة عمي.....

يبدأ بتشغيل السيارة وكالعادة يلقي بالأوامر : ضعي حزام المقعد 

وكالعادة تعانده وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها برفض: معظم الوقت نسير ببطئ بسبب ضيق الطريق 

يصر هارون  : ومع ذلك اسمعي الكلام 

فتجيبه كالعادة : إن كنت نسيت فأنا لا أسمع 

يبتسم هارون للمحادثة التي تحمل عنوان التكرار المحبب ويزداد اصرار : باسمة لا تختبري صبري فكل ما تفعليه اليوم  لا أفهمه 

رفعت يديها وسحبت حزام الأمان ووضعته بمكانه : بالعكس أنا أتحدث بكل طريقة ممكنة لإيصال ما أريد قوله .. وكل لبيب بالإشارة يفهم 

ينظر لها بطرف عينه ثم يعود للانتباه للطريق : هكذا ..

: نعم 

يبتسم وهو يحاول استرضاءها بصوته الرخيم الرجولي : لن تقولي ما الذي كنتِ تعنيه منذ قليل 

أدارت وجهها ناحية النافذة : إفهمها وحدك 

: يوماً ما سأفهمها وحدي 

نطقت بقلبها هامسه : أدعو الله ليل نهار بذلك .... هداك الله يا ابن عمي 

 في رحلة غلب عليها الصمت بعد حديثهم خاصة مع رنات الهاتف المزعجة المتكررة والتي لم يجب عليها هارون فأراحت رأسها للخلف مغمضة العينين ..

وقرب وصولهم نادها بهدوء: باسمة هل نمتي 

: لا 

: اليوم وغداً هل ستحتاجي السيارة بأية مشاوير 

: لا 

ومحاولاً المزاح معها : ما بكِ هل أصبحتي لا تعرفي سوى حرفين من اللغة 

: بل لأني كنت مستيقظة وفعلاً ساستغل هذه العطلة بتنظيف البيت وإعداد بعض الطعام الذي يغطي احتياجاتنا لأسبوع قادم حتى رباب الأن ستكون بانتظاري لمعاونتي ..هل عرفت لماذا لم أجيبك سوى بحرفين كما تقول ..

ثم استرقت النظر لجانب وجهه الرجولي بسمرته الجميلة التي اكتسبها بطول تعرضه لإشعة الشمس فكما تذكر بالماضي إنه يكاد يكون ذو بشرة بيضاء  و ابتسمت وهي تنظر لشعر رأسه الذي يكاد يرى فابن عمها يفضل الشعر القصير جداً ثم أزاحت بصرها عنه لخارج السيارة   وعضت على شفتيها بتوتر  خوفاً مما سوف تسمع فهي أصبحت تعلم الكثير عن هارون وعن شقة المرح التي يداوم على قضاء أجازته الأسبوعية بها فقالت بتردد : لماذا تسأل؟ 

غمغم بإحراج لا يدري سببه يصيبه دائماً أمام الباسمة في سابقة لم ينالها أحد قبلاً فهو مشهور بحكم كونه الابن الوحيد ووظيفته بالشرطة بالجرأة الشديدة التي تصل للتبجح : لأني سأسافر لمقابلة بعض أصدقائي اليوم ولن أتي إلا مساء الغد ..

نطقت بعد فترة صمت حزين أصابها عندما توقفت السيارة معلنه عن وصولهم بصوت رقيق يكاد لا يُسمع : اللهم أني استودعتك عند الذي لا تضيع ودائعه

ثم هبطت مسرعة من السيارة وصعدت لشقتها دون المرور على عمها لتسلم عليه كعادتها لتفاجئ بأخر ما كانت تتوقعه

ركن السيارة وظل بها فترة ودعائها له ومن قبل إشارتها التي لم يفهمها تتردد بعقله دقائق من التفكير تلاها  قراره الذي اتخذه بأنه لا بد وأن يتعلم لغة الإشارة فمن اليوم لن يدع شيئ يخصها لا يفهمه وابتسم برضا عن قراره ليترجل من السيارة ثم يغلقها .. وصعد لشقته ليبدل ملابسه وينزل ليقضي بعض الوقت مع عائلته قبل سفره ..

كان يصعد بحيوية وهو يدندن بكلمات أغنية ما ليصطدم بجسد رجل يخرج من بيت عمه ووجهه يشتعل احمراراً تمعن به قليلاً ليدرك هوية الرجل إنه أحمد الخطيب السابق للباسمة الذي مد يده لهارون حين تذكره هو الآخر : أهلا سيادة الرائد هل تتذكرني 

أبعد هارون يده سريعا بعد السلام وهو يشيرللنسر والنجمة التي تزين كتفيه بفخر وغرور : مقدم هارون العابد ..ولا ... لا أتذكرك وتركه ودخل لشقة عمه وأغلق الباب بوجه من أصابه الجمود من تلك المقابلة والأهم المقابلة التي سبقتها  ....

 

: ماذا كان يريد 

حسن المتكئ بإرهاق على سريره : حدثني بالهاتف وطلب مقابلتي وأنا دعوته لهنا وكنتِ وقحة كفاية حتى تطردي ضيف والدك 

كانت تتحرك بتوتر وهي تحرك يديها بلغة الإشارة وتنطق الكلمات بثقل : لا تجنني يا أبي هو ليس ضيفك بل هو انسان منافق طماع وأنت بالتأكيد لن تهدي ابنتك لانسان بهذه الصفات 

: لقد جاء نادماً....ثم كُفِ عن الحركة والتوتر 

لم تستمع له وظلت بحركتها أمام أنظار والدها الحزينة وهو يراقبها تتحرك وتشير بيديها بعصبية وتنسى الحروف ونطقها .... يريد أن يقف ويحتضنها يطمئنها لكن من يطمئنه هو على ابنته وهو يقترب من الموت يقترب من تركها وحيدة بهذه الدنيا التي لا تنصف وحدة فتاة  ...كان دائماً واثق وكان دائماً يحثها على التجلد لكن الأن وهو بتلك الحالة على سرير المرض أصبح خائف مرعوب على صغيرته  

:إهدئي ابنتي .. كان لابد أن تسمعيه ويكفي إنه جاء معتذراَ و ...

صرخت الباسمة تقاطعه وهي تواجهه : بل جاء طامعاً بشقة خالية وعليها زوجة ..أبي لا تفعل بي ذلك ..لقد تحملت كثيراً من تصرفات البشر وصدقني كانت لا تعنيني لأنهم لم يكونوا بتلك الأهمية لكن لن أتحملها منك.. أرجوك يا أبي  لا تحملني ما لا طاقة لي لتحمله لا تستغل الزائرين للإطمئنان عليك لتعرضني حتى ولو بصورة غير مباشرة لكل خاطب تجده مناسب ..لا تتحدث مع خالتي إعتماد لتعرضني على معارفها إعتقاداً منكم إنني لن أعي تلك الهمزات أو اللمزات بحقي ..أبي أرجوك لا تعرضني لهذه السخافات 

رد حسن بحدة وتوتر وهو ينهت : أحفظِ لسانك ..

ثم عن أي عروض تتحدثي ..أنتِ فقط تتخيلي.. ففيما يبدو أصبحتِ حساسة ..ثم ماذا فيها إن أظهرت للناس محبتي لكِ و إعتزازي بهدية ربي التي منحني إياها بعد سنين من الصبر ... وعددت لهم كيف ابنتي جميلة مثقفة و..

تقاطعة الباسمة بسخرية وهي ناظرة بعمق عينه أن يُكَذب ما تقوله : ولديها شقة وراتب ورصيد بالبنك 

كان رد حسن الصمت وإدارة وجهه عنها 

لم تتحمل أن تراه بتلك الصورة...  الضعف ليست من شيم والدها اقتربت بهدوء منه وتناولت يديه تقبلها على ظهرهما ثم أدارتهم بين كفيها الرقيقين وأراحت جانب وجهها بينهم وهي تتحدث بهدوء شديد 

: سامحني على حدتي ..مجرد رؤيته أثارت حفيظتي ..أرجوك سامحني 

ليحاوط هو وجهها  ويقربها منه فيقبل جبينها بحنو : لا يا قلب أبوكِ وبسمته من حقك أن تقولي ما بقلبك ومن حقي أن أخاف عليكِ

......

يدخل هارون فوراً بعد أن أغلق الباب المفتوح تاركاً أحمد خارجه  ليجد رباب أمامه 

:لماذا صوت الباسمة وعمك عالي 

:  ذلك السمج كان يريد أن تعود له بسمة وهي رفضت وطردته وعمي اشتعل فعلياً 

:ما هذا الذي بيدك؟ 

: دلو به ماء متسخ وبقايا ورق الجرائد كنت أنظف النوافذ قبل أن يهل علينا خطيبها 

حمل منها الدلو بسرعة وهو يتجه للشرفة وهو يقول بحدة : لا تقولي خطيبها 

نظر من الشرفة للشارع للحظة ثم رمى كامل محتوايات الدلو ثم دخل وسلمه لرباب وخرج صاعداً لشقته دون أن تخفى عليها بسمته المشاغبة التي أنارت وجهه وأعاد لها مرح أخيها الذي افتقدته منذ طلاقه لنجلاء ... ثم تحركت ببطئ ونظرت للشارع حيث وجدت أحمد وهو ينفض عن ملابسه ورأسه بقايا ورق الجرائد المبلل ثم يهرول بعيداً دون النظر خلفه هارباً من ضحكات الناس حوله ....

تخرج الباسمة من غرفة والدها لتجد رباب وقد سيطر عليها المرح والضحك الشديد  

تضحك الباسمة لضحكها : ما بكِ تركتك منذ قليل بعقلك 

حاولت التماسك قليلاً : لو عرفتي ماذا  حدث ستموتين ضحكاً ...

ثم نظرت حولها : تعالي بغرفتك أحكي لكِ 

بغرفتها كانت ترفع حجابها أمام المرآة ببطئ شديد تحاول أن تشغل نفسها عما تحكيه رباب عن فعلة هارون بأحمد تداري ابتسامة غلبها الشجن بعيد عن المرح الذي أصاب ابنة عمها 

أخذت ترتب حجابها بداخل الخزانة وهي تستمع لثرثرة رباب لتقع يديها قصداً على الحرير الوردي الذي تضعه بمكان خفي بين طيات الأثواب كانت تتلمسه برقة رفرفة أجنحة الفراش ...تتلمس ذاكرتها تتلمس رغبتها بالحب ..عامان بعد انفصاله عن نجلاء تنتظر أن يلتفت إليها بأبعد من أن تكون ابنة العم التي تحتاج العطف ..انتظار كانت لا تحسبه بزمن التقويم العادي ...انتظار كانت تحسبه بلحظات عابرة عند اللقاء القليل عندما كان يزورهم حفاظاَ منه على صلة رحم أو حباً بعمه الطيب,, حتى توقف الحلم تماماً عندما علم بخبر إحتمال خطبتها فسمعت منه مباركة سمعتها على لسان كل غريب بحياتها  ..لتتوقف القصة قبل أن تبتدأ ..

وتظل ويظل تعاملهم الأخوي الذي لا يخلو من مرح الأخوات أو عنادهم ..

تفيق من شرودها بطيات الحرير الرقيق سؤال رباب الذي أخترق عقلها 

: لماذا تركتي أحمد كان يبدو عليه إنه شاب خلوق 

تغلق باب الخزانة بتنهيدة :  المظاهر خداعة  ... ثم أنا قبلت به في غفلة مني تحملتها للنهاية بصبر على تسرعي بالقبول فكان عقاب استحقه لأني قللت من نفسي ونظرت لها بعين الناس 

: كيف 

جلست بجانبها على سريرها الصغير الذي كان يجاوره حائط تمتلئ جدرانه بصور أميرات الرسوم المتحركة والتي كانت والدتها تضعها لها بنفسها .. وتركتها هي عندما كبرت حتى تشعر بحضن والدتها بلمساتها الباقية بينهم ..

: أحمد كان شاب حاله ككثير مثله تخرج من كلية التجارة ولم يجد عمل فكان يعمل بكل وظيفة ممكنة تساعده على الإنفاق على نفسه وعلى أمه وأخواته البنات الذين فقدوا الأب بوقت مبكر ومعاشه كان يكفيهم بالكاد ...وكنت أنا مناسبة لظروفه... فتاة يقابل النقص بها رقة حالهم وعدم قدرته على توفير شقة زوجية فكانت أعينهم على شقة والدي المجاورة لشقتهم ..ولكنه دائماً ما أخفي طمعه بها ببراعة حتى حصل على عقد عمل بالخارج وأصبح بإمكانه الحلم بفتاة أكثر كمالاً مني ..

شهقت رباب التي كانت تستمع لها ثم قالت بغضب : ماذا تقولي وهل هناك من لا يريد أن يكون بجمالك المصري الخلاب بلون بشرتك التي تدفع من أجله الفتيات الأموال حتى تحصل عليه أو شعرك الحريري  أما  لمعان جواهر عينيك البنيه  فهي قصة وحدها ..

تبتسم الباسمة بحب لتلك الفتاة التي تراها بعين محب فلا تستوعب نظرة المجتمع لها وتأخذها بحضنها وتقبلها ثم تبعدها قليلاً حتى تواصل كلامها : رباب هذه هي الحقيقة التي تجلت عندما أصبح يرسل المال لأمه و عندما كان يراسلني ومع اعتقاده إنه أصبح أفضل لانتقاء الأفضل مني تمعن في جرحي بعدة طرق حتى وصل لإهانتي بإعاقتي فأغلقت الهاتف معه وقطعت كل تواصل ممكن وأعدت خاتم الخطوبة والتي كانت هديته الوحيدة لي لأمه التي تقبلتها بسعادة ودعوات لي بالحصول على الزوج الذي يستحقني ....

ثم تضحك الباسمة :  دعوة في ظاهرها الخير وباطنها الاستهزاء بإعاقتي ..

رباب بتردد : قد يكون أدرك خطئه عندما عاد واكتشف إنه يحبك فما الذي تغير سوى ذلك بحرصه على معاودة الإلحاح بعودتك له 

تضحك الباسمة عالياً فبعثت بالابتسام والراحة لقلب رباب التي خشيت أن  يكون انفصال ابنة عمها عن خطيبها وخاصة وانها وصلت لعمر الثلاثين قد حطم فؤادها

: صغيرتي الغالية كم هي أحلامك الوردية ممتعة .. الحقيقة أن والدة أحمد عندما كانت تصلها أموال ابنها كانت تبذرها بصورة مبالغ فيها علي نفسها وعلى بناتها دون أن تعي إن ابنها كان يرسل لها كل راتبه أو معظمه فعندما عاد ولم يجد تعب عامين ونصف قد تبقى منه إلا ما يوازي شراء غرفة واحدة وحتى لا تكفي مع ارتفاع الاسعار  عاد لنقطة الصفر  وهي أنا الفتاة ذات الإعاقة المناسبة لظروفة وعليها شقة مغلقة تكاد عينيه تخرج من محجريهما طمعاً فيها ..هل فهمتي 

قالتها وهي تحيط خدي رباب بحب ثم قبلتها ووقفت 

: هيا نعود للعمل فالحياة  لن تتوقف وكل ما نعيشه فيها هو درس لنا يقوينا ...

ثم ضحكت و هي تسحب يديها لتتبعها 

: كما أن السهرة التي طلبها أبي تحت الصفصافة وتعريشة عنب جدتي تحتاج لترتيب هيا ...


خرجتا تكملان ما انتويتا فعله من تنظيف وترتيب لسهرة حلم بها والدها يعيد بها ذكريات الماضي تحت تعريشة العنب وظل الصفصافة المورقة ..

أعدت الباسمة اللحوم والخضروات التي قررت أن تشويها ثم توجهت مع رباب للطابق الأول ليكملوا عملهم داخل الحديقة الصغيرة من تنظيف و مد بساطين أحدهم للرجال والأخر للنساء ومن طرف بعيد نوعاً عن  جلستهم وضع موقد الفحم بجانبه ما يلزم من أدوات الشواء 

كانت الباسمة سعيدة بإعداد ما كانت تبدع به أمها من تجهيزات وعلمته لها أو تتذكره ..كانت تريد لوالدها أن يشعر بأنفاس والدتها في كل شيء تعده

: هل أكدتِ على ليلى وخالتي إحسان على المجيء 

ردت رباب التي كانت توزع  بعض الوسائد بين الجلستين : نعم لا تقلقي 

حملت أكياس الفحم ووضعتها بمكان قريب من الموقد وعادت وهي تنفض يديها  وملابسها التي اتسخت : الحمدلله ..سأصعد لابدال ملابسي وأنادي أبي بينما تفعلي المثل..

ودارت مسرعة فتجنبت بالكاد الاصطدم بهارون الذي كان يقف بالمدخل الصغير للحديقة  و جاء يشاهد ترتيباتهم عندما سمع أصواتهم بهذه البقعة المنسية من البيت 

فرد ذراعيه وكأنه يمنع سقوطها متمهلاً  بالنظر لها من أسفل لأعلى يكابد لمنع تجلجل ضحكته : مهلاً ..مهلاً ... ماذا حدث لكِ وكأنك خرجت من تحت التراب ..

نظرت لنفسها وهي ترتب وتنفض بيديها المتسخة سروالها الجينز وثوبها القطني المستفز الذي يتخطى خصرها قليلاً وتعيد خصلة من شعرها انفلتت من حجابها : ماذا أفعل وكأن المكان كان منتظرني بعد تلك السنوات  لتنظيفه 

ضحك هارون وهو يرفع رأسه للمكان الذي لا يدري منذ متى طل عليه أو أهتم به .... مربع صغير خالي إلا من تعريشة عنب صابها الجفاف بسبب الإهمال ولكن الشيء الوحيد الذي ظل بحالته المنتعشة فهي شجرة الصفصاف العالية والوافرة الأوراق فحياتها لم تعتمد على بشر يهتموا بها أو يهملوها  بل اعتمدت على جذورها الممتدة تحت الأرض تثبتها وترفعها للسماء مثل تلك التي تقف أمامه بابتسامتها التي تجذب نظره الدائم لثغرها ...وأه من إحساس غريب عليه و جديد يجعل من هارون الجبل الشامخ في مواجهة شجرة الصفصاف فاقد اتزانه .. 

: هارون دعني أمر 

ولكنه لايريد ويكاد يقسم بداخله أنه لا يعلم السبب  فابتسم لها  : هل تجيدي إشعال موقد الفحم

 اشارت له بلا ثم استعادت الحروف لتقولها وهي ترجع خطوة للخلف مبعدة بعينيها عن مجال شعاع عينه الذي وترها وهو بكل هذا القرب والطول وهذا الجسد العضلي الذي أكتسبه من كثرة التمارين التي يحرص عليها  ... لتغمغم هامسه  يا إلهي  

ثم قالت وهي تعيد تمليس طيات ملابسها بصوت جعلته مرحاً

: لا... ولكن هشام يجيد ذلك وقد تتطوع لإيقاده و بالشوي بنفسه مقابل وجبة مجانية وقد انتهزتها فرصة ودعوت خالتي إحسان وليلى 

انتبه لقولها لتحتد نظراته المصوبة نحوها : وكيف عرف هشام بذلك 

تململت بوقفتها وهي تحاول المرور : هل نسيت أن هشام زميلي بالمدرسة 

منعها المرور من جانبه بالوقوف بوجه تحركها و بحدة جلبت رباب ناحيتهم لتستمع لقوله: وهل زميلك هشام تجلسي معه تثرثري وتطلبي منه يلبي لك طلباتك

أحمر وجه رباب من يراها يعتقد أن حدة هارون مع الباسمة ما أغضبها  ولكنها وللعجب لا تدري سوى إن هناك سهم أصاب قلبها فنظرت للباسمة ابنة العم الواثقة التي تقف بطولها الفارع والذي إذا أرادت أن توازي طول هارون لن تحتاج سوى لحذاء عالي الكعب ... جمالها  الناعم وحريتها بالتصرف بأريحية مع كل الناس لابد وأن تكون جذبت دون أن تقصد أنظار ابن الخالة هشام وعندها وضعت يديها على فمها تمنع غصه أحكمت حلقها و بلعتها بصعوبة خوفاً من الإفصاح عن مكنونها لتسمع الباسمة  

: ليس كذلك 

: كيف إذن 

تحاول أن تدعي الثبات أمامه فتقبض على يديها بعنف حتى لا ترفعها وتبدأ الحديث بهم فخرجت حروفها مهتزة : لقد سمعني وأنا أسأل حارس المدرسة عن مكان بيع الفحم وباقي لوازم الشوي فتطوع شاكراً

اقترب هارون الذي يعلوها طولا من رأسها فرفعته قصراً لتقابل أسهم عينه الحادة : وهل أنا لم أعد موجود لتطلبي منه 

هنا توترت من القرب ..توترت لدرجة أن يثقل لسانها فأرادت أن ترفع يديها التي تمنعها فجمعتهم كقبضة أمام صدرها برجاء : لا ولكن لم... 

: هل أعددتِ للأمر فجأة فلم تجدي فرصة اليوم لإخباري سواء في الذهاب أو الإياب 

: لا يا هارون أنا ...

قال وهو يشير بالقرب من رأسها بسبابته : بينما تجمعي جملة صحيحة لتجيبي عن أسألتي هل لكِ أن تعي ما سأقولة الأن حتى تدخليه داخل تلك الرأس الصلبة ..أنا فقط من تطلبي منه ... أنا فقط من يلبي طلبات ورغبات عمي هل تفهمي أم فقدتي حس الفهم ...

هنا لم تتحمل فهارون يبرع في تقمص شخصية المحقق معها وحب السيطرة وهذا ما لايمكن لها أن تتحمله..

  لتترك يديها والتي ما إن حررتها حتى تحرر لسانها يتبع قائده من لغة الإشارة التي جعلته يركز على حركة يديها فهدأ تماماً كأنها تلقي بتعويذة سحرية أو هدهدة أمومية..

:لا تحدثني بتلك الحدة ففي المقابل ما الذي يمنعني من الغضب أنا أيضا والنفخ بصوتي كالتنين كما تفعل معي

فرد صدره أمامها واضعاً يدية بجيبي سرواله قائلا ببرود :أفعليها حتى أكسر رأسك 

ضاقت عينيها وبغضب  لم تستطع كبته :  لماذا تهتم هل ستظل معنا مثلا وتترك لياليك المرحة 

ثم تركها تزيحه من أمامها لتمر بينما هتف بصوت جهوري حتى تسمعه هذه العنيدة : سأظل اليوم  يا باسمة وأريني ماذا ستفعلي ولن أكون هارون العابد إن لم اكسر لكِ رأسك العنيد يا ابنة عمي

حاورته من بعد بصوت أعلى من صوته : وأنا باسمة العابد 

ضحك هارون وهو يدير رأسه يمين ويسار هامساً : والنعم بالباسمة العابد ..

الوحيدة التي تجعلني بقمة الغضب وقمة عدم الاتزان ... وبقلبه سمع همسه رقيقة لم تفته 

...وقمة الشغف ....

نظر لإهتزاز أوراقها وفروعها الباسقة  يتلمس بعينيه حقيقة احساسه بها وكأن شجرتها المورقة سترد عليه ...

فلا يسمعها فيطلب منها العون بالإشارة كصاحبتها 

فلا يستطيع فهمها ليعاوده الإصرار ان يتعلم لغتها .. 

لينزل بعينه لتلك التي تقف فارجة بين شفتيها بصدمة من حوار أخيها وابنة عمها والتي شعرت بذبذبات حاوطتهم أصابتها بقشعريرة يبدو ان الأثنين في غفلة عنها أو على الأقل هارون لأن قلبها كان دائماً ما يحدثها أن الباسمة تكن عاطفة ما ناحية أخيها 

ليضربها هارون بلطف على رأسها : أفيقي وأغلقي فمك ..هيا فالجميع على وصول 

ثم تركها هامسه وهي تسحب خصلة من شعرها الذهبي : لن تعز عليكم يا أحب اثنين على قلبي ... 


وكانت جلسة من ألف ليلة وليلة جلس الجميع برغم الأجواء الباردة يتلحفوا الدفء القادم من موقد الشواء والموقد الصغير الأخر الذي جاور جلستهم و الذي أعده علي بنفسه على إناء فخاري قديم  ليضع عليه أبريق به ماء لا يطيب له وأخوه حسن  شرب الشاي إلا من خلاله  ..فذاكرتهم لا تخلوا من جلسات مشابهة ضمت الأم صباح والزوجة أمال ...

رباب جلست مع أمها وخالتها تدللهم وتسهر على راحتهم ..

بينما هشام وهارون تساعدهم ليلى ظلوا بجانب موقد الشواء ..

أما الباسمة فكانت بجانب رعايتها لوالدها وعمها كعصفور يتنقل بخفة بينهم يساعدها نحولها وضحكتها التي لا تفارق شفتيها الندية التي جعلت من هارون كلما نظر لها على موقد الفحم بدلا من اللحوم ..فأصبح كل حين ينادي عليها لتجلب شيء من الداخل حتى يخفيها عن أنظار الجميع كان أخرها إناء فارغ سلمته له متبرمة 

: تفضل وسأذهب للجلوس ولا تنادي علي مرة أخرى فلن أجيبك 

أخذه من يدها متمتماً بقول ذات مغزى 

: إذا ظللت بجانب رباب لن أنادي عليكِ فأكيد أُرهقتي اليوم ..

ثم تنحنح صامتاً وأعاد الانتباه لعملة بجانب هشام مرددا ً  

: إذهبي أنتِ أيضا يا ليلى  فقد أوشكنا على الانتهاء 

وقد كان وبمجرد أن انتهوا من الأكل ظلوا بأماكنهم يحمل كل واحد منهم كوب من الشاي اللذيذ 

لتدور بينهم أحاديث جانبيه ..

الباسمة كانت تسند بظهرها على جذع الشجرة الصلب عندما همست لرباب 

: هيا يا رباب اسمعينا صوتك 

: لا 

قربتها منها ليلى بحب  : فعلاً الليلة ينقصها صوتك ووعد لو غنيتِ سأصنع لكِ المعجنات التي تحبيها وأرسلها لكِ غداً هيا حبيبتي ..


جلست باعتدال وهي تعدل رابطة عنق وهمية : إن كان كذلك فلكل أغنية تلبي واحدة منكما طلب

ضحكت الباسمة وهي تنظر للقريبتين المتماثلتين ليس بالعمر فقط بل بالشبه اللاتي توارثاه من الأختين إعتماد وإحسان  بياض الوجه ولون العينين الزرقاء والقصر وأيضا الجسم الملفوف الأقرب للإمتلاء ولكنه بالتأكيد بالأماكن الصحيحة عند الفتاتين 

: لكِ ما تطلبي لكن نختار نحن الأغنية 

: إختاري 

بلمحة خاطفة من عينيها شاهدته يستل هاتفه ويأخذ جانب قصي فتكاد تسمع بعقلها كلمات الغزل من الطرفين فتقول لرباب 

: أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني 

تهمس ليلى وهي تحاول ألا ترفع عينيها للنظر للقاصي  : نعم غنيها يا رباب 

إقتربت من أختها التي تجلس وظهرها للجلستين تحت تعريشة العنب الجافة تفرد قدميها المتعبتين بعيداً و تهمس لها 

: أنا أرى أن هارون مهتم  بابنة عمه 

تنظر لأختها برعب جلي : ماذا تعني 

تزم شفتيها وتحركهم بامتعاض : أعني ما يدور بعقلك يا اعتماد وتحاولي إنكاره  ..اهتمام هارون يتعدى العطف على ابنة العم الغائبة ..لكنه خطأي ولا بد أن أتحمله

تقبض على يد أختها بغضب هامسة : هل جننتي يا احسان عن أي خطأ تتحدثين يا إمرأة 

 : الخطأ الذي جعلني أعطي لابنتي أمل بابن خالتها فترفض طوال عامين  كل خاطب دق على بابنا لأن هارون هو الأفضل لابنتي من الغريب  ..وأنتِ تعرفي جمال ليلى الذي يتمناه الكثيرين من رجال قريتنا ...

تترك يد أختها وهي تزيحها بغضب تحاول أن تتحكم به : لو كنتِ تري بنفسك مشاحناتهم اليومية كنت ضحكتي الأن على تخيلاتك والذي أكيد لمستيه بنفسك انظري  كيف يعامل ابنتك برقة وكيف يعامل الباسمة كأنها صديق له 

: لن تشككي بذكائي يا اعتماد فعيني ابنك لا تبارح ابنة عمه ولكني ما أنا متأكدة منه إنه لا يعلم حتى الأن سر اهتمامه يجوز إنه لم يجرب الحب مع زوجته الأولى هو ما جعله للأن لم يكتشف حبه لبسمة ... ثم صديق ماذا يا أختي  الفتاة عندما رأيتها بعد كل تلك الأعوام تخيلت إني رأيت عارضة أزياء كالتي نراهم على أغلفة المجلات  

تضحك إعتماد بسخرية وهي تقول بتعجب واضح : عارضة أزياء  

: نعم و جمال تُحسد عليه ..و ..

يحمر وجه إعتماد بغضب وهي تقاطعها : وهل ترضيها يا أختي أن تكون بسمة زوجة لهارون حتى ولم تعطي ليلى له

صمتت إحسان قليلا وهي تنظر للباسمة بتركيز وتكلمت بصدق : نعم أقبل ..

: ماذا .. و هل تقبلي أن تزوجيها لهشام 

: نعم يا إعتماد أقبل ..بسمة لا ينقصها شيء و لو على السمع فهي ماشاء الله تسمع بل أحيانا أعتقد إنها تفهم كلامنا بمجرد النظر إلينا 

تدير وجهها بعيداً عن أختها إحسان وهي تردد : حتى ولو كلامك صحيح إلا أني  أريد ليلى لابني 

: نصيحة يا أختي لا تقفي أمام رغبة ابنك فمن قلبي أتمنى له ما يريح قلبه ويرزق ابنتي إن شاء الله بمن يصونها ويستحقها وانسي يا أختي غيرتك القديمة من أمال رحمة الله عليها إعتقاداً منكِ إنها كانت مفضلة عند أم زوجك بينما في الحقيقة إنها نالت من أم حسن الكثير وتذكري دائماً أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد ..

: ونعم بالله 

وصمتت اللأختان عندما ورد لمسامعهم دندنة رباب بصوتها السحري 


أنت يا جنة حبي وأشتياقي وجنوني 

أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني 

أغداً تشرق اضواؤك في ليلِ عيوني؟ 

آه من فرحة احلامي، ومن خوف ظنوني 

كم أناديك، وفي لحني حنين ودعاء 

يا رجائي أنا، كم عذبني طولُ الرجاء  

أنا لولا أنت لم أحفل بمن راح وجاء 

أنا أحيا في غدي الأن بأحلام اللقاء 

فأتْ ، او لا تاتِ، او فإفعل بقلبي ما تشاء

 

غنت وكأن هذا اليوم أول مرة تغني  فإحساس الغيرة الذي تملكها للحظة عندما عرفت بتواصله بالمدرسة مع الباسمة جعلها تدرك كيف هي تحبه بل تعشقه ..كيف  أن الغيرة هي أول شرارة لحريق القلب كانت تدندن بالكلمات بجانب الباسمة وليلى وطال صوتها حتى وصل لمسامعه ليس أول مرة يسمعها لكن لماذا بهذا الجو الجميل تحت أوراق الصفصافة المورقة أصبح للصوت معنى وللكلمات مغزى وأسهم تصيب القلب وتطلق اللسان ليتحرك بحرية  فانحنى بجانب أذن زوج خالته يطلب الوصال مع ابنة خالته وعشقه الخفي الصغير 

تنظر له بعينيها البنية التي كللها تاج الرموش تغطيها فتمنع الناظر لها قراءة ما يبوح بها قلبها  وهي تنطق هامسة بكلمات تنساب من روحها بالكاد تصفه على استحياء منه و من مشاعرها التي لم تستطع إلا أن تثور وتغضب .... وتحب 

فتطلبها من رباب لتغنيها ....


أين من عيني حبيب ساحر 

فيه نبل وجلال وحياة 

واثق الخطوة يمشي ملكاً 

ظالم الحسن شهي الكبرياء 

عبق السحر كأنفاس الربى 

ساهم الطرف كأحلام المساء 

مشرق الطلعة في منطقة 

لغة النور وتعبير السماء


لتستدرك سريعا مشاعرها التي فاضت بمجرد النظر له  وهو بمكانه قصياً بجسده وقلبه يهمس بكلمات لن تسمعها منه أبداّ فتردد 

 لا يا قلبي لن تعود لتلك الأفكار مرة أخرى لن تتعذب بمفردك ...لقد استطعت ان اسيطر على دقاتك و مشاعرك المراهقة سابقاً وكنت أنوي الاستقرار و ابداً لم أوهم نفسي بأكثر من زواج تقليدي امنح فيه أسرتي كل مشاعري ... ماذا أفعل بإصرار أبي بعودتنا لمحيط معزبي وزائر أحلام يقظتي ومنامي ...ماذا أفعل ..يا الله ساعدني...

حديث للنفس لم تغب تقلباته على صفحة وجهها القمحي الخلاب على رباب القريبة منها فنبهتها بضحكة خلبت لب قلب هشام الجالس بجانب والدها وعمها يستعجله القبول ويتودد للعم حسن ليساعده 

: من أخذك منا 

تنتبه لها الباسمة فهمست لها : لا شيئ فقط صوتك ..

وغمزت لها الباسمة بحب : والذي يبدو أن صداه وصل للجانب الأخر من جلستنا فلامس أذني مُحب 

خجل وتلعثم ما أصاب رباب فتأكدت الباسمة 

: ماذا تقصدي يا ابنة عمي 

اخذتها الباسمة بحضنها : أقصد أن الصب تفضحه عيونه 

وضحكت ضحكة رقراقة ناعمة انسابت على قلب أخر توقظه من غفلته بهاتفه الذي لم يعد يسمع  من يحادثه فيغلقه هو يتمتم بسلام فاتر ونظره مع هشام الذي وجده ينظر ناحية الباسمة وقلبه ينبأه بكلام على لسان ابن الخالة يضاحك به العم حسن فيعتصر القلب بألم لا يدري سببه..فاقترب وهو يحاول السيطرة على تشدد ملامح وجهه

لكن يقطع كل تلك المشاعر المرفرفة بالهواء صوت العم علي وهو يصرخ عالياً على حسن الذي رقد بجانبه غائب عن الوعي ...

وتنجلي الحقيقة ...

.

🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔵🔴

الحلقة 4 

.

.

بغرفتها تتلوى من الحزن الذي أطبق على صدرها حتى جعلها تكاد تصرخ وهي تمنع صداها بالصعود لأعلى فيسمعها كل البشر أو الأهم أن يسمعها من يقبع بغرفته فتضغط على فمها بكفيها وهي تميل بجسدها أماماً وخلفاً... 

لم تكن دموع تلك التي ذرفتها عندما علمت بمرضه بل كانت دماء نزفتها لأخر قطرة ..كيف هانت عليه وأخفى ما به عنها وكيف علم وتأكد من مرضه ومتى أجرى تحاليل وأشاعات طبية  وهي في غفلة عنه... أسئلة  كثيرة وجميعها بلا إجابة ..

هي لم تتركة أبداً  .. لم يفترقوا أبداً.. فمتى  فعل تلك الأمور  ..

كانت تراه يئن من الصداع ..كانت تراه يعاني من غثيان و إغماءات خفيفة و انخفاض وزن 

وهي كانت بغفلة .. 

لكن الأن بعد معرفتها بإن كل ما يعانيه كان بإمضاء ساخر من مرض خبيث أصاب رأسه الغالي تنعت نفسها بالغباء والتراخي ..

فليحق لكِ  يا أمي أن تغضبي مني فابنتك لم تراعي الحبيب  الذي طلبتي منها مراراً وتكراراً أن تراعيه وأنتِ على سرير المرض ... انشغلت بنفسها حتى إنها لم تنتبه ... يا ربي  كيف كان يواظب يومياً على مزاولة عمله الذي كان يتطلب منه التركيز بالسياقة ..

لكن لا ..

لن أظل هنا أسأل نفسي والإجابة عنده لن أدع لحظات ضعفي امامه حاجز يمنعني من معرفة كل ما يخصه  يكفي أسبوعان من الهروب المتبادل بيننا  والتي ستنتهي الأن ..

انتفضت من مكانها بتصميم واقتحمت عليه خلوته  لتراه ممسكاً بكتاب الله من بعد صلاة الفجر كما عود نفسه  فيرفع رأسه بجمود ولم يتوقف لحظة بل اعاد عينيه للمصحف و استمر بالترتيل حتى انتهى بينما هي اتخذت الجانب المقابل له صامتة ومنصتة والعزم بعينيها يخبرانه أن صمته انتهى ليبادرها بقوله

:لم تستأذنِ قبل إقتحام الغرفة وكأنك لازلتِ طفلة لأعلمك أداب الدخول لغرفة والدك هذا أولاً 

لتشير له بهدوء وكأنه لم يوبخها هي ابنة الثلاثين : وثانياً

 :لن أفصح لكِ عن أي إجابة عن أسألتك التي تدور بعينك الحمراء مثل الدم حتى توافقي على مقابلة أم الطبيب أمجد التي ستأتي اليوم معه لتطلبك للزواج من إبنها  وستقابليها كأي عروس فرحة 

وكأنها لم تسمعه وكأنها لم تخترقها كلماته عن عريس جديد يريد إراغمها على مقابلته والأدهى القبول به فحركت يديها على وجهها بعصبيها  تحاول أن تقاوم الإنهيار ثم اشارت له بيديها مع ثقل لسانها  : لماذا لم تخبرني بطبيعة مرضك .. هل لهذه الدرجة غير مهمة عندك 

وضع المصحف على المنضده بجانبه بعدما قبله بتقديس لكلمات الله العزيز : بل لأنك اكثر أهمية حتى من حياتي 

تبتسم بحزن وهي تحرك رأسها يمين ويسار برفض لمنطقه : هل تراني ضعيفة ... هل تكاسلت أنت او أمي بتربيتي وتنشئتي لأصبح قوية في مواجهة مرضي  ولكن أنانية لاشاركك  مرضك هل هذا رأيك يا أبي في باسمتك

أجابها بهدوء حزين :باسمة أرجو أن تفهميني ..كل ما أردته أن أطمأن عليكِ من بعدي 

الباسمة بإنهيار : وأنا أريدك ...يا أبي أنا احتاجك  ...أريدك أن تبدأ بخطوات علاجك كما اقترح الطبيب  

حسن وهو يقاوم الاستسلام لضعفها : وأنا لن أفعلها حتى أطمئن عليكِ وانتِ بجانب رجل يراعاكِ ويحافظ عليكِ ..انا أعرفك جيداً إذا تركتك ستظلي هكذا وحيدة لن تُسلمي بضرورة أن يرافق حياتك زوج و ذرية 

الباسمة تمسح دموعها و بتأنيب : أبي كيف تثق كأب بإنسان لم تعاشره  لتمنحه ابنتك بعقد زوجية ..وشقة ووظيفة كما تقدمني لهم   

كيف تثق وأنت ستتركني بين أُناس لأول مرة نعرفهم أو نسمع بهم ..

كيف تثق لتلك الدرجة بإنه يستحقني ..

كنت دائما جوهرتك الثمينة والتي أبداً سمحت لأي كان بأن يقتنيها..

 بل حتى عندما وافقت على أحمد كان لك بعض الملاحظات عليه ...

واجهها بحدة وتقطيبه تعلو جبينه كانت لتصيبها بذعر بوقت آخر : هذا أخر كلام عندي قابليهم اليوم وبعدها نتحدث بترتيبات العلاج ..أنا واثق تلك المرة إنه مناسب ..

ثم تمدد على الفراش مديراً لها ظهره قائلاً: إغلقي الإضاءة وأنتِ بطريقك للخارج 

:أبي أرجوك 

: أيقظيني بعد ساعتين 

وقفت مستسلمة : وإذا وافقت على المقابلة هل ستفكر بالعلاج  أم ستعاند أيضاً 

أجابها بصوت مرهق : سنرى 

تراجعت لإغلاق الإضاءة  والباب وهي تردد على مسامعه : نعم سنرى 


وبالموعد كانت بالانتظار بالصورة التي ارادها والدها كعروس ولكن برداء أسود من رأسها حتى قدميها  .. 

و من يرى حمرة خدها ويفسرها إنها خجل فهو لا يعرف الباسمة التي منعت لسانها عدة مرات من النطق بأحرف الطرد .. 

كانت تسترق النظر لوالدها الذي يهرب بنظره بعيداً عنها حتى لا تقرأ فيهم  رفضه لما يحدث  ... يجاوره عمها علي الذي أصبح في عالم آخر بعد معرفته بمرض أخيه  فقد  أصبح اكثر صمتاً وإنزواءً و أحيانا أخرى  أكثر غضباً وهياجاً بالاختصار كان متطرف بكل مشاعره حتى أصاب الخالة  إعتماد بالجنون ولكنها كانت متماسكة لدرجة كبيرة حتى  تشاركت  مع أبيها بضرورة الاسراع بتزويجها..لا تدري السبب ولكنها تراها اليوم في قمة سعادتها والوحيدة التي تحاور السيدة الغريبة بأريحية كأنها صديقتها ..بينما العريس الذي لم تنظر له مرتين فهو بالتاكيد سيكون اقصر منها ولكنه وسيم بنظارة طبية يعدلها كل دقيقة هي ورابطة العنق التي تبدو إنها تعاني منه أكثر ما يعاني هو منها ..

قامت بإشارة من زوجة عمها إعتماد بتجهيز واجب الضيافة الذي كان منفذ لها للتنفس بينما رباب التي حضرت جزء من اللقاء نزلت لشقتهم لتستقبل اخيها الذي سمعت  صوت سيارته قادمة وهي تردد لنفسها هل كان يعلم باللقاء فجاء مبكراً أم هي صدفة ..


كان يجلس بغرفة المعيشة يريح جسده مغمض العينين عندما دخلت رباب تقذف بحذائها بعنف وهي تتمتم بكلمات غاضبة لم يفهم معناها ولكنه انتبه لكلمة عريس 

:ما بك هل جننتِ

جلست بجانبه على الأريكة وهي تنفخ بغيظ : : من يوم ما حدث بسهرة الشواء وعلمنا بعدها بطبيعة مرض عمي وخطورته  وضغوطه على بسمة زادت حتى توافق على مقابلة عدة عرسان احضرتهم أمي لها وكلهم تستطيع القول عنهم انهم نسخة مكررة من خطيبها السابق بل ألعن وكانت ترفض حتى مجرد التفكير بهم فما بالك باستقبالهم .. لا أدري يا أخي ماذا حدث لأمي فجأة اصبحت تشارك عمي حسن هوايته بجلب العرسان لبسمة  لم تفعلها معك أو معي أبداً 

تحرك هارون وأدار ظهره لها وتوجه للنافذة ينظر بتوه للمحيط الخارجي مردداً : الباسمة لا يستطيع أحد إجبارها على فعل لا تريده 

: ذلك في الظروف الطبيعية يا أخي ..

أدار لها وجه بضيق : ماذا تقصدي  هل تلمحي لإعاقتها 

أجابته بصدمة من قوله  : بالطبع لا ..أنا أتحدث عن مرض عمي ..

ثم صمتت دقيقة تفكر :  لا أدري ما أصاب بسمة اليوم أصبحت أكثر هدوء وعينيها لا تفارق عمي  حتى انها أخذت عطلة بالرغم من صعوبة ذلك  كونها حديثة النقل للمدرسة ... أنا أخاف عليها يا أخي وعلى صحة قرارتها ولا أريدها أن تعاود الخوض بتجربة تكون فاشلة مثل التجربة السابقة التي سرقت ثلاث أعوام من عمرها 

مرر يده على رأسه بتنهيدة  : ولكنها بالنهاية استفاقت لنفسها ولم تتنازل 

أجابته بامتعاض : بالطبع لكن تلك المرة ضغوط عمي أكبر ولم تستطع أن ترفض وأنا أكاد أجزم إنه يساومها على تقبل العلاج مقابل أن تستقبل العريس وأمه  

: ولما إصراره هذه المرة 

: لأن الطبيب أمجد من وجهة نظر عمي الأنسب

أجابها بعنف بينما أستحضرت ذاكرته نظرات ذلك الأحمق لها :ماذا.. 

نظرت له بتوجس : ألم تكن تعلم 

أجابها غاضباً : لا ..

أقتربت تهمس له وهي تتلفت حولها :الغريب أن أمي بمجرد معرفتها بالأمر أتصلت بأمه بعد أن أخذت رقم الهاتف من الطبيب وحادثاتها أمس وتخيل بعد تلك المحادثة  جاءت المرأة بابنها اليوم لكن الغريب بالأمر ما رأيته منها 

ضيق بين عينه بتوجس : ماذا تقصدي 

: هذه المرأة أم أمجد لم تنظر لبسمة أو تحدثها مرة واحدة بل كلامها كله عن شقة عمي هنا وبالعاصمة حتى إنها كانت تريد أن تعاين الشقة وتضع شروط  بالأثاث  وغرفتها التي ستأسسها حتى تقيم فيها كلما زارتهم ..أنا أعلم يا أخي إنه من بلدة مجاورة وإنه رقيق الحال لكن ليس لهذه الدرجة أليس كذلك

كان تركيزه بعيد عن رباب ولكنه لم يكن بعيداً تماما عن ما يدور بشقة عمه قلبه يحدثه أن كل ما يحدث من تدبير أمه لكن لما ..لا يدري... حتى إنها لم تخبره بقدوم أمجد هل كانت تقصد مثلاً 

أخذ يغمغم وهو يحرك براحتي يديه على رأسه  : لماذا يا أمي ..بما تفكري 

قاطع تفكيره قول رباب : هارون أريد أن أصعد أجلب هذه المرأة من شعرها دحرجة للشارع هل حينها تستطيع هذه السيدة  أن تقدم شكوى ضدي 

يضحك هارون بسخرية وبتنهيدة  : بل حينها سنتأكد إنك مريضة وتستحقين عن جدارة مكان مريح بمصحة الأمراض العقلية 

رباب برقتها الساحرة : أخي أنا خائفة على بسمة فهي لا تستحق ذلك  يكفيها القلق على عمي الذي سرق النوم من عينيها 

هارون بتنهيدة : لا تخشي على الباسمة أنا واثق إنها ستتغلب على المشكلة كالعادة .. 

 ترفع رأسها لتنظر لأخيها الذي يفوقها طولاً : هل تعلم  إنك الوحيد بعد عمي الذي يقول الباسمة دون تصغير 

:أليس أسمها 

: نعم ولكنه ثقيل وطويل بينما بسمة 

يقاطعها ضارباً بيده بخفة على مؤخرة رأسها : تريدين أن تساوي بين الباسمة وبسمة 

تضيق بين عينيها بتفكير :ولكني أظن أن  بسمة أجمل 

يضحك بشجن ثم يتجه للنافذة الصغيرة التي تطل على الصفصافه التي عمرها من عمر صاحبتها   : بسمة هي اسم على كل شفاة أما الباسمة فهو خاص بها فقط ..كانت أمل وبهجة لكل من حولها  دخلت حياة عمي وخالتي أمال فتغيرت أحوالهم وأصبح لحياتهم معنى ولياليهم الكئيبة تحولت للفرحة ..

الأسم الذي ظلت محتفظة بكل معانيه ومنحته برضا لكل من حولها فتمس قلبك وتخترقه... عندما تنظري لوجهها ببسمته التي تزين ثغرها معلنه ثقتها بنفسها مهما كنتِ محبطة أو غاضبة  يذهب غضبك أدراج الرياح مقتدية بها  و فوراً تشهدي بإنه مادام مثلها موجود أن الحياة بخير .. وأن هناك أمل 


ثم صمت قليلاً تاركا عيينه تتبع اهتزاز الأوراق بفعل الرياح محاولاً فك طلاسم دقات قلبه التي تبدلت فقط من مجرد كلمات توصفها ولم توفيها 

وقفت رباب وهي مبهورة كلياً بنبرة صوت هارون  

وبهدوء شديد تخشى خدش فقاعة حالمة نادرة الحدوث لأخوها

: حتى الأن 

انتبه هارون ودار فجأة ينظر لأخته بتشوش : نعم ماذا قلتِ

اقتربت منه ضاحكة وهي تربت على صدره موضع قلبه : حتى الأن النظر لوجهها يمنحك أمل بالحياة 

هز رأسه بهدوء يستوعب كلماتها ثم فجأة تركها لخارج الغرفة 

: أين تذهب يا هارون 

ضحك بمرح وهو يجري لشقة عمه : تعالي ستحبي ما سأفعله

دخل لشقة عمه وسلم على الجميع ثم  أمجد وهو يعصر على يده بقبضة قوية  جلبت الألم ليد الأخر وهو يأن بصوت خافت ثم جلس بجانبه دون الالتفات لأم الطبيب وأمه وكأنه يعاقبهم على شيء لا يفهمه قلبه..

بينما اعتماد شعرت بالقلق من عودته المبكرة من عمله بالرغم من حرصها على إخفاء الأمر عنه وكانت تريد إنهاء كل شيء... تريد أن تبعدها عن ابنها  فسكون هارون المريب من لحظة معرفته بمرض عمه القريب من قلبه أصابتها بالخوف ... فقد ترك سهراته مع أصدقائه وسفره الأسبوعي لهم ومعظم الوقت يشارك أبيه والباسمة برعاية حسن  ..

ثم تنهدت وهي تعدل حجابها وتبتسم بوجه أم أمجد بتوتر وهي تصبر نفسها أن اليوم كل شيء سيعود لوضعه الطبيعي  و ستزوج الباسمة  للطبيب فبمجرد ما سمعت رغبته بها حتى سارعت بالتواصل مع أمه وجذبها بكل الطرق لاتمام الزيجة حتى إنها كادت تسمع الترجي بلسان السيدة بعد أن عرفتها على إمتلاك الباسمة للمال والراتب الوظيفي وشقتين إحدهما هنا والأخرى بالعاصمة أي انها عروس كاملة حتى لو ينقصها حاسة السمع ..

قاطع أفكارها صوت هارون القوي 

: أعتذر لأني تأخرت ..

ثم نظر لوالده

: أين عمي 

: إنه بغرفته شعر ببعض التوعك 

همس بخفوت : شفاه الله وعافاه ..

ثم لمح بطرف عينه الباسمه تحمل صينية بها أكواب القهوة الساخنة فمد ساقه للحظة فاختل توازنها فوقف سريعاً ليساعدها قبل ان تسقط وهو يزيح الصينية من يدها بصورة مبالغ فيها ناحية امجد لتقع كل محتواياتها من أقداح  القهوة الساخنة عليه.. لينتفض من حرارتها  وأم أمجد برعب تساعده برفع بنطاله بعيداً عن جسده محاولة لتخفيف حرارتها عن ابنها وليزيد الأمر سوء برسالة واضحة لإهانته ورفضه  يحمل هارون قارورة ماء مثلجة كحل سريع ويغرق بها العريس من رأسه حتى قدمية .. تحت أنظار والده المتفكهة وغضب وإحمرار وجه اعتماد التي وقفت تساعد الطبيب وأمه ...

 بينما هارون يعود لمكانه واضعاً ساق على الأخرى شاغلاً نفسه بهاتفه وكأنه لم يفعل شيء ويلمح الباسمة التي تملكها الضحك تجري لغرفة عمه...

 لتجده كأنه بانتظارها 

 يتكئ على فراشه مغمض العينين وبمجرد دخولها : ما رأيك 

إقتربت منه وهي تضع يدها على جبينه بأناملها الباردة : كيف حالك الأن ..هل أصبحت أفضل 

أزاح يدها برفق وهو يجلسها بجانبه ويفتح عينيه : الحمد لله ..اجيبي على سؤالي 

همست له  : أنت تعرف رأي 

مرر يده على ظهرها بهدوء : ابنتي الغالية هذه المرة لا أوافقك الرأي أبداً ... 

أمجد شاب له مستقبل وإن كان على أمه فاتستطيعي بسهولة ان تسايريها 

أمالت شفتيها ببسمه ساخرة : نعم مثل ما استطاعت أمي أن تساير جدتي 

عنفها حسن : لا تكوني وقحة 

نظرت له برفق : أبي نفس هذا الطريق مشينا فيه سابقاً حتى انتهى بي الأمر أن أخسر من عمري ثلاثة أعوام مع أحمد فلا تعيدها أرجوك .. لماذا تعتقد إني بحاجة إلى خانة ذكوريه تلي اسمي كأن يقولوا زوجة فلان   ..أنا انسانه تعودت أن تكون مسئولة عن قرارتها ولي عملي الخاص لماذا تريد وضعي بخانة قليلات الحيلة ..لماذا 

: لأن مخك أصغر من أن يدرك إنكِ  ستكوني مطمع  لكل رجل دنئ ..

لن تفعلي بي ذلك أنا أعرفك لن تجعليني أفارق الدنيا وبقلبي حرقة عليكِ 

أدمعت عينيها وهي تبلع غصه عند ذكره الموت هكذا بكل بساطه أمامها : ما كنت اعتقد بحياتي إنك ستجعلني أوافق على زوج أنت نفسك ترفضه ..

أبي انظر لي ..إنها أنا 

: ولأني أعرفك اكثر من أي أحد واعرف كم أنتِ هشة من داخلك أفعل ما أفعله..لا تخدعني ثقتك ولا بسمتك التي تقابلي بها الناس 

عقدت ما بين حاجبيها : لأني أمامك أظهر ما بقلبي ولا ارتدي قناع القوة .... ألم تكن دائماً تشجعني أن أكون معك واضحة مفهومة بدون أقنعة 

أغمض عينيه بتعب : أقبلي بالطبيب أمجد 

: ليس قبل أن تبدأ بالعلاج الإشعاعي كما نبه الطبيب 

يمسك رأسه بكلتا يديه : ناوليني الحبوب المسكنة 

ناولته العلاج المسكن سريعا ثم همست ببكاء : أبي 

أغمض عينيه وأراح رأسه للخلف وبهدوء : لا تخافي حبيبتي ..سأصبح افضل بعد قليل أتركيني وحدي 

يريدها أن تخرج حتى لا تراه بنوبة صداعه الفتاك الذي يكاد من قوته يسكت قلبه

ظلت تبكي بصمت جانبه حتى سمعت همسه 

: هيا يا باسمتي 

حينها قبلت يديه وجبينه ثم  اندفعت لخارج الغرفة عندما لم تستطع كبت دموعها أكثر من ذلك   لتصطدم بطريق اندفاعها بهارون الذي كان بطريقة للإطمئنان على عمه  فأمسكها من كتفيها  ليثبت أقدامها التي أصبحت هشة وهي تبكي بطريقة أربكته وألمته بنفس الوقت هامساً لها 

: أرجوكِ إهدئي ..أرجوكِ 

: ظلت واقفة بين يديه فترة حتى أفاقتها همساته المهدئة  فوقفت باستقامة وابعدت نفسها بهدوء و تقابلت أعينهم بنظرة صمت وقلق من ناحيته  وتفكير من ناحيتها وإدراك يعقبه تصميم فمسحت دموعها بظهر يديها وهي تتلفت حولها 

: أين الجميع 

: نزلوا مع أمجد ووالدته  

همست : أفضل 

ثم نظرت له قليلاً :هارون أريد محادثتك على انفراد 

: بالطبع 

مدت يدها بإشارة أن يتبعها لغرفة معيشة جانبية  

: تفضل 

جلس هارون على مقعد وبالمقابل جلست الباسمة ظلت  فترة وهي تحاول ترتيب الكلام 

فكانت تحت أنظاره مرة تهز رأسها ومرة تعدل حجابها ومرة تضع يديها على وجهها تداري وجهها الفاتن منه ..

لم يتحمل كل مظاهر القلق على وجهها فهتف بهدوء: باسمة أنا اسمعك يا ابنة عمي ..أرجوكِ تحدثي لقد توجست خيفة من هذا الصمت..

لم تستطع أن تنطقها ولكن يدها أرادت المساعدة فانطلقت تشير له وهي تذم شفتيها بصراع بينهما فلا تستطيع  ترجمة ما تخبره بها يديها ..كيف تقولها وهل بعد قولها ستكون قادرة على النظر بعينه أم ستريد بعدها ان تنشق الأرض لتبتلعها كما تبتلعها أحزانها الأن بسبب مرض والدها ...

فوجئ بها تتحدث بطلاقة ولكن بلغة الاشارة وكأنها تلبسها جني تحرك أصابعها بحركات منظمة شديدة الرقة وكأنها تقود اوركسترا عالمية دون ان تخطئ في النوتة هكذا حتى استيقظ من تمعنه بأصابعها إنه لا يستطيع فهمها فأغمض عينه بصبر ثم فتحها واشتد ظهره بحمائية لابنة عمه ونطق حروف اسمها بنبرة حانية ولكنها صارمة : الباسمة

اوقفها ندائه هكذا اسمها من بين ثغره يشعرها بالدفء والحماية  فتوقفت عما تفعله وأنزلت يديها بحضنها ناظرة للأرض بخجل ..

فابتسم هارون يطمأنها : انظري لي و إهدئي

امر استجابت له فوراً و همست بتردد : ..اعتذر ..هارون أوعدني إن ما تسمعه مني الأن سيكون سرنا

ضرب على صدرة بكفه اليمين بحمائية  ورد بقوة : أوعدك يا ابنة عمي .

: أبي يرفض العلاج

: أنا حاولت معه وأبي أيضاً لا أدري ما يفكر به

قاطعتة بإشارة من يدها  : أنا أعلم .. يرفض العلاج نهائيا حتى يطمئن علي ..بالله عليك كيف يفعلها ويضعني بهذا المأذق ..انت يا هارون أملي الوحيد وأمل أبي في تلقي العلاج .. 

:كيف .. 

:اعرف ..ما سأطلبة في عرفنا جرأة ولكنة في عرفي انقاذ ..هارون أنا لن أقف مقيدة بعادات وتقاليد واترك أبي الذي أصيب فجأة بتحجر الرأي ..

ثم صمتت قليلاً تفكر بأبيها ناظرة لغرفتة المغلقة على أفكاره الجديدة 

:لم أعد أعرفه ..كان يعطيني الحرية الكاملة في اتخاذ قراراتي ..

ثم نظرت لهارون الذي يعطيها كامل انتباهه 

:هل تصدق يا ابن عمي انه كان سيوافق على عريس عنده ابناء اكبرهم بسني فقط لانه يريد الاطمئنان علي لولا عمي كان فعلها ..هل تصدق ان كل من يأتي للإطمئنان عليه يطلب منه أن يبحث لي عن عريس 

عادت للأشارة بيدها و دموعها وشهقاتها منعتها من الإسترسال فترة تحت انظار هارون الغاضبة فأمسك بيدها التي تشير بها يحاول أن يجذب انتباها و تركيزها له فنظرت ليدها بين راحتي يديه الكبيرة كعصفور صغير مطمئن  فرفعت نظرها لها فوجدته يحثها على المتابعة 

فرفعت يديها تشير له بلغتها التي تعرفها وتعطيها الثقة وقت توترها يصاحبها تلك المرة ترجمتها : 

سأقول لك الحل الذي توصلت له ..حل سيرضي أبي ويمنحني الوقت فيبدأ علاجه ويعود لي أبي الذي أعرفه والذي كان يشجعني أن أسير بالحياة معتمدة على نفسي ... 

ثم توقف كل شيء وكانت فقط تسمع دقات قلبها برعب فأغلقت عينيها  وأطلقت جملتها دفعة واحدة  : أنا اطلب منك الزواج بي

ظل يتأملها فترة وعينه تدور عليها كأنها تتلمس الحقيقة ..حقيقة انها نطقت بطلبها الغريب من الزواج منه ...كثيرات أملن الإرتباط لكنه دائماً كان يملك القدرة على التملص والخداع ..وبالتدريب أصبح أكثر خبرة بالتخلص من الفتاة قبل أن تقدم على تلك الخطوة ...فبكثرة عشيقاته أصبح يحفظ المؤشرات ...الباسمة لم تكن عشيقة الباسمة ابنة عمه ... وابنة عمه لم يتخيل بحياته ان يساويها بهؤلاء .. 

تبدل موضع عينيه عليها وحتى ملامحه التي تحولت بالتدريج من الطبيعي للشاحب للمحمر بشدة الأن صدمها ثم اخافها فانكمشت على نفسها تعدل طيات ثوبها الوهمية وحجابها الذي لم يفقد موضعه وشفتيها التي تبللها بلسانها ترطب جفافها عند تلك اللحظة وقف وهرول للخارج ...

 تتبعته عين الباسمة التي توسعت من المفاجأة هاتفةً: 

هرب

ظلت مكانها تشعر كأن روحها سحبت والغريب إنها تخيلتها أمامها تنظر لها من علو تعاتبها من موقعها بنظرات خزي وخجل تقتلها بالتدريج ..

تناقشها بهدوء كي تتفهمها 

: صدقيني إنه كان الحل الأنسب ..هارون لم أخذه من زوجة أو من حب بالعكس فهو يهرب بعيداً عن أي تلميح بالزواج والاستقرار وأيضاً  كان يكاد يشعرني إني صديقه بالمعنى الحرفي ..فهو لم يوهمني يوماً إنه ينظر لي كأنثى جميلة حتى  فلماذا لا يقف الصديق مع صديقه لن أقول من أجل عمه ..

هل تنازلت ..هل سينظر لي الأن إني فتاة فقدت حيائها ..

بل هل قللت من فرصتي معه ان يحبني يوماً 

لترد عليها روحها التي فقدتها: لقد تنازلتِ 

والتنازل يبدأ بخطوة وأنتِ قطعت به أشواط ....

                          الفصل الخامس من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-